الأخبار اللبنانية

الراعي: اللبنانيون بحاجة ان يعيشوا الامن لا بالتراضي ولا تحت رحمة السلاح

دعا البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي المؤمنين والمشاركين في القداس واللبنانيين جميعا الى العيش بسلام مع الله والذات، ومع بعضنا البعض وتعزيز روح الاخاء والوحدة، ونبذ العداوة والانقسام”، لافتا الى “ان لبنان بحكم تكوينه ونسيجيه الاجتماعي المتنوع، يمتاز بانه وطن حوار، وان اللبنانيين محكومون بالحوار”، مشددا على “اهمية الحوار، لان اللبنانيين بحاجة الى حوار على الصعيد الوطني، حوار حقيقي ينهي الانقسام السياسي الذي يشطر البلاد الى شطرين متناقضين، وان يعيشوا الامن لا بالتراضي ولا تحت رحمة السلاح الذي هو خارج لسلطة الدولة”.

وسأل الراعي: “ايعقل ان لا يجلس المسؤولون السياسيون الى طاولة الحوار للبحث في الامور المصيرية؟ وناشد المثقفين ومعلمي الجامعات وذوي الاختصاصات الى تنظيم “ندوة دائمة للحوار الوطني تطرح المشاكل الوطنية وتساعد على تكوين راي عام موضوعي وسليم يوفر حلولا وثقافة وطنية للشعب اللبناني”.

وكان الراعي تراس قداس عيد “الدنح” اي الغطاس في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي عاونه فيه المطرانان بولس الصياح وسمير مظلوم، امين سر البطريرك المونسنيور نبيه الترس والقيم البطريركي العام المونسنيور جوزف البواري، في حضور قائمقام كسروان – الفتوح جوزف منصور، وفد من عائلة آل كلاسي، اعضاء من هيئة قضاء كسروان في التيار الوطني الحر ومنسقيه برئاسة جورج دغفل وعدد من المؤمنين .

العظة

بعد الانجيل المقدس، القى الراعي عظة بعنوان “لما اعتمد للشعب كله، اعتمد يسوع ايضا”، هذا نصها: “عيد الغطاس الذي تحتفل به الكنيسة اليوم هو تذكار معمودية يسوع في نهر الأردنّ على يد يوحنّا المعمدان، ونبارك فيه الماء بركة لبيوتنا وتذكاراً لمعموديتنا بالماء والروح. ويُسمّى أيضاً عيد الدنح، واللفظة سريانية تعني الظهور الإلهي. فساعة اعتماد يسوع ظهر الله الواحد والثالوث: الآب بالصوت، والابن يسوع المسيح الذي سمّاه الصوت “الابن الحبيب”، والروح القدس الذي نزل في صورة جسديّة مثل حمامة. لكن الظهور الإلهي الأول كان في الميلاد. ولذلك ما زالت الكنيستان الأرمنية والقبطيّة تُعيِّدان الميلاد والغطاس معًا، كما كانت العادة القديمة. فإنّنا نُهنّئهما بالعيد مع أخلص التمنّيات. يوجد رابط لاهوتي بين معمودية يسوع والظهور الإلهي الثالوثي. فكان الظهور الإلهي إعلاناً لألوهية يسوع وقدسيته البريئة من أي خطيئة شخصية، هو الذي مشى مع الخطأة لقبول معمودية يوحنا كعلامة للإقرار بحالة الخطيئة وللتوبة. “فلمّا اعتمد الشعب كلّه، اعتمد يسوع أيضاً. وفيما كان يصلّي، نزل عليه الروح القدس، وجاء صوت من السماء يقول: “أنت هو ابني الحبيب، بك رضيت” (لو3: 22).
2. إنّنا نرحّب بكم جميعاً، ونُحيّي بنوعٍ خاص عائلة آل كلاّسي وهيئة قضاء كسروان ومنسّقي التيار الوطني الحر. ونشكر الله على إنهاء ما كان عالقًا من أجل عودة أهالي بريح، واستكمال المصالحة في الجبل. إنّنا نهنّئكم جميعًا بعيد معمودية يسوع التي تذكّرنا بمعموديتنا، التي منها هويتنا المسيحية ورسالتنا. الهوية هي ولادتنا الثانية من الماء والروح، وقد جُعلنا خلقاً جديداً إذ صوّرنا الروح القدس على شبه المسيح، فدُعينا “مسيحيين”. بهذه الولادة الجديدة أصبحنا أعضاء في جسد المسيح الذي هو الكنيسة، ما يعني أنّ المسيح حاضر في المجتمع من خلالنا، نحن أعضاء جسده الروحيّين، ويواصل عمله الخلاصي بواسطتنا. كما تعني عضويتنا في جسد المسيح الالتزام بالشركة في بُعدَيها: العمودي أي الاتّحاد مع الله بالمسيح، والأفقي الوحدة بين جميع الناس. أمّا الرسالة فهي الشهادة لمحبة المسيح بالأفعال والمبادرات والمواقف.
3. الهوية والرسالة هما الشركة والشهادة، موضوع الإرشاد الرسولي الذي تسلّمناه من يد قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، أثناء زيارته التاريخية إلى لبنان في شهر أيلول الماضي، وعنوانه: “الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة”.
يؤكّد هذا الإرشاد الرسولي أنّ هوية الشركة تقتضي منا، نحن اللّبنانيين وأبناء هذا الشرق أن نعيش بسلام مع الله والذات ومع بعضنا البعض. وهذا يقتضي منّا الإرتداد إلى الله، من أجل أن نعيش الغفران والمصالحة في محيطنا الاجتماعي، فنصبح هكذا أبناء الله بحكم المعمودية ومسحة الميرون، وبالعيش في سلام مع الآخر المختلف بتواضع وصبر. وحدهم المتواضعون الودعاء ينعمون بوفرة السلام الذي لا يُسبر غوره، كما نقرأ في المزمور 37: 11. إنّ المسيح، الذي دشّن بميلاده حالة الشركة، قد أسّس الأخوّة الحقيقيّة بين الناس، التي تنبذ الانقسام والعداوة. كتب بولس الرسول: “المسيح هو سلامنا، فقد جعل من الجماعتَين، بعدما أحلّ السلام بينهما، إنساناً جديداً واحداً، وأصلح بينهما وبين الله إذ جعلهما جسداً واحداً بالصليب، وبه قضى على العداوة” (أفسس2: 14-16) (الإرشاد الرسولي، 10).
4. هذه هي ثقافتنا المسيحية، أن نعزّز روح الإخاء والوحدة، وننبذ العداوة والانقسام. ثقافة نعمل على تطبيقها، كرسالة يحتاج إليها مجتمعنا اللبناني ومجتمعاتنا في الشّرق الأوسط. إنّنا ندعو المسيحيّين، ولا سيّما الذين يتعاطون الشأن السياسي أن يعملوا بمقتضيات معموديتهم، بشجاعة ومن دون خوف من الناس، أو من التضحية ببعض المصالح الشخصية والفئوية التي تبقى صغيرة جدّاً أمام كبر نتائج المصالحة والتلاقي والحوار وتوطيد أواصر الشركة والوحدة. كيف يمكن أن أكون مسيحيّاً، وأعيش في حالة الانقسام والعداوة، أو أحرّض عليهما، أو لا أعمل على إصلاحهما؟
العمل السياسي هو “الطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحي في خدمة الآخرين”، على ما قال المكرّم البابا بولس السادس. فهو يقتضي الوحدة في حياة رجل السياسة بحيث يجمع بين الإيمان المسيحي والحياة، بين العلم والوحي الإلهي، ويتمّم واجباته الزمنية منقاداً لروح الإنجيل (شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان، ص 23).
5. إنّ يسوع المسيح، ابن الله القدّوس المجهول من الناس في ألوهيته، مشى مع الخطأة المعروفين نحو يوحنا المعمدان في نهر الاردن، ملتمساً معمودية التوبة، وهو لم يرتكب أي خطيئة. لكنّه فعل ذلك لكي يتضامن مع الخطأة ويحمل خطاياهم، ويتفهّمهم، ويحاورهم حوار الحقيقة والمحبة، من أجل أن يهديهم إلى نور الله الخلاصي، وسيموت على الصليب فدىً عنهم وعن البشرية الخاطئة. فكان الحوار بين السماء والأرض، بين الله والبشر بالظهور الإلهي الذي سمعناه في الإنجيل، وكانت الدعوة إلى الحوار مع الله والناس.
6. لقد أقام يسوع حوار الحقيقة والمحبة مع العديدين كما يروي الإنجيل. تحاور مع نيقوديمس رئيس اليهود الذي قصده ليلاً خوفاً من انتقاد الفريسيين وملامتهم. كان حوارًا وجدانيًّا إلتماسًا للحقيقة. فطلب نيقوديموس من يسوع التعليم الصحيح “لأنّ الله أرسله معلّماً”. فحاوره يسوع عن الولادة الثانية من الماء والروح من أجل الدخول في شركة مع الله والناس (يو3: 1-6).
تحاور مع زكا العشار الخاطي العمومي المعروف، الغارق في ثروته وظلمه، فدخل بيته وجلس إلى مائدته، مرتضياً انتقاد الفرّيسيين في الخارج وتذمّرهم. فكان حوار توبة كاملة بلغها زكّا، ما جعل يسوع يقول: “اليوم دخل الخلاص هذا البيت” (لو19: 9).
تحاور مع المرأة الكنعانية في نواحي صور، حواراً قاسياً وجارحاً ولكن بطوليًّا، إذ اندهش يسوع من إيمان هذه المرأة الوثنيّة التي أصرّت على أنّه قادر على شفاء ابنتها، فكان الشفاء(متى 15: 21-28 ).
تحاور مع السامرية على بئر يعقوب، حوارًا صبورًا بالرغم من أنَّ المرأة رفضت أن تسقيَه ماء من جرّتها بسبب العداوة بين السامريين واليهود. وبدأت الحوار معه بشيء من السخرية والكذب. لكنَّ يسوع واصل الحوار بصبر فأدّى إلى اكتشافها أنه هو النّبي والمسيح المنتظر، وراحت تشهد عنه أمام أهل السامرة، فتقاطروا إليه وآمن به الكثيرون.
تحاور مع الأعمى والأبرص، حوار رحمة وشفاء، وكلاهما منبوذان من المجتمع، فأدرك الأعمى أنّ يسوع يستطيع أن ينعم عليه بالنظر. فلمّا ناداه الأعمى: “يا ابن داود ارحمني”، سأله يسوع: “ماذا تريد أن أصنع لك”؟ فأجاب: “يا معلّم، أن أبصر”! فقال له “أبصرْ، وانفتحت عيناه وسار معه في طريق جديد” (مر10: 51-52). والأبرص التمس منه: “يا معلم، إن شئت فأنت قادر أن تشفيني”. فطهّره من برصه وأعاده إلى حياة الشركة مع الجماعة (مر1: 41).
7. ربُّنا يسوع المسيح يدعونا إلى حوار الحقيقة والمحبة، على مثاله فلنسمع له. فالحوار يؤدّي إلى الخلاص ممّا نعاني منه في الحياة الزوجية والعائلية، في الكنيسة والمجتمع، وفي الدولة وبين الشعوب والأمم. هذا الحوار لا يتمّ بالعنف والحرب والإرهاب، بل عبر الحوار بالفكر والقلب واللسان. عالم اليوم الذي أصبح مع العولمة والتقنيّات الإعلاميّة “قرية كبيرة”، أصبح في الواقع العكسي في مسافات نفسية بعيدة، وغير قادر على التخاطب وجهاً لوجه. إنّه لفي حاجة ماسّة إلى حوار الحقيقة والمحبة.
إنّ لبنان، بحكم تكوينه ونسيجه الاجتماعي المتنوّع، يمتاز بأنّه وطن الحوار في الأساس. ثمّة مقولة أصبحت “ثابتة لبنانية أن اللّبنانيين محكومون بالحوار”. وقد اختبرنا في الواقع أنّ حروب لبنان ودورات العنف، التي عرفناها في جيلنا، أثبتت أن لا بديل عن الحوار. وبسبب انقطاعه اليوم نحن مهدّدون بالعودة إليها، ونشهد في كلّ حال شللاً في الحياة السياسية والاقتصادية، وفي السياحة والتجارة، وتفشي الفساد والعنف والسلاح.
8. اللّبنانيون بحاجة إلى حوار على الصعيد الوطني. فمن حقّهم أن تقوم حكومة قادرة وفاعلة تبني الوحدة وتُحقّق المصالحة الوطنية، وأن يُوضع قانونٌ جديد للانتخابات عادلٌ ومنصف يضمن لهم حقّ الاقتراع الحرّ وانتخاب ممثِّليهم وإمكانيّة مساءلتهم ومحاسبتهم من دون أن يُفرضوا عليهم فرضاً. ومن حقّ اللّبنانيين أن ينتهي الانقسام السياسي الذي يشطر البلاد شطرَين متناقضَين يعطّلان وحدة اللبنانيين وشؤون البلاد العامّة، وأن تتأمّن لهم المخارج من الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة الخانقة، وتتوفر فرص العمل والعيش الكريم مع الحدّ من نزيف الهجرة. ومن حقّهم أن يعيشوا الأمن لا بالتراضي ولا تحت رحمة السلاح الثقيل والخفيف الذي هو خارج سلطة الدولة، بل أن يكون هذا السلاح محصوراً في الجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية الدستورية، التي وحدها تضمن الأمن الثابت والعادل. من حقّ اللبنانيين أن يفهموا حقيقة ما يجري في سوريا وبلدان الشّرق الأوسط من حرب وعنف وإرهاب وأسبابها وأهدافها، وأن يدركوا كيف يتحصّنون بوجه تداعياتها ويحافظون على ذواتهم ووحدتهم وعلى وطنهم ودوره ورسالته. ومن حقّهم أن يعرفوا كيف تجنّبهم الدولة المخاطر السياسية والأمنيّة والاجتماعيّة التي قد تنشأ من استقبال النازحين من سوريا، سوريّين وفلسطينيّين، بالمئات والألوف، مع استقبالهم استقبالاً إنسانياً وتضامنيّاً.
أيُعقل أن لا يجلس المسؤولون السياسيّون على طاولة الحوار التي يدعو إليها مرارًا وتكرارًا رئيس البلاد المؤتمن على الدستور ووحدة الوطن وهو رمزها(المادّة 49)، للبحث في كلّ هذه الأمور المصيريّة؟ فإذا كانوا عاجزين عن تلبية هذا الواجب الوطني الخطير، لاعتبارات شخصيّة نحن نتفهّمها، ولكن على أهميتها وخطورتها تبقى دون ما تنذر الأوضاع به من انهيار للوطن وإهمالٍ لشعبه وتركه لوحده في مهب الريح وقلب العاصفة.
فلا بدَّ في هذه الحالة من أن نوجّه الدعوة إلى المثقَّفين ومعلِّمي الجامعات وذوي الاختصاصات إلى تنظيم ندوة دائمة للحوار الوطني، على غرار الندوة اللّبنانية في بيروت التي راحت تطرح في الستّينات مواضيع سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة واجتماعيّة، ساعدت على تكوين رأي عام موضوعي وسليم، وتوفير ثقافة وطنية للشعب اللبناني. وقد شارك فيها نخبة من الشخصيات اللّبنانية والعربيّة والأجنبيّة. فكانت تلك الندوة التجربة الأولى في لبنان والعالم العربي لخوض مواضيع حيويّة حسّاسة. أجل ينبغي تنظيم مثل هذه “الندوة الدائمة”، لكي يأخذ الشعب اللبناني مصيره بيده، ويخرج من حالة التهميش والإهمال. من شأن هذه الندوة أن تطرح كلّ القضايا الوطنية الشائكة، لتنوير الرأي العام وحث المسؤولين السياسيين ورفض تقاعسهم.
9. نرفع صلاتنا اليوم إلى الله، في تذكار معموديّة يسوع والظهور الإلهي، من أجل المسيحيّين لكي يعيشوا مقتضيات معموديتهم، هوية ورسالة، “شركة وشهادة”؛ ومن أجل المسؤولين المدنيّين والسياسيّين لكي يمارسوا عملهم في خدمة الخير العام بتجرد وشفافية وإخلاص؛ ومن اجل اللّبنانيين لكي يحافظوا على وحدتهم ويعيشوا مزيداً من التضامن لمواجهة الأخطار المحدقة بهم، ويدعو إلى نبذ العنف والحرب في سوريا وحلّ أمورهم بالحوار والوفاق. أعطنا أيها المسيح الإله أن نقتدي بك ونسمع صوتك الداعي إلى مواصلة حوار الحقيقة والمحبة الذي بدأته ووضعت أسسه. ومعاً نرفع نشيد التسبيح للثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس، آمين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى