الأخبار العربية والدولية

الصراع في السودان بين الجذور والمخاطر والدور الإسرائيلي \ بكر أبوبكر[1]

ما حفّزني للكتابة بتوسع فيما يحصل في بلدنا السودان الجميل بتنوعه وشعبه هو ما كتبه الصحفي السوداني المعروف عثمان ميرغني في مقاله الهام المعنون: مخاطر الحياد في حرب السودان، إضافة لحوار طال بيني وبين الصحفي والكاتب الفلسطيني العروبي علي أبوحبله الذي رأى بإمكانية انهيار السودان فصلًا جديدًا من فصول التدمير للأمة. وما كان من مكالمتنا مع المحلل والمفكر الكبير د.محمد حمزة حول هذا الموضوع الهام.

ومن متابعة عن كثب لما يدور حاليًا في السودان بالحرب الدائرة بين الجيش السوداني، وقوات التدخل السريع شبه النظامية فإن رؤية الوضع بصورة أقرب يصبح ضرورة.

المقدمة: قراءة في المخاطر

كتب عثمان الميرغني في مقاله يقول:

أنه “من غير المعقول أن نساوي بين الجيش النظامي وبين قوات ميليشيا”

موضحًا الفرق بين الجيش وقوات الدعم السريع لأن الجيش: “غالبيته العظمى جيش مهني قومي لا يمكن دمغه بشعارات هُلامية لأنه مؤسسة عريقة، وجودها يحفظ أمن الدولة في محيط مضطرب، وكسرها يعني تهديداً بالغاً للأمن القومي السوداني والعربي.”

بينما قوات الدعم السريع تمثل: “ميليشيا قيادتها أسرية، وتكوينها عشائري في المقام الأول، وتخضع لنفوذ ومصالح وطموحات قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) ونائبه وشقيقه عبد الرحيم”.

وليطرح رأيه المثير حين قال: “سيتضح مع الوقت حجم التآمر الذي حدث في هذه الحرب والتخطيط المسبق لها، وأيّ جهات كانت ضالعة فيها سواء داخلية أو خارجية”.

ليخلص بالقول:”المهم الآن أن ينتصر الجيش في هذه المعركة، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال قبول أن تحكم السودان ميليشيا، أو أن تكسر قواته المسلحة. فالوضع الآن لا يحتمل وقوفاً على الحياد، والانحياز إلى جانب القوات المسلحة هو الوقوف إلى جانب حماية الوطن”.

ثم يضيف: “سقوط السودان في أي فوضى سيقود حتماً إلى انتقال بؤر «الإرهاب الهائم» إليه، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر على البلد ومحيطه.”

لقد طرح كلامًا هامًا وخطيرًا بحق وهو ما رأيت الإشارة اليه من عديد الكتاب وكذلك من حواري مع الكاتب علي أبوحبله ذو الأفق العروبي الجامع فكان من الضرورة أن نبدأ بالفهم أكثر.

السودان وحروبها الخمس الكبيرة

ذكرت التقارير المحتلفة أن السودان قد استهلك من عمره 57 عامًا من عمر السودانيين وضمن 4 حروب كبيرة تُمثل الحرب الجديدة بين الجنرالين االخامسة بينها

يُشار الى أن أكبر هذه الحروب وأكثرها تأثيراً هي حرب الجنوب السابق (استقل وانفصل في ختامها عام 2011)، وامتدت على مرحلتين من 1955 إلى 1972، ومن 1983 إلى 2005 (39 عاماً).

ودعني هنا أنقل عن التقارير توضيحًا لهذه الحروب القاسية[2]:

الحرب الأولى

انتهت بتوقيع اتفاقية أديس أبابا (عام 1972 وقررت اعطاء الحكم الذاتي للجنوب)، بين حكومة الرئيس الأسبق جعفر نميري والحركات المتمردة الجنوبية (أنانيا 2)[3]، وأدت إلى قتل وتشريد مئات الآلاف من السكان الأبرياء.

الحرب الثانية

كانت بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق وانتهت باتفاقية سلام عام 2005، (سميت اتفاق السلام الشامل، وأعطت الجنوب حكمًا ذاتيا واسعًا وتمثيلًا بالحكومة وتقاسمًا فيها، وقررت ضرورة إجراء استفتاء وهو الذي أدى للانفصال) قادت فيما بعد إلى خروج الجنوب من خريطة السودان ليصبح دولة مستقلة، منفصلة.

الحرب الثالثة

دارت رحاها في دارفور، من 2003 إلى 2010 بين الجيش الحكومي وحركات مسلحة في الإقليم، وتسببت في مقتل وتشريد الملايين من السكان، وانتهت باتفاقية الدوحة عام 2010.

الحرب الرابعة

بعد انفصال الجنوب عام 2010، خاضت الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، (أو ما يسمى بالجنوب الجديد)، بقيادة عبد العزيز الحلو ومالك عقار، حرباً ضد الحكومة المركزية، دامت 9 سنوات من عام 2011، انتهت بتوقيع اتفاقية جزئية مع عقار عام 2020، فيما بقي الحلو، متمترساً في مناطقه «المحررة» جنوب النيل الأزرق حتى الآن.

حروب كبيرة، وحروب صغيرة

حربا الجنوب انتهت بتقسيم السودان، وحرب دارفور أنهكت الدولة وظهرت الميليشيات المسلحة، وصار هناك أكثر من 8 جيوش في الدولة الواحدة (؟!) وشهدت هذه الفترة ميلاد قوات حرس الحدود، المعروفة شعبياً باسم قوات «الجنجويد» الشهيرة، نواة قوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو، الشهير بـ«حميدتي»، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس مجلس السيادة السوداني.

بين هذه الحروب الأربع الرئيسية، قامت حروب صغيرة دامت أياماً، مثل تمرد هاشم العطا 1972، عملية المرتزقة عام 1976، حرب الذراع الطويلة، التي قادتها حركة العدل والمساواة، بقيادة إبراهيم خليل 2008، التي دخلت حتى حدود أم درمان.

حروب دامت في مجملها 57 عاماً، قضت على الأخضر واليابس، وحوّلت السودان الذي كان يعد «سلة لغذاء العرب»، إلى بلد يقتاتُ قوته من الإعانات والمساعدات الدولية كأحد أفقر بلدان العالم.

الحرب الخامسة:

ونحن نقول أن الحرب الخامسة هذه مختلفة عما سبقها من حروب مدمرة أدت لانفصال وتمزق وافتراق كبير فهي اليوم حرب بين الجيش أي بين زملاء الحرب ضد الآخرين أنفسهم، أنها حرب الضباط الكبار “الجنرالات”، وهي الأخطر على السودان كما يشير المحللون لأنها خرجت من الإطار الجهوي أو الأيديولوجي السابق لتتخذ طبيعة شخصية ذاتية مصلحية من جهة داخل ذات المؤسسة التي خاضت الحروب السابقة، والتي قد تجر حين تطول الأبعاد القبلية العشائرية، وشهية الأطراف الإقليمية والدولية لانتزاع ما تستطيعه من ثروات السودان على حساب شعبه ودولته ووطنه، وتضر بدول الجوار.

بريطانيا جذر مشكلة السودان وجنوبه

يعود جذر الصراع بين الشمال السوداني وجنوبه لزمن بعيد حيث برز الدور البريطاني في تفجّر مشكلة الحرب الأهلية في جنوب السودان وما اتبعته من أساليب هدّامة للعمل على فصل الجنوب عن الشمال، ولا سيما ما يتعلق منها بدور البعثات التنصيرية وسياسة إضعاف الثقافة العربية وإحلال الموظفين الجنوبيين محل الشماليين ومنع التجار الشماليين من الوصول إلى الجنوب، وتأثير كل ذلك على استمرارية المشكلة. ما يذكرنا بفعل الاستعمار الانجليزي العنصري في كل أماكن تواجده حيث سياسة “فرّق تَسُد” وسياسة تأليب القوميات أو القبائل المختلفة أو الاديان أو الطوائف ضد بعضها البعض، كما حصل في الهند كمثال فاقع، وفي دول أخرى كثيرة، وكما حصل في حالتنا باستيراد أناس لا صلة لهم في فلسطين وتوطينهم ببلادنا لوضع عازل بشري بين شرق وغرب الأمة لتنشأ المسألة العربية الفلسطينية.

من المصادر الكثيرة التي اطلعنا عليها فلقد بنت بريطانيا الاستعمارية العنصرية سياستها في الجنوب السوداني على ركيزتين[4]:

تقليل الوجود الشمالي والعربي في الجنوب

وإضعاف الثقافة العربية والعمل على منع انتشار الإسلام هناك.

حيث عملت بريطانيا (منذ العام 1899م)[5] على منع انتشار الإسلام في جنوب السودان عن طريق إطلاق حرية العمل الديني للإرساليات التنصيرية بالمجتمع الجنوبي الوثني في حين خصّصت هذه الحرية في الشمال بميادين التعليم والخدمات الصحية.

وفي إطار تقليص الوجود العربي الإسلامي في المديريات الجنوبية وضع “اللورد لويد” “المندوب السامي” البريطاني في القاهرة عام 1929م توصياته على النحو التالي:

1- تشجيع الموظفين في المديريات الجنوبية على تعلم اللهجات المحلية، ونشر بعض المجموعات اللغوية.

2- محاربة اللغة العربية وتشجيع استخدام اللغة الإنجليزية بدلًا منها.

3- بذل الجهود لمواجهة الاحتياجات التعليمية المتزايدة في المديريات الجنوبية بتأسيس مدرسة أو مدرستين حكوميتين في مناطق بعينها، ويمكن تحديد هذه الاحتياجات بتدريب عدد مناسب من الصبيان للخدمة في الإدارات الحكومية. ويسمح في نفس الوقت لمدارس الإرساليات القائمة بالاستمرار في عملها.

وقد تم لاحقًا اختيار عدد من المجموعات اللغوية المحلية بالجنوب ووضع الكتب والمراجع بها. ليقرر وزير الخارجية الانجليزي بوضوح أن:”إنجلترا كدولة مسيحية لا يمكنها أن تشارك في سياسة تشجيع انتشار الإسلام بين شعب (يقصد جنوب السودان) يزيد على ثلاثة ملايين وثني”، فتم إقرار “فصل الزنوج عن الأراضي العربية” فيما أسموه اللامركزية.

من السرد السابق عن الدكتور يونان لبيب رزق يتضح أن تقسيم السودان هو مخطط استعماري في الأساس عمره أكثر من 100 سنة، وأن الاستعمار البريطاني[6] نفّذ هذا المخطط علي عدة مراحل كما امتدت من عام 1899 حتي مرحلة الحصاد المر 1955 والتي كان من نتائجها اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب، ليشير الدكتور في كتابه قائلًا: وهو نفس ما تقوم به الولايات المتحدة الامريكية الآن في العراق حيث تهدف الي زرع الفتنة الطائفية وتقسيم البلاد.

حروب الشمال-الجنوب والانفصال

في صراع الجنوب-الشمال السوداني الذي أدى لانفصال الجنوب بدولة خاصة (عام2011م)، تداخلت الأجندات الإقليمية والخارجية (بالأساس الاستعمار الانجليزي ثم ورثته) مع المصالح للأطراف المتحاربة معًا خاصة فيما يتعلق بالأراضي من جهة، وصراع الأيديولوجيات أواستخدامها من قبل السلطة (محاولة فرض هوية إسلامية وعربية منذ الاستقلال عام 1956م حسب المتمردين بالجنوب)، وصراع القبائل والقادة والنفوذ بالإضافة الى النفط.
ومما لا شك فيه أن العوامل الخارجية كان لها كبير الأثر على التحول من الحكم الذاتي الى الإنفصال الذي كان للاحتلال الصهيوني دورًا بارزًا فيه، وتجلّى علانية بالدعم اللاحق الذي قدمته الدولة الصهيونية للدولة الجديدة.

لقد أدت هذه الحرب الشرسة الطويلة بين الشمال (الدولة) ومنظمات الجنوب الى مقتل 2 مليون شخص وتهجير4 ملايين شخص ما لم يغني عن خوض دولة الجنوب لاحقًا لحربها الداخلية (بعد الانفصال عن الشمال) أو ما تسمى الحرب الأهلية الجنوبية السودانية عام 2013م، لأسباب عرقية-قبلية إثنية.
من المهم أن نعرف أن دولة جنوب السودان تتشكل اليوم من عشر ولايات تقع في أقصى جنوب السودان، وهي أرض عشبية شاسعة ومستنقعات وغابات مطيرة استوائية تمتد على ضفتي النيل الأبيض. وتتسم تلك الولايات بالتنوع العرقي واللغوي، ومن بين أكبر المجموعات العرقية هناك الدينكا والنوير والشلك. وتبلغ مساحة دولة جنوب السودان نحو 620 ألف كيلومتر مربع، ويتراوح عدد سكانها بين 7.5 مليون و10 ملايين شخص[7]. وتعد اللغتان الإنجليزية والعربية رسميتان، ومن الممكن الإشارة الى أنه تنتشر بين سكان الجنوب لهجات متعددة يصل عددها إلى 12 لهجة وإن كانت اللغة العربية “المحلية” التي تُنطق بلكنة إفريقية هي اللغة التي يعرفها أغلب السكان تقريبا.
الإسرائيلي وتحقيق حلم الانفصال
تقول الكاتبة د.هبة جمال الدين[8] “أصدر جهاز الموساد الإسرائيلي كتابا يفتخر خلاله بما أسماه “الانتصار الإسرائيلي” في انفصال جنوب السودان عن دولة السودان. وتضمن الكتاب ملامح وابعاد الدور الإسرائيلي وأبرز الأدوات التي استخدمتها “إسرائيل” في انفصال جنوب السودان التي بدأت من ثلاثينيات القرن الماضي” بدءا بالغذاء وصولًا للتسليح والدعم العسكري، وتضيف أن ” حركة أنيانيا الانفصالية قد تمّت بفضل ثلاثة ضباط من الموساد الإسرائيلي منهم “إيلي كوهين” المستشار السياسي للانفصاليين.” ومشيرة الى إنشاء الصهاينة “مدرسة لتخريج الكوادر العسكرية لقيادة فصائل التمرد واشتركت عناصر إسرائيلية في المعارك” كما مدت “إسرائيل” “جون جرانج” بأسلحة متطورة ودرّبت ودعمت وموّلت، وفي عام 2003 كشفت “إسرائيل” عن دور يهود الفلاشا في الصراع”.
لقد كانت “المهمة الموكلة لجهاز الموساد هي بناء جيش جنوبي يعمل على استنزاف الجيش السوداني في الشمال، ويشغله عن التحالف مع الجيش المصري لمواجهة “إسرائيل”، وقد جاء الطلب بداية من المتمردين في جنوب السودان، وتقدم قائدهم بطلب مساعدة من “إسرائيل” “، وذلك كما يذكررئيس طاقم الجهاز آنذاك الجنرال “ديفيد بن عوزيئيل”[9] الذي أصدر كتابه حول يومياته هناك مضيفًا أي “بن عوزيئيل” أنه وهكذا تحقق الحلم الإسرائيلي”. حيث استطاعت الحرب أن تنجز هدفا سياسيا. في إشارة لانفصال جنوب السودان عن شماله لاحقًا”.
ويختم رئيس طاقم جهاز الموساد بالقول: “بعد أربعة عقود زرت جنوب السودان عام 2010، وتم استقبالي من قبل رئيس الدولة، الذي بدا لي ممتنًا على جهودي الكبيرة معهم في سنوات سابقة، ومنحني جواز سفر دبلوماسي وسفيرًا فوق العادة”.[10]
ومع عام 2011 أرسلت “إسرائيل” ممثلًا لها في مراسم استقلال جنوب السودان وكانت أول دولة اعترفت بجنوب السودان بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد يوم من اعلان استقلال الدولة.

يمكننا القول أنه مازال هناك صراعان رئيسان بين السودان وجنوب السودان يتعلّقان بالنفط والأراضي. فهما بلدان (أو بالحقيقة بلد واحد) يشتركان في مصدر رئيس للدخل، بالإضافة إلى خط أنابيب نفط واحد وميناء نفط واحد. حيث أن لهما أي للسودان وجنوب السودان مشكلة حول رسوم العبور. والصراع الثاني يتمحور حول المناطق الحدودية.
يمكننا القول أنه رغم انفصال الجنوب فمازال التداخل قائمًا والخلافات مستمرة ذات الصلة بالأراضي والاقطاعيات، وبالنفط، والمصالح الاقتصادية والمتعلقة بالنفوذ، عدا عن التداخلات العشائرية والارتباطات التنظيمية بمفاهيم العروبة والاسلام وما تؤثر فيه على مسار الاحداث في الشمال.
فضلًا عن تدخلات القوى العالمية ومنها الصهاينة الذين مازالوا واحدًا من اللاعبين الرئيسيين فيما يحصل داخل السودان! وما توضح في حرب الجنرالين لاحقًا.

مسلسل أزمات السودان المتواصلة
مرت السودان بعديد الحروب وعديد الأزمات منذ السعي الانجليزي الاستعماري لتدمير هذا البلد منذ عام 1899 حتى اعلان الاستقلال عام 1965 حيث أن بذور الازمات لم تنتهي ما بين شمال وجنوب من جهة، وما بين المكوّنات العرقية أو القبلية المختلفة سواء في الشمال أو الجنوب أو بتأثيراتهما مع بعضهما البعض، ثم ما كان من الصراعات المرتبطة بالجيش وحكم العسكر أو ما تعلق بالتنظيمات الإسلاموية ومحاولات فرض ما يسمونه الشريعة الإسلامية برأيهم.
الإطاحة بالنميري[11] وصراع الإسلامويين: تمت الاطاحة بحكم جعفر النميري عام 1985م، وسط انتفاضة شعبية شملت فئات الشعب المختلفة والنقابات والاتحادات العمالية والأحزاب. وأعلن وزير الدفاع آنذاك الفريق عبد الرحمن سوار الذهب انحياز القوات المسلحة إلى الشعب، وشكّل مجلسا عسكريا أعلى لإدارة مرحلة انتقالية تحت رئاسته، وحدّد مدة هذه الفترة بسنة واحدة. ونفذ ما قاله ربما لأول مرة في المحيط العربي في نادرة ديمقراطية نموذجية غير مسبوقة، ما أدى الى صعود رئيس حزب الأمة الصادق المهدي، بعد انتخابات جماهيرية شهدت صعودا غير مسبوق للتيار الإسلاموي، ثم ما كان بالعام 1989 حين قاد عمر حسن البشير انقلابًا ضد حكومة الصادق المهدي، بدعم من الجبهة الإسلامية القومية برئاسة حسن الترابي[12]، ليتولى منصب رئيس “مجلس قيادة” ما عرف بـ “ثورة الإنقاذ الوطني”، ويصبح حاكمًا للبلاد، والذي سرعان ما حلّ المجلس ليصبح رئيسًا للجمهورية، ثم ما كان من حلّه للبرلمان إثر الانقسام الاسلاموي بين أصدقاء الأمس ليصبح تنظيم إسلاموي بمواجهة آخربقيادة حسن الترابي. وبالعام 2004 تخوض الدولة الصراع في دارفورحتى 2010م، مع تواصل الصراع مع الجنوب (انفصل عام 2011م)
ويمكننا عرض تقرير مسلسل مختصر[13] لما بعد استقلال جنوب السودان عام 2011م كالتالي:
الاطاحة بالبشير: خروج احتجاجات شعبية للتنديد بارتفاع أسعار المواد الأساسية وندرة الكثير من السلع في الخرطوم وغيرها من المدن، منذ العام 2018م لتتحول بنهاية العام إلى مظاهرات حاشدة عبر أنحاء البلاد تطالب بإسقاط النظام.وعليه يقوم الرئيس البشير عام 2019 باعلان حالة الطوارئ ثم لاحقًا يقيل عددا من كبار المسؤولين الحكوميين والإقليميين، في محاولة لإنهاء المظاهرات المستمرّة منذ أسابيع والتي لقي خلالها نحو 40 شخصًا مصرعهم. فيقوم الجيش بالإطاحة بالبشير في انقلاب عسكري في أبريل/نيسان، ويبدأ محادثات مع المعارضة حول فترة انتقالية باتجاه التحول إلى الديمقراطية. وعبد الله حمدوك يتولى رئاسة حكومة جديدة ضمن اتفاق لتقاسم السلطة مدته ثلاث سنوات مع الجيش وممثلين عن المجتمع المدني وقادة الاحتجاجات.
انقلاب البرهان على حمدوك: في أكتوبر/تشرين الأول2021 – قامت قوات الأمن باعتقال حمدوك والعديد من القيادات المدنية، وذلك بعد أسابيع من تبادل الاتهامات بين القوى المدنية والعسكرية والإعلان عن محاولة انقلاب فاشلة. وقائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان يعلن حل الحكومة المدنية وغيرها من الهيئات الانتقالية. لتخرج لاحقًا المظاهرات الحاشدة ضد الانقلاب.
حربُ الضابطان الكبيران (الجنرالان): في أكتوبر/تشرين الأول 2022، – خرجت حشود ضخمة إلى الشوارع في ذكرى الانقلاب الأولى للبرهان، فيما اعتبر واحدة من أكبر المسيرات المناهضة للجيش. ثم في ديسمبر/كانون الثاني – وقّعت قوى مدنية اتفاقًا إطاريا مع الجيش لبدء عملية جديدة للانتقال السياسي مدتها عامان وتعيين حكومة مدنية. وعام 2023 تم تأجيل توقيع الاتفاق النهائي للمرحلة الانتقالية للمرة الثانية وسط خلافات حول ما إذا كان الجيش سيخضع لإشراف مدني، وحول خطط دمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية في الجيش. وما لحق ذلك بالعام ذاته من تحذير الجيش أن تعبئة قوات الدعم السريع داخل الخرطوم ومدن سودانية أخرى بدون تنسيق مع الجيش قد تؤدي إلى صراع مسلح بين الجهتين.
في 15 أبريل/نيسان عام 2023م: تم اندلاع اشتباكات بين قوات الجيش الرسمية وقوات الدعم السريع (ما يشبه المليشيا) في الخرطوم وبعض المدن الأخرى فيما أصبح الشرارة لحرب الضابطين الكبيرين.

الضابطان الكبيران (الجنرالان) وحربهما

تصاعد التوتر لشهور في العام 2022-2023م بين قوات الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” اللتين شاركتا في الإطاحة بحكومة حمدوك المدنية. وانفجر الخلاف بسبب خطة مدعومة دوليا لبدء عملية الانتقال لمرحلة سياسية جديدة مع الأطراف المدنية.

بموجب الخطة، كان يتعيّن على كل من الطرفين العسكريين التخلي عن السلطة واتضح أن هناك مسألتين مثيرتين للخلاف-ضمن مسائل أخرى- بشكل خاص.

الأولى هي الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع لحميدتي في القوات المسلحة النظامية للبرهان.

والثانية هي توقيت وضع الجيش رسميا تحت إشراف مدني.

وبكلام آخر فلقد اندلع القتال على خلفية تباين كبير بين القائدين العسكريين على طريقة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، علما بأن الآلاف من عناصر “الدعم” كانوا ضمن مجموعات متهمة بارتكاب تجاوزات عُرفت باسم “الجنجويد” شكّلها الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي أطاحه انقلاب عسكري في العام 2019.

وفق وثيقة “الاتفاق الإطاري”[14] يرى الجيش أنه يمكن أن يتم الاندماج في غضون عامين، بينما ترى تلك المليشيات أوالقوات أن ذلك يحتاج 10 سنوات، كما أن هناك خلافات بشأن السيطرة والتحكم والتي يرى الجيش أنها من مسؤولية قائده، بينما ترى “الدعم السريع” أنه يجب أن تكون من صلاحيات رئيس الوزراء المدني في الحكومة الانتقالية.

وحسب تقارير أخرى فإن الحقيقة تأتي من رفض حميدتي القاطع منذ فترة طويلة تنفيذ اتفاقية السلام الداخلية (الإطار) التي تقضي بحلّ مليشيا الدعم السريع التابعة له، وتسليم سلاحها للجيش السوداني.

أنظر المادة 10 في الاتفاق الإطاري التي تقول: التأكيد على جيش مهني قومي واحد ملتزم بالعقيدة العسكرية الموحدة وقائم بواجباته في حماية حدود الوطن والدفاع عن الحكم المدني الديمقراطي.

يذكر الكاتب السوداني محمد عثمان عوض الله بتوضيح أوسع[15] قائلًا: أن السبب الرئيسي للصراع العسكري الحالي (الذي بدأ في 15/4/2023م) بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) هو الاختلاف حول الاتفاق الإطاري للعملية السياسية. ومن أهم نقاط الاختلاف تبعية قوات الدعم السريع، لأن الاتفاق الإطاري ينص على تبعيتها لرئيس الوزراء المدني، وأن يتم دمجها في الجيش خلال 10 سنوات.

وعليه يعترض الجيش على هذه الفقرة؛ لأنها تعني وجود جيشين بقيادتين مختلفتين. أحدهما وهو الجيش القومي، يتبع القائد العام وهو عسكري، بينما الجيش الآخر هو قوات الدعم السريع، ويتبع رئيس الوزراء المدني. كما يطالب الجيش بأن يكون الدمج خلال سنتين وبتبعية قوات الدعم السريع إلى القائد العام منذ اليوم الأول من توقيع الاتفاق الإطاري.

بينما أراد البرهان أن تتم عملية الدمج خلال عامين، وتعتمد فيها معايير التجنيد في الجيش. من جهته، دفع دقلو (حميدتي) في اتجاه امتدادها لعشرة أعوام، على أن يحتفظ المقاتلون برتبهم بعد الدمج[16].

تقول المحللة السياسية رئيسة تحرير صحيفة «التغيير» السودانية رشا عوض حسب –صحيفة الشرق الأوسط- أن الحرب الحالية قامت لأسباب سياسية، ولا يمكن اختزالها في التحركات الأخيرة، ومَن الذي بدأ ومن الذي أطلق النار. فهي بكلامها “حرب خُطط لها بعناية من قبل فلول النظام السابق”. حيث تشير إلى وجود ميداني كبير لكتائب الظل الإسلاموية والأمن الشعبي والدفاع الشعبي وهيئة عمليات جهاز الأمن التي تتبع الحركة الإسلاموية (عناصر النظام السابق/نظام البشير).

فيما كتب “جاستن لينش” في “فورين بوليسي” أن: “ما عجّل في وقوع هذه الحرب في السودان هو اتفاق المصالحة وخطة إصلاح قطاع الأمن التي دفعت الولايات المتحدة وبعثة الأمم المتحدة في السودان باتجاهها. مباشرة بعد الانقلاب في عام 2021، وأعادت الولايات المتحدة والأمم المتحدة تنشيط الخطة”، التي أضاف أنها “خلقت ببساطة منافسة حفّزت حميدتي والبرهان على بناء قواتهما”.

من المفيد الإشارة هنا الى الاتفاق الإطاري الذي يتم الحديث عنه والذي وافق عليه البرهان وحميدتي بأشد العبارات فيما يتعلق بدمج قوات التدخل السريع بالجيش، يشتمل أيضًا على القضايا الخمس التي يجري التداول حولها في المرحلة النهائية من العملية السياسية، وهي العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسة العسكرية، وحل الأزمة في شرق السودان، وإكمال السلام وتفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير.[17]

على عكس سعي حميدتي الواضح ورفضه المطلق لحلّ مليشياته كما تقول معظم الأوساط السياسية ولأسباب تمسكه بنفوذه، ولمصالح تجارية كما يلمح الاتفاق الإطاري[18] فلقد أعلن جهرًا “التزامه بالاتفاق الإطاري التزاماً كاملاً لا لبس فيه، فهو يمثل نافذة أمل لشعبنا في هذا الوقت الحرج، وسنعمل أقصى جهدنا للإسراع بخطوات الوصول لاتفاق سياسي نهائي، يؤسس لسلطة مدنية تعبّر عن آمال وتطلعات الشعب السوداني، وتقود المرحلة الانتقالية حتى نصل لانتخابات حرة ونزيهة”.

أما البرهان على الرغم من تأكيده على الالتزام بالاتفاق، إلا أنه ظلّ يؤكد على أنه سيمضي فيه وفق رؤيته، وأن العملية السياسية لا يمكن أن تمضي من دون مشاركة جميع الأطراف[19].

بداية الحرب الحالية والهشاشة

عندما أعلنت قوى “الحرية والتغيير”[20]، التي تقود العملية السياسية، الجداول الزمنية لتوقيع “الاتفاق النهائي”، والوثيقة الدستورية، وتشكيل هياكل السلطة الانتقالي، وحدّدت الأول من أبريل (نيسان) الماضي موعداً لانطلاقتها، سخِر كثيرون من الخطوة، واعتبروها “كذبة أبريل”. كما يقول عيدروس عبد العزيز في تقريره لصحيفة الشرق الاوسط[21]

فمن الواضح أن بنود الاتفاق الإطاري لمن يطلع عليها تصطدم كليًا مع طموحات الجنرالين والمثار حول عمل الفريقين بالتجارة والاستثمار، وبعلاقاتهما الداخلية والخارجية المنفصلة والبعيدة عن القوى المدنية.

انطلقت الحرب من مدينة مروي الشمالية، إلى العاصمة الخرطوم، ودخلت مدناً أخرى، ويضيف العيدروس قائلًا: والآن يضع السودانيون أيديهم على قلوبهم خوفاً من تحول هذه الحرب إلى أهلية شاملة، خاصة أن التربة السودانية الخصبة تساعد على قيامها بشكل متزايد.

فانتشار الجيوش السودانية التابعة للجماعات المسلحة العائدة إلى البلاد بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وعددها يفوق الثمانية، موجودة داخل العاصمة وخارجها. وقد تسهم مع الانفلاتات الأمنية الحاصلة، والسلاح المنفلت في أيدي مجموعات صغيرة في المدن والأحياء، في توسع رقعة الحرب.

وليوضح أنه: بالنظر إلى حالة الهشاشة التي يعيشها السودان، في كل جوانب واقعه، فإن تطاول أمد النزاع المسلح الحالي يهدد بانزلاقه إلى حرب أهلية وفوضى شاملة.

والجدير بالذكر أنه “في عام 2021، عمل البرهان وحميدتي معا لإسقاط حكومة ضعيفة بقيادة مدنية-حكومة حمدوك، ووضعا نفسيهما في السلطة مع تأكيدات للمجتمع الدولي أنهما سيرعيان التحول الديمقراطي الذي بدأ بعد الإطاحة بالديكتاتور الحاكم لفترة طويلة عمر البشير عام 2019.

وبدلا من ذلك، فقد عزّز الاثنان مواقفهما، وأبقيا المجتمع المدني والمعسكر المؤيد للديمقراطية بعيدين (بالرغم من تعهدهما في كانون الأول/ ديسمبر بإعادة الحكم المدني في نهاية المطاف)، وأثريا نفسيهما وحلفائهما. ووصلت التوترات إلى ذروتها وسط خلافات حول كيف ومتى يتم دمج قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي في الجيش السوداني النظامي.

والآن، يتعهد الزعيمان بهزيمة بعضهما البعض بشكل كامل، مع مشاهد غير مسبوقة من العنف تجتاح الخرطوم.”[22]

حميدتي وقوات الدعم السريع.

“اقترفت عصابات “الجنجويد” جرائم فظيعة فى دارفور وكردفان مثل جرائم الحرب وقطع الطرق والقتل والنهب والاختطاف والاغتصاب والتعدى على المنازل والمزارع واختطاف الاطفال والنساء واتخاذهن كسبايا. وقد اصدرهم المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى فى ابريل سنة 2007، مذكرة اعتقال بحق زعيم الجنجويد على عبد الرحمن كوشيب، واتهمته بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية. ولما كثرت الإدانات على هذه العصابات الاجرامية قامت الحكومة السودانية بالحاقها باستخبارت حرس الحدود ثم بجهاز الامن فى وحدة تسمى “قوات الدعم السريع”[23]
جرى تشكيل قوات “الدعم السريع” عام 2013م لمساندة القوات الحكومية في قتالها ضد الحركات المسلحة المتمردة في إقليم دارفور (غرب)، وأيضًا لأداء مهامها في الدفاع عن البلاد في مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية وأي مهام أخرى يكلفها بها القائد العام.

وحسب موقعها أيضًا: المشاركة في توطيد وحماية السلام والأمن الدوليين (؟!) تنفيذًا للالتزامات الأخلاقية والمواثيق والمعاهدات الدولية والإقليمية، ثم تولت مهام منها مكافحة الهجرة غير النظامية على الحدود وحفظ الأمن قبل أن توصف من الجيش بأنها “متمردة” عقب اندلاع الاشتباكات.

وتشير التقارير على نطاق واسع الى أن مليشيا الدعم السريع (الجنجويد سابقًا) أنها الميليشيا المسؤولة عن جرائم حرب في دارفور، والمسؤولة عن تنفيذ مذابح خلال الانقلاب عام 2019. والى أن حميدتي يعد من الرجال الأغنياء في الدولة.[24]

وبقول آخر فإن “قوات الدعم السريع هي مليشيا شبه عسكرية مشكّلة ومكوّنة من مليشيات “الجنجويد” التي كانت تقاتل نيابة عن الحكومة السودانية خلال الحرب في دارفور. وتُدير قوات الدعم السريع من قِبل جهاز المخابرات والأمن الوطني وهذا الأخير يقبعُ تحت قيادة القوات المسلحة السودانية. وتأتمرُ قوات الدعم السريع بأمرِ محمد حمدان دقلو المعروف أيضًا باسمِ حميدتي الذي برزَ بعدَ سقوط نظام البشير وصارَ في وقتٍ لاحقٍ نائب رئيس المجلس العسكري الذي ينوي قيادة البلاد في الفترة الانتقاليّة. خلال الاحتجاجات السودانية في عام 2019؛ وبعدَ الانقلاب العسكري الذي نفذه الجيش والذي مكّنه من الوصول للسلطة؛ صارَ لقوات الدعم السريع صلاحيات أكبر ولعبت الدور الأبرز فِي القمع العنيف للمتظاهرين المؤيدين للديمقراطية. إلى جانب قوات الأمن الأخرى؛ نفذت قوات الدعم السريع مجزرة القيادة العامة في يونيو/حزيران 2019 والتي راحَ ضحيّتها أزيد من 100 شخص من المُعتصمين العُزّل في العاصِمة.”[25]

ولنا إطلالة من زاوية نظر الكاتب عثمان ميرغني عن هذه المليشيا كالتالي:

1-قوات الدعم السريع هي ميليشيا قيادتها أسرية، وتكوينها عشائري في المقام الأول، وتخضع لنفوذ ومصالح وطموحات قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) ونائبه وشقيقه عبد الرحيم. والذين يقولون إنهم يراهنون على حميدتي كمدافع عن الديمقراطية والحكم المدني ودولة القانون واهمون، ويغضون الطرف عمداً عن ماضيه الملطخ بالدماء من دارفور، حتى أحداث فض الاعتصام في الخرطوم.

2-الرجل ليست لديه مؤهلات ديمقراطية ولا عسكرية، كل همّه هو حماية مصالحه التي توسعت من نهب موارد البلاد، ونفوذه القائم كلياً على ميليشياته التي نمت حتى أصبحت قوة موازية للجيش، وطموحاته التي تضخّمت حتى بات يطمح لأن يكون الرجل الأول في البلاد والحاكم الفعلي.

3- يناور ويحاول الركوب على ورقة التحالف مع قوى مدنية لتحقيق أهدافه وطموحاته الخاصة بعدما تباينت المصالح بينه وبين الجيش ووصلت العلاقة إلى طريق مسدودة.

4- عندما تباينت المصالح والحسابات، بدأ يبحث عن تحالفات لإضعاف الجيش، وللالتفاف على مسألة دمج قواته في القوات المسلحة التي لم يكن يريدها، وإن صرح بغير ذلك إعلامياً، لأنها إن تمّت فستعني نهاية نفوذه وطموحاته (ومصالحه الاستثمارية).

5- ما حدث يوم السبت الماضي كان بوضوح محاولة انقلابية نفذتها قيادة قوات الدعم السريع وخططت لها جيداً، فجلبت مزيداً من قواتها ونشرتها في الخرطوم وحولها، واستأجرت منازل في مناطق متفرقة من العاصمة كمقار سرية.

6- سيتضح مع الوقت حجم التآمر الذي حدث في هذه الحرب والتخطيط المسبق لها، وأي جهات كانت ضالعة فيها سواء داخلية أو خارجية.[26]

يقول الكاتب السوداني محمد عثمان عوض الله: ان قوات الدعم السريع تتميز بالخفة وسرعة الحركة وبعد المعركة عن ثقلها القبلي كما تتميز بخبرتها في حرب العصابات، ولكنه ينظر إليها باعتبارها ميليشيا انتهت مشروعيتها بانتهاء أسباب تكوينها أيام الحرب.

ويشير تقرير صحيفة الغد: الى أن سيطرة “الدعم السريع” على مقاليد الحرب، سيكون له أيضاً تأثيره السلبي البالغ على اللحمة الوطنية، وستظهر تناقضات إثنية بين مجموعات ما يسمى بـ”أولاد البحر” و”أولاد الغرب”، أي أبناء الشمال والغرب. وهذه النزعة ستخلف أوضاعاً غير مستقرة.

الجيش الرسمي والبرهان

وفق قاعدة “ميليتاري بالانس بلاس” للبيانات العسكرية، والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (“آي آي أس أس”)، يقدّر عدد الجيش بمئة ألف عنصر، بينما تضم قوات الدعم 40 ألفا.

لكن بعض الخبراء يقدّرون عديد قوات الدعم بزهاء 100 ألف، الا أنهم يبقون التفوّق العددي قائما لصالح الجيش. وبعد زهاء أسبوع من المعارك الضارية، لا يبدو أن أي طرف حقّق تقدما ميدانيا ملحوظا على حساب الآخر. ويرى الباحث في الشؤون الإفريقية “أليكس دو فال” أن للطرفين “الحجم ذاته والقدرة القتالية ذاتها”.[27]

1- يشير الكاتب السوداني محمد عثمان عوض الله للجيش بقوله: إن أكبر ما يقوي ويدعم قوات الشعب المسلحة «جيش السودان» هو السند الشعبي الكامل.

2-مضيفًا: أنه قوات الجيش تتميز أيضاً بطبيعتها كقوة راسخة في عقيدتها ومبادئها وأخلاقها ومشروعيتها، وفي نظمها الفنية من طرق الانتشار والإمداد..

3- أن جيش السودان يمتلك بنية تحتية فائقة ومصانع متكاملة وشاملة تنتج كل ما تحتاجه، كما تتميز بخبرتها الطويلة الممتدة وبامتلاكها لسلاح الجو كقوة ضاربة وسلاح المدرعات والقاصفات والراجمات.[28]

4-“الجيش مهما قيل عن وجود ضباط من الإسلامويين في صفوفه، وهي حقيقة، فإنه في غالبيته العظمى جيش مهني قومي لا يمكن دمغه بشعارات هلامية مثل “الجيش جيش الكيزان (أي الإخوان)”. فهو مؤسسة عريقة، وجودها يحفظ أمن الدولة في محيط مضطرب، وكسرها يعني تهديداً بالغاً للأمن القومي السوداني والعربي”[29].

5- الإسلامويون كعادتهم كما يذكر ميرغني في مقاله بالشرق الاوسط “سارعوا إلى استغلال الوضع وركوب الموجة وكأنهم الجهة الوحيدة الداعمة للجيش، علماً بأن غالبية السودانيين تقف خلف الجيش في هذه المعركة، وهذه الغالبية ذاتها ترفض عودة النظام السابق، الذي عانت الويلات من حكمه”.[30]

التأثير الاقتصادي لحرب الجنرالين والانهيار

1-حسب التقارير[31]: يضاعف الصراع المسلح خفوت أي فرص للتعافي على المدى القريب بحسب تقدير الخبراء، خاصة وأن السودان منخرط في أزمات متلاحقة على مدار عقود، وصلت بالبطالة إلى حدود العشرين بالمئة.

2-وضعت الحرب نصف سكان البلاد في دائرة الفقر، رغم أن السودان ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، وتبلغ صادراته من المعدن الأصفر نحو ملياري دولار سنوياً، إلا أن عوامل منها الأزمات الاقتصادية والسياسية والظروف المناخية والصراعات أفقرت البلد الغني بالموارد.

3- يقول الخبير الاقتصادي السوداني، الدكتور وائل فهمي بدوي: أنّ افتراضات صندوق النقد الدولي لم تشمل توقع وقوع الحرب الحالية، في البلد الذي تتجاوز ديونه نحو 189 بالمئة من ناتجه المحلي.

4- ويستطرد: “لا يمكن للتضخم أن ينخفض خلال الفترة القادمة، بل سترتفع معدلاته، ولعدد من الشهور القادمة، وذلك في إطار معالجة الآثار السلبية للصراع المسلح الحالي على الحياة العامة”.

5-وجدير بالذكر إلى أن التضخم متغير انكماشي للنشاط الاقتصادي في حد ذاته، لأنه ضريبة غير مباشرة للدولة من ناحية، ويرفع تكاليف الإنتاج ومن ثم الأسعار التي تحدّ من الطلب على السلع بالأسواق.

6- تقول الباحثة الاقتصادية في جامعة الخرطوم، أسمهان إسماعيل، إنّ اندلاع الحرب في الوقت الحالي الذي يعرف بـ “زمن التحضير للموسم الزراعي القادم” سينعكس سلباً على توافر السلع المحلية.

8- الاحتجاجات والمظاهرات المتواصلة منذ أكتوبر 2021 أثرت سلباً على حركة البيع والشراء واستدامة الدخول للعمالة اليومية، مما أثقل كاهل المواطن السوداني وزاد معدل الفجوة الغذائية.

9- كما أوقف صندوق النقد الدولي تمويلاً بنحو 150 مليون دولار، بعد أن وافق في يونيو 2021 على برنامج قروض بقيمة 2.5 مليار دولار، وعلقت واشنطن مساعدات بقرابة 700 مليون دولار.

10- ونتيجة لذلك كله فقد الجنيه السوداني توازنه وتعرض لانهيار غير مسبوق ليصل بذلك الدولار إلى 447 جنيها، في مقابل 48 جنيهاً في العام 2018.

11- نحو 80 في المئة من السودانيين يعتمدون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على القطاع الزراعي، بشقيه النباتي والزراعي في دخلهم، والذي تأثر سلباً نتيجة لعدم الاستقرار الأمني بالبلاد.

12-أن الصراعات المتكررة بإقليم دارفور ومنطقة النيل الأزرق والتي تعد جميعها مناطق تعتمد على الزراعة وتحتاج إلى الاستقرار، جعلتها من أكثر المناطق الجغرافية جوعاً وحاجة للمساعدات.

ويمكننا القول أنه في ظل الحرب الجديدة التي ستؤدي الى الانهيار الاقتصادي الواضح فإن مظاهر الحرب ونتيجة الاشتباكات وفقدان الأمان في كل مكان قد تؤدي الى بداية تفكك الدولة السودانية حيث اضطرت العديد من المستشفيات إلى إغلاق أبوابها بسبب نقص الكهرباء والمياه والإمدادات الحيوية، أو تعرضها لنيران أسلحة ثقيلة.

وتنتشر مظاهر الجوع في الخرطوم إضافة لعمليات نهب المنازل. وتجبّر خليط المليشيات المحلية سواء بالسوق أو بالناس معًا ما سيؤدي لأزمة اقتصادية وانسانية خانقة.

مخططات تقسيم الأمة العربية ومنها السودان

من أبرز ماطُرح علنًا من المخططات التقسيمية كان مخطط الكاره للعرب والحاقد على الإسلام والمسلمين “برنارد لويس ليفي” المفكر الصهيوني الذي شغل منصب مستشار الرئيس الأمريكي بوش الأب وهو الذي نشر مخطط كامل لتقسيم كافة الأقطار العربية وبينها السودان.[32]

ومخطط “عوديد بينون” –الباحث الإسرائيلي- عام 1982 وكلاهما اتفقا على أن مستقبل السودان هو التقسيم. واقترح الأول تقسيمها لأربعة أقسام “دولة النوبة عاصمتها أسوان، دولة السودان في الوسط، دولة دارفور، ودولة جنوب السودان”. وعوديد كان لديه نفس السيناريو ولكن بدون دولة دارفور. ومع وجود مخططات التقسيم للأمة عامة فان المنطقة التي شهدت نجاح لتلك المخططات كانت السودان عبر انفصال جنوب السودان عن شماله بدعم الموساد الصهيوني وهو الذي بنى علاقة مع الصديقين اللدودين لاحقًا أي البرهان وحميدتي.

ولا يعني وجود المخططات أن تبنيها تلقائي من قبل الدول الغربية الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا وحليفتها بالمنطقة “إسرائيل”، وإنما يعني أن الفكرة أوالخيار قائم دومًا، وموضوع على طاولة القيادة، ويدلل على طريقة تفكير الغرب بمصير المنطقة التي ما إن يجدوا فيها ثغرة أوضعفًا أو ميلًا إلا ويستغلونها في مزيد من النهب للثروات الاقتصادية من جهة في مقابل مزيد من التدمير والتخريب للبلاد حتى على المستوى الثقافي والوطني والقومي، وإن كانت شعاراتهم الزائفة تلتف حول علم الديمقراطية الزائف أو حقوق الانسان.

التداخلات الإقليمية والدولية

مما لا شك فيه أن التداخلات الإقليمية الإيجابية أو السلبية الأشد، كثيرة في الشأن السوداني منذ ما قبل الاستقلال، ولعدد من الدول مصالح كثيرة في هذا البلد الغني بثرواته وحضارته.

ولكن الأيادي العابثة باستقرار البلد ووئامه وحضارته، والتي أدت لزرع بذور الحروب فيه كانت واضحة منذ الاحتلال البريطاني المريض بتفوقه الأبيض، ودوره كما أشرنا في الورقة وصولًا لعدد من المخططات الدولية الامريكية والإسرائيلية مما أشرنا لها أيضًا.

ودعنا أولًا نأخذ إطلالة على التدخلات الخارجية بعمومية حيث يقول المحلل السياسي رضوان خالد: أن صراع النفوذ بين البرهان والجيش من جهة، وحميدتي والدعم السريع من جهة أخرى، أخذ أبعاداً خطيرةً ذات طابع دولي، إذ يمتلك حميدتي علاقات وثيقةً بروسيا، وهو أمر يريد أن يوازنه البرهان بعلاقات مع “إسرائيل” والغرب.

قالت مصادر محلية في وقتٍ سابق، إن تشاد أبلغت البرهان في زيارته الأخيرة عن قلقها من انتشار قوات الدعم السريع في الشريط الحدودي بينها وبين السودان وإفريقيا الوسطى، شاكيةً من علاقات الدعم السريع ومرتزقة “فاغنر” الروس.

وتتهم تقارير إعلامية غربية، حميدتي بالضلوع في تهريب الذهب السوداني إلى روسيا، لتمويل غزوها أوكرانيا، كما كان حميدتي حاضراً في روسيا بالتزامن مع دخول جيوشها إلى أوكرانيا العام الماضي.[33]

وبالتركيز على التدخل الإسرائيلي فلقد أعطت المخططات الصهيونية في السودان أكُلها، حيث صرخ مندوب الموساد حين حصول الانفصال الجنوبي بقوله “لقد حققنا الحلم الإسرائيلي”!

لكن بعد الانفصال لم تهدأ الأوضاع فتواصل صراع الأخوة المدمّر، على مركب الأيديولوجية والحزبية حينًا، وعلى المدني مقابل العسكري حينًا آخر وصولًا لصراع الذات والنفوذ الشخصي والمصلحي.

سنحاول هنا أن نضيء على العلاقات الإسرائيلية- السودانية حيث اكتشفنا أن كلا طرفي الصراع الحالي أي حميدتي والبرهان أقاما علاقات حسنة مع الاحتلال الصهيوني!

ولم يكن حمدوك برافض لهذه العلاقة، حيث منعه الانقلاب من اقامتها،”إذ كان رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك يستعد للسفر من أجل التوقيع على اتفاق التطبيع مع “إسرائيل” لكن اعتقاله في انقلاب نفذه البرهان في 2021 أقصى بموجبه الشركاء المدنيين من الحكم، حال دون ذلك”[34]

فيما يشير حميدتي أن البشير ذاته الذي انقلب هو والبرهان عليه قد كلّمه بشأن إقامة العلاقات مع الكيان الصهيوني!

إن تصارع كل مكونات السلطة الحاكمة على خطب ودّ الكيان الإسرائيلي تضعهم جميعًا في مربع واحد في نظرتنا لهم، إلا إن أردنا التفصيل كم لهذا أو ذاك من حظوة عند الجهاز الصهيوني الفلاني أو ذاك عند الجهاز الآخر في صراع اليوم المدمر الذي في حقيقته على النفوذ الشخصي والأموال والامتيازات والسلطة وكما يظهر من تحوطات الاتفاق الإطاري الهامة.

الكيان الصهيوني وافريقيا والسودان

في دراسة هامة للكاتب عبدالغني سلامة[35] منشورة لدى مركز الأبحاث الفلسطيني يذكر عن العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، ومع السودان ما نوجزه بالتالي

1- بدأ مخطط التسلل الإسرائيلي إلى أفريقيا منذ وقت مبكر بعد تأسيس الدولة العبرية، مستخدمة الأسطورة التوراتية وخرافة “شعب الله المختار” تارة، والوعود بتقديم المساعدات تارة أخرى، مستغلةً فَقر القارة الإفريقية وافتقارها إلى النظم التقانية والعلمية الحديثة.

2-كان يظهر الوجه الحقيقي لدوافع هذه السياسة بسعيها للسيطرة على المواقع الحيوية وإقامة محطات للتجسس، وإثارة الفتن والقلاقل، وتشجيع نزعات الانفصال وصفقات السلاح وتجارة الماس المشبوهة.

3-كانت بداية التسلل من غرب القارة[36]، ثم امتد لوسطها وانتقل إلى شرقها، خاصة بعد فتح خليج العقبة أمام الملاحة “الإسرائيلية” عام 1957، والذي استفادت منه “إسرائيل” في تسيير خطوط ملاحية بحرية منظمة ربطتها بإفريقيا وآسيا.

4-في الفترة من العام 1963 وحتى 1967، ركزت “إسرائيل” على منطقتي القرن الإفريقي والبحر الأحمر باعتبارهما المخرج الجنوبي الوحيد لها الذي يصلها بجنوب وشرق الكرة الأرضية، وباعتبارها منطقة استراتيجية من الناحية الأمنية والعسكرية والاقتصادية؛ فسعت “إسرائيل” إلى إيجاد نفوذ لها على طول الساحل عبر علاقتها المتميزة مع أثيوبيا في زمن “هيلاسيلاسي”، (عندما كانت تحتل أرتيريا). وبالفعل نجحت في إنشاء مراكز عسكرية لها في جزر فاطمة ودهلك وحالب على الساحل الإرتيري، حيث احتفظت بمراكز رصد معلومات وقوات كوماندوز وقطع بحرية صغيرة على تلك الجزر.

5-في المجال الاقتصادي كان الهدف الإسرائيلي الأساسي هو اقتناص الأسواق الإفريقية الواسعة، والأقرب إلى “إسرائيل”. وعمدت إلى افتتاح مكاتب تجارية وإنشاء شركات في إفريقيا في الصناعات الزراعية، وإقامة مزارع للدواجن والماشية، وإنشاء مراكز التدريب والإرشاد الزراعي، وشركات للنقل البحري. وفي هذا الصدد تُعد تجارة الماس والأسلحة والخدمات الأمنية من أهم الاستثمارات الإسرائيلية في إفريقيا.

6-كان لمصر والسودان النصيب الأكبر في الاستراتيجيات الإسرائيلية؛ والسودان لموقعه وثرواته وإمكاناته، حيث أن حدوده هي حدود العروبة في قلب إفريقيا[37]، وإمكاناته هي إمكانات الأمة جمعاء، وتقدمه يعني تقدمها وضعفه هو ضعفها، فهو سلة الغذاء العربي، وهو مجرى النيل، وفيه أخصب أراضي العالم، وطالما أنه مشغول بالمجاعات والحروب الأهلية ومشاريع الانفصال فلن تقوم له وبالتالي للأمة قائمة، وقد ظهرت أدلة متزايدة تؤكد أن المطالبة بفصل جنوبه عن شماله كانت تأتي في سياق مخطط أميركي إسرائيلي يهدف إلى إتباع تكتيك مختلف في الحرب على المنطقة العربية؛ أي بتقسيم الدول العربية وتجزئتها بدلا من خوض الحروب التقليدية معها، بحيث يسهل على أمريكا التحكم بتلك الدول ونهب ثرواتها، ويسهل على “إسرائيل” فرض هيمنتها عليها.

7-في السودان كان الهدف الأميركي واضحًا: السيطرة على مواقع استراتيجية جديدة في القارة الإفريقية، واستغلال مواردها الطبيعية، وتحديداً النفط؛ وقد أشار وزير الأمن الإسرائيلي، “آفي ديختر”[38] في محاضرة نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن “لدى إسرائيل موقفا استراتيجيا ثابتا تجاه السودان، يهدف إلى حرمانه من أن يصبح دولة مهمة بالمنطقة”. وكانت “جولدا مائير” قد أكدت بعد نكسة حزيران 1967م، أن تقويض الأوضاع بالسودان والعراق يقتضي استغلال النعرات العرقية فيهما؛ ما يعني أن استهداف وحدة البلدين -من وجهة نظرها- سيجعل العمق الاستراتيجي لدول المواجهة العربية مكشوفا في أية حرب مع “إسرائيل”.

8-ولا شك أن موطئ القدم الذي تسعى له الدوائر المعادية في دولة “السودان الجنوبي” يعني التحكم في مجرى النيل، وبالتالي وقوع مصر والسودان في القبضة المتحكمة فيه، وهي على الأكثر أمريكا و”إسرائيل”، وهذا يعني تهديد أمنهما القومي في عصب الحياة وشريانها الأهم، بكل ما يعنيه من مياه للشرب والري والصناعة والزراعة والطاقة الكهربائية.

9-في الثامن من يوليو/تموز 2016، كان رئيسُ الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو يُنهي جولةً إفريقيّةً استثنائيّةً شمِلَت كينيا وأوغندا وإثيوبيا ورواندا. كانت تلك الجولة الأولى من نوعها لرئيس وزراءٍ إسرائيليّ بعد سنواتٍ طويلةٍ من العلاقة الفاترة بين القارة الإفريقيّة ودولة الاحتلال.

10-لدى “إسرائيل” حاليًّا علاقات دبلوماسية مع 46 من 55 دولة عضوًا في الاتحاد الإفريقي. والقرار الأخير من قبل الاتحاد الإفريقي بمنح “إسرائيل” صفة مراقب لم يكن سوى خطوة جديدة لتلميع صورتها ومحاولة لتعزيز علاقاتها مع القارة مرة أخرى.[39]

ما الذي يريده الكيان الصهيوني من السودان؟ أو لنقل من أي دولة عربية، قد يبدو الرد واضحًا فيما طرحه الباحث عبدالغني سلامة أعلاه، وقد يراه الكثير منا الى ما سبق سعيًا لجرّالأمة للمستنقع الصهيوني عبر “التتبيع” كهدف كبير، تمزق به شمل الأمة من حول القضية المركزية قضية فلسطين.

إن الهدف الصهيوني الأسمى أيضًا هو تنفتيت الأمة (العربية والاسلامية) وتدمير جيشها كليًا، وتدمير مقدراتها الزراعية والاقتصادية والفكرية والصناعية والتقانية، واختراق حضارتها المتميزة، وتكبيل اقتصاداتها والطعن في روايتها الحضارية الجامعة هي كلها وغيرها ما يتقاطع مع محاربة اللغة العربية والانتشار للفكر النضالي الجهادي الثائر ضد الظلم والاحتلال و”الأبارتهايد” وحدة واحدة.

فحيث ابتعد العربُ عن القضية المركزية الجامعة قضية فلسطين، وحيث ابتعدوا عن القيم الثقافية والحضارية الجامعة والمميزة للأمة، وحيث استقر الشقاق والخلاف بين العرب عوضًا عما سبق، وداخل كل دولة، تصبح القبضة الاستعمارية والرأسمالية المتوحشة والدولة الصهيونية و”الموساد” الإسرائيلي خاصة قد حققت مطالبها التي لا تنكرها، كما لم يُنكرها رؤوساء الوزارة الإسرائيلية المتعاقبين على رأس الكيان.

إن الذي تريده “إسرائيل” من السودان اليوم هو -فيما ننظر له من زاوية رؤية الكيان برأينا مما يحصل اليوم في السودان، وتواصل استهدافه- كالتالي:

1-الدولة الديمقراطية الوحيدة: تخادع آلة الاعلام الصهيونية العالم والمتحاربين في دعوتها لاجتماع الرجلين المتصارعين، في داخل الكيان! وكأن هذا الكيان الاحتلالي الاحلالي “الأبارتهايدي” واحة الديمقراطية كما تدعي في منطقة الاضطراب بالشرق الاوسط. فتواصل بذلك عملية تغطية وجهها بالمساحيق.

2-إضعاف واستقطاب: يريد الإسرائيلي أن يُخرِج السودان تماماً من الفلك المعادي لها، وإن كانت بالحقيقة هي المعادية للحقيقة والعدالة، وأن يصبح بلداً ضعيفاً يمكن أن تعمل فيه وفق مصالحها الخاصة بكل أريحية.

3- محرّك للصراع: ربما تكون “إسرائيل”، مثلها مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، جزءاً من هذا الصراع، أو جزءاً من تحريكه. ليس هناك أمر بريء في دولة لديها سفارة أميركية أو تقيم علاقات مع “إسرائيل”. كما يقول المحلل السياسي في فضائية الميادين عبدالرحمن نصار.

4- مصلحة “إسرائيل” إضعاف السودان وتفكيكه: “إسرائيل” لديها علاقات قوية مع إثيوبيا، فمصالح الإثيوبيين تتعارض مع مصالح السودان وتتقاطع مع “إسرائيل”، التي من مصلحتها أيضاً أن تظهر نفسها في مظهر المنقذ والمُصلح والطرف “الذي سيحمل الخير للسودان!”.

5-العبث بجميع الأطراف: حيث أنها حسب المحلل عبدالرحمن نصار”في وقت الحروب، تُمرّرسلاحاً ومعلومات استخبارية للطرفين.أما في السلم، فهي تأتي بمشاريع واستثمارات مختلفة كالأعمال الزراعية، وتستفيد من اليورانيوم، لأنّ ملف اليورانيوم مهم لديها، ولا سيّما في أفريقيا، ضمن مجموعة أخرى من الأطماع”.

6-التطبيع مع الأقوى: يشير المحلل السياسي د.ثابت العمور لمصلحة الاحتلال من حيث أنه الصراع الحالي في السودان ربما يفضي إلى “ظهور قادة سودانيين جُدُد في المشهد، وبالتالي العودة إلى تمرير التطبيع-التتبيع من جديد”.

7-تعويض الاتفاق السعودي-الإيراني: ووفق نصار فإن “إسرائيل” لا ترغب في تأخير التطبيع مع السودان، وخصوصاً بعد الخسائر السياسية التي شهدتها في الفترة الأخيرة، من ضمنها الاتفاق السعودي الإيراني. لذلك، كانوا معنيين بتعويضها في دول عدّة.

8-يجب ألا تفلت الامور من أيديهم:”اليوم، انتقلت التوجهات الإسرائيلية نحو النيجر وموريتانيا لانشغال السودان بالصراع الداخلي، لكن هذا الملف لم يعد فعّالاً كما كان في السابق، فالمهم بالنسبة إلى الإسرائيليين هو ألا تفلت الأمور في السودان إلى حدٍ لا يستطيع أحد السيطرة عليه، فيصبح البلد ساحة غير آمنة للعمل”. حسب المحلل السياسي عبدالرحمن نصار. لذا فالعلاقات الإسرائيلية مع المكوّنات السياسية، ومع العسكرية ستتواصل وبقوة.

9- مصلحة سياسية آنية: التطبيع بين السودان و”إسرائيل” يبدو حالياً حاجةً ل”نتنياهو” الذي يغرق في أزماتٍ داخلية تعصف بحكومته وبكيان الاحتلال، ويريد إنجازاً لتقديمه للرأي العام الإسرائيلي.

10-الاختراق الأسود، ومواجهة القوى الأخرى: يشكل التطبيع-التتبيع في السودان اختراقًا للقارة الأفريقية ما يؤمن موضع قدم للاحتلال الإسرائيلي في منطقة إستراتيجية مهمة جداً تضمن تمدّداً إسرائيلياً في أفريقيا، خاصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى