المقالات

“الأرض ليست ملكاً لنا” لميشال عقل – بقلم هنري عيد

مع قراءتي كتاب المهندس ميشال عقل: “الارض ليست ملكاً لنا”¶ لَمَسَت روحي فيه إستكانةً وطمأنينة، في زمن يئس الناس فيه من الكلام، السياسي منه خاصة؛ حيث أصبحت الدنيا ظلماً ورياء، وتحزُبات وتكتلات يهيم بعضها في جهل وضلال، والبعض الآخر في تدهور أخلاقي ومداهنة وتملق للدول والحكّام والنافذين، رغبةً بالسلطة وكسب المال، بعيداً عن المواطنية الصالحة  ومبادئها.

جميل هذا الكتاب، فما تراه يحمل لنا ؟ إنه شرارات ملتهبة جمعها مهندسنا في مقالات ومداخلات ودراسات في حقول التراث والعمارة والبيئة والإنماء، علّها تثير فكر اللبنانيين عامة وضمائر المسؤولين خاصة في جميع فئاتهم ليقف النـزف وتستقيم الأحوال.
فمن “بيروت مدينة السلام الآتي” الى “لبنان والفنّ المعماري” يقول ميشال عقل أن “القرن العشرين شكل حقبة تاريخية واحدة بالنسبة لهذا الفن اصطبغت بالغليان والتفلّت من القواعد والثوابت التاريخية، واتسمت بغياب الحساسية الفنية وبالاعتداء على الأملاك العامة والطبيعة، رافقها تدخل الدولة المتأخر المحدود والخجول لسدّ فراغ او لوضع قانون تصحيح اخطأ؛ في ظلّ غياب الخطة الشاملة والنظرة المستقبلية، مما إنعكس سلباً على العمارة والتراث المبني بكامله”.
ويضيف: “إن غياب تطبيق القوانين الموجودة على علاتها وطغيان النفوذ السياسي والشخصي على التشريع لمصلحة حفنة من المستفيدين على حساب القانون خلّفا مزيداً من التعقيدات وجعلا إمكانية النمو العمراني المتصالح مع الموجود والتراث والطبيعة غير ممكن في أكثر من موقع… أمّا عمارات اليوم المنقولة والمستوردة والغريبة عن هذا التراث؛ فجاءت تطمس شخصيتنا وتقتلعنا من جذورنا وتراثنا لتضعنا في دوامة من الضياع والتناقض”.
ويتابع الاستاذ ميشال مُنصفاً القطاع الخاص والعام: “لا أخالني متشائماً الى هذا الحدّ. فرغم كل شيء؛ حقق القطاع الخاص انجازات فنيّة واسعة كما حقق القطاع العام بعض النماذج الناجحة خصوصاً الأبنية الحكومية والمدارس في فترة 1958-1968…”.
وتتخلل مقالات هذا الكتاب صور كاريكاتورية معبّرة وصور من لبنان تقابل بين الأوضاع القديمة الجميلة والأوضاع الحاضرة البشعة المشوّهة. ويستطرد الأستاذ ميشال الى “الشواطئ اللبنانية: مشاكل وحلول” فيرى التعديات المختلفة على الأملاك العامة البحرية والاستئثار بالشاطئ وتشويهه من شماله الى جنوبه ورمي النفايات فيه وتلويثه. كما ينتقل الى “واقع البلدات والقرى في محافظة جبل لبنان على الصعيدين التاريخي والتراثي”، فيلحظ بأن أوضاعها ليست أحسن من باقي المناطق اللبنانية لجهة تشويه البيئة والتعديات اثناء الحرب. “وجرف مناطق وبلدات على كثير من الجمال… وموجة هستيريا المخالفات بعد نهاية الحرب تفوق بأضرارها ما هدمته الحرب… وتفكيك المنازل وبيعها… وطغيان الجديد. أما التنظيم المدني؛ فبعد تسييب قوانينه على ندرتها وغموضها وخجلها، وانحسار دوره في اعطاء تراخيص البناء والفرز وسواها من المسائل الاجرائية العادية؛ وتراجعه عن دور الموجّه والضابط، وضعف جهازه البشري الفنّي والاداري، والتجاوز على صلاحياته؛ فقد غدا مكبلاً غير مضطلع بأي من وظائفه الأساسية التي من دونها لا يمكن وضع حدّ لموجة التخريب والاعتداء المستمرة والفوضى في حركة البناء”.
ويمتدح الاستاذ ميشال العهد الشهابي بما قام به من وضع القوانين، في مجالات الانماء والاعمار، وأبحاث بعثة “IRFED”  التي رئسها الأب “لوبريه”. ويتمنى العودة الى وزارة التصميم التي جرى الغاؤها ولم يقم مقامها مجلس الانماء والاعمار ولم يكن بديلاً منها. كما يتمنى على نقابة المهندسين ان تلعب دورها وتقوم بواجباتها في هذه المجالات التي سبق ذكرها. ولم يوفر البلديات من تحمل مسؤولياتها “وهي السلطات المحلية المعنية مباشرة بحركة البناء والحفاظ على التراث وترشيده واستثماره”، كما انه انصف بعض البلديات المقدامة مشيراً الى بلديات حمانا والذوق ودير القمر، فاعتبرها نموذجية يقتدى بها، كما ثمّن جهود بعض الجمعيات مثل APSAD والمؤسسة الوطنية للتراث و”ICOMOS” وسواها. ولاحظ أن الإعلام، ” مرئياً كان ام مسموعاً أم مكتوباً، فهو يلعب دوراً واسعاً في تعميم الوعي” وأشار الى صفحة “بيئة وتراث” في جريدة “النهار” وما تقوم به من نشاط مفيد. وانتهى الى القول: علينا أن نحسم خيارنا بين موقفين: “لبنان عقار مستباح للاستثمار والمضاربات ومساحات للبناء ومخالفات وتسويات وفضاء ملوث وشواطئ للردم…”، “أو لبنان وطن وشعب وتاريخ وذاكرة وأرض وزارعة وثروة طبيعية وثقافة وسياحة وتراث… وإنسان”. ثم دعا إلى: “الكفّ عن التمادي في الانتحار الجماعي وسياسات تعويض الجريمة بالمال، ونظرية “المخالفة بترول لبنان”.
وأنت تقرأ المهندس ميشال عقل بل تستسيغه، لا ترى فيه فاصلاً بين المهندس المدني، والمعمار، والبيئي، والاقتصادي، والإنمائي، يندفع بقوة وحزم يقاتل بالفكر والحجة، ناشطاً دوماً لا يتوقف، لا يهدأ، فالصمت عن الحق عنده “شيطان أخرس” يزعجه، يطالب بحريات وتقدم؛ لا يصانع ولا يلين. فمن يقرأ مقالاته يشعر بأن الصفحات تلتهب بين يديه، وتضيق عمّا يختلج في صدره، فهو قلق حزين على وطن مزقته الحرب وانتشرت فيه الذئاب وعاثت فساداً. فالكتابة عنده أخلاق وقيم وعلم وعمل؛ ووطنه وطن الجمال والتجرد والتاريخ، لا وطن الفساد والمحسوبيات.
ويطيب للاستاذ ميشال الكلام عن “دور المهندس في المحافظة عن التراث الوطني” و”الدور الجديد لنقابة المهندسين” و”انتخابات نقابة المهندسين في بيروت” ويلقي “الضوء على دور نقابة المهندسين” ومسألة “السلامة العامة” ويقدم “ملاحظات على مشروع قانون البناء” وينبه بأن “النقابة ليست جزيرة”. ليقول: “لا يجوز أن تبقى (نقابة المهندسين) رازحة تحت وطأة التأسيس والتاريخ كنقابة للبناء والتقديمات الاجتماعية، ولا تحت السيطرة على قرارها جراء تحالف بعض قوى السلطة والمال”. وينتهي الكتاب بآخر فصل يعلن فيه:  “الأرض ليست ملكاً لنا”. وهي إستراحة المحارب ليقول: “لم يكن أمام المستثمرين أية فرص لتوظيفات في قطاعات انتاجية أو سواها… فتوجهوا عشوائياً ناحية العقار والمضاربات عليه. انه خيار تاريخي مدمّر استمرّ ولا يزال يُركّز الرأسمال في العقار حتى استباحه بالكامل وخرّب البلاد بمجملها”. “ان فلسفة النظام الحالي التي تركّز وتحصر الثروة الوطنية في العقار والبناء دون سواهما…” أساءت الى لبنان ودمرته… ولا يجوز أن يبقى العقار محفظة وحيدة للثروة”.
ويضيف “أمّا استباحة القوانين وزيادة عوامل الاستثمار، والتواطؤ بين المالك والادارة والسياسة؛ وتخاذل المهندسين، فجاءت تزيد المأساة وتخدم مصالح الطبقة السياسية الحاكمة المستبيحة لكل قانون ونظام. ونقابة المهندسين التي كانت في نشأتها فتية حيوية ومواكِبة لأداء المهندس في نوعية انتاجه جمالاً وتقنية، باتت اليوم بسبب من حجمها وتسلط السياسة عليها وتبديل اولوياتها تكتفي بالتخفيف من آثار المشكلة بإبداء الرأي حيناً، وبطرح مبادرات تنظيمية محدودة الفعالية حيناً آخر…”.
ويختم الكتاب بهذه العبارات الواردة في صفحته الأخيرة، وكأنها عَبَارات وداعٍ، بل عبارات لا تريد أن تترك هذه الصفحات قبل أن تقول: “وأخيراً علينا أن نتذكر دائماً أن الأرض ليست ملكاً لنا ونحن عليها أوصياء زائلون، فقد ورثناها وعلينا ان نورثها الى أجيال جديدة”.

ميشال عقل – الارض ليست ملكاً لنا – دار مختارات – 2012

قضايا النهار – 13/01/2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى