حقوق الإنسان

آليات المناصرة النسوية مع المرأة أم ضدها؟
فداء عبد الفتاح \ المصدر: موقع القوس

اخترنا عنوان إشكاليات المناصرة النسائية في المجتمع اللبناني تحديداً لأنها باتت نموذجاً فريداً يستحق الدراسة من كافة جوانبه، القانونية منها والاجتماعية والتربوية وحتى الأمنية.
نحن من جيل نشأ على واقع لم يكن أفضل مما هو اليوم، لأننا جيل الحرب الأهلية التي ما زالت خامدة وتستعد للانفجار في أي لحظة، ونعاني تداعياتها حتى يومنا هذا.

منذ أكثر من عشرين عاماً، انطلقنا في مناصرة القضايا من قاعدة واحدة أساسية هي قاعدة حقوق الإنسان بعيداً من أي تجزئة، القاعدة التي تصون وتضمن الحق في الحياة لكل من على هذه الأرض، على مبدأ احترام الآخر واحترام حدود حريتنا الشخصية تحت مظلة العدالة للجميع. وكان للمرأة في حينها، رغم كل الصعوبات المحيطة، دور بارز. كما كانت رأس حربة في كل تحرك أو نشاط داعم للقضايا المحقة سياسياً واجتماعياً وتربوياً.
بدأت معرفتنا بتاريخ النضال النسوي من خلال مطالبة النساء بحقوقهن السياسية، المطلب الأول والأخير في سلم أولويات المرأة آنذاك، فكان الاتحاد النسائي اللبناني الذي تأسس عام 1920 وضم الجمعيات النسائية المسلمة والجمعيات التي كانت تابعة للأحزاب القومية العربية واليسارية، والمجلس النسائي اللبناني الذي أنشئ عام 1952 حيث أقرت معه الحقوق السياسية للمرأة، وكان للمحامية لور مغيزل دور بارز في تحقيق هذا الإنجاز.
هذه المرحلة تلتها محطات أخرى عديدة نتج منها شكل جديد من أشكال النضال النسوي. لكنها كلها كانت تصب في الحقوق السياسية للمرأة نتيجة الوجود الفاعل للأحزاب السياسية، وبخاصة اليسارية والقومية منها.
بعد هزيمة عام 1967، شهدت المنطقة العربية حركات سياسية عدة ومدارس فكرية جديدة. وأنشأت بعض الأحزاب هيئات نسوية كانت عبارة عن أذرع لها، كالتجمع النسائي الديمقراطي اللبناني (أُسس عام 1967) الذي كان تابعاً لمنظمة العمل الشيوعي، والاتحاد النساء التقدمي (أُسس عام 1980) التابع للحزب التقدمي الاشتراكي. وكان لهذه المنظمات دور بارز في العمل السياسي على الأرض وبين الناس خصوصاً في القرى والبلدات على كافة الصعد الفكرية والتنموية والسياسية.

هل نحن قاصرات عن ابتداع طرق وأساليب مناصرتنا الخاصة بقضايانا انطلاقاً من مجتمعنا وعاداته وتقاليده وضوابطه التي تختلف وتتناقض أحياناً مع بعض مفاهيم الدول الأخرى وآلياتها؟

ما هو ضروري الإضاءة عليه من خلال هذه اللمحة المختصرة عن جزء من تاريخ الحركة النسوية في لبنان، هو تبيان أن منطلق نضال المرأة كان سياسياً فكرياً، ما وضعها في مقدمة العمل السياسي في كافة الميادين، لأهمية دورها ولقدرتها على التميّز والنجاح. الأمر الذي بدأ بالتراجع والاضمحلال نتيجة تراجع الأحزاب السياسية عن القيام بدورها ودخولها بازار المحاصصة السياسية في لعبة الشيطان الأكبر، في رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط مع بداية الألفية الثانية.
دخلت الدولة اللبنانية، بشكل رسمي، في نادي حقوق المرأة بعد الحرب الأهلية، وشكّلت عام 1996 الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية التي تحولت إلى مؤسسة وطنية عام 1998 بموجب القانون رقم 720. وكان ذلك ترجمة لالتزاماتها بالتوقيع على اتفاقية سيداو رغم تحفظاتها عن عدد من المواد.
أصبحت هذه المؤسسة مؤسسة حكومية تدار وفقاً لسياسات الدولة الخارجية أولاً، ومن ثم الداخلية. ومن هنا بدأنا عصر تفريخ المنظمات غير الحكومية العاملة وفقاً لأجندات الدول المانحة، وكل ما يرضي المجتمع الدولي، وتحول العمل التطوعي إلى عمل مأجور، وتحول النشطاء إلى موظفين\ات، وتحوّلت برامج عمل المنظمات من مضمون ذي بُعد نضالي وطني وقومي يضع العمل السياسي للمرأة في سلم أولوياتها إلى عمل بعناوين مجزأة، تصل إلى مضمون يحاكي واقعاً لم تكن المرأة اللبنانية عليه مع بدء الحركات النسائية عام 1920.

مصطلحات مستوردة لمناصرة معلبة

لم تجر أي دراسة أو تحقيق يحدد لنا كيف تسوّق الشعارات ومن يطلقها وما هو الهدف من كل مصطلح يفرض علينا ونتبنّاه من دون أي نقاش فقط لأنه مطروح من قبل منظمات دولية أو هيئات تخوض معاركنا اليومية بأسلوبها وأجنداتها الخاصة.
المرأة في لبنان هي رأس حربة في مناصرة قضايا النساء وتحويلها إلى قضايا رأي عام في المجتمع اللبناني. كما هي رأس حربة في مناصرة كل قضية حق، وسبق أن قدّمنا لمحة عن تاريخ العمل النسوي اللبناني الذي كان سبّاقاً إلى معظم التحركات النسوية في كبرى دول العالم. فمنهن ناشطات منضويات تحت أطر تنظيمية كجمعيات وهيئات نسوية وأحزاب، ومنهن ناشطات تبنين الدفاع عن حقوق النساء بشكل فردي لامتلاكهن خبرات وآليات للمساندة والمساعدة، كالمحامين وبخاصة المحاميات، وأخريات ناجيات من عنف أسري أو مجتمعي نذرن أنفسهن لمساعدة كل معنّفة.
فهل نحن قاصرات عن ابتداع طرق وأساليب مناصرتنا الخاصة بقضايانا انطلاقاً من مجتمعنا وعاداته وتقاليده وضوابطه التي تختلف وتتناقض أحياناً مع بعض مفاهيم الدول الأخرى وآلياتها؟

آليات المناصرة

آليات المناصرة لا تحكمها قواعد محددة تلتزم بها كل الجمعيات وكل الناشطين والناشطات، فبعض الجمعيات تقدم خدمات قانونية فقط، وبعضها الآخر يقدم بالإضافة للخدمة القانونية خدمة اجتماعية للضحية ومن بعهدتها، إضافة إلى شق توعوي يقوم به البعض ومعظم البرامج مرتبطة بما يطلبه المموّل أو تقتضيه شروط هذا التمويل. والملاحظ أن التدخل المباشر مع الضحية هو خدمة، عندما تقدّم لا تتابع في العديد من الحالات ولأسباب متعددة، منها ما هو مرتبط بإمكانيات المؤسسة المحدودة أو عدم وجود برامج متابعة واضحة للضحايا، ومنها ما هو مرتبط بالضحية وظروفها، الأمر الذي يجعل من هذه الآليات ناقصة ولا تحقق النتائج المرجوة منها.
إن كل حركة المناصرة في لبنان سواء كانت عبر الجمعيات والمؤسسات أو عبر النشطاء لا تعمل على مكامن الخلل وأسباب العنف الذي تكون ضحيته في الغالب المرأة، بل تعمل فقط على التدخل بعد وقوع الضرر، وكما ساهم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في الإضاءة أكثر على هذه القضايا، كذلك ساهم في تحريف المناصرة عن غاياتها الأساسية، فبات كل من يمتلك أدوات استخدام تحريك الرأي العام يهدد بسيف الـ«سوشال ميديا» لانتزاع حقوق يَفترض أنها مسلوبة منه.
كحقوقيين لا يمكننا أن نصدق طرفاً من دون سماع الطرف الآخر وإن اقتنعنا بمظلوميته لأن مسائل الأحوال الشخصية والعنف الأسري شائكة ودقيقة، وفيها الكثير من المحاذير التي يجب التنبه لها حماية للضحية أولاً وللامساك بالجاني ثانياً.

من تعنيه حقوق النساء فعلاً ويعنيه الوصول إلى مجتمع أكثر أماناً لهن يجب أن ينقلب على الأسلوب اللبناني بمناصرة قضايا النساء

وإن من أهم شروط حماية الضحايا الإصغاء لهن بموضوعية بعيداً من التعاطف المجرد لأن معظم الحالات تكون الضحية مرتبطة بغيرها من الأفراد الذين قد يكونون ضحايا ردود الفعل العاطفية أو مشاريع ضحايا فعليين، وقد تكون الضحية المفترضة لا تمتلك قدرات الدفاع الأولى التي تحتاجها للنهوض من جديد، في الوقت الذي ينتهي فيه دور الجهة المناصرة لقضيتها سواء كانت جمعية أو محامياً أو ناشطاً، فتعود وحيدة بمشكلات جديدة، وذلك في غياب قوانين واضحة تحدد أسس الإحاطة بحاجات الضحية وأسس حمايتها ومتابعتها، وفي ظل غياب كامل للمؤسسات التي يفترض أنها معنية بتطبيق هذه القوانين، الأمر الذي قد يحوّل بعض حالات الدعم والمناصرة إلى أعباء إضافية على الضحية ومحيطها.

قد يرى البعض أنه لا يجوز انتقاد محاولات فردية وأخرى جماعية لمناصرة النساء في ظل ظروف سيئة نعاني منها على كافة الصعد، وأنه تجنٍّ على نساء بمعظمهن ضحايا قررن الانتفاض على واقعهن ومساعدة شبيهات لهن على التحرر من واقع أليم.
ولكن من تعنيه حقوق النساء فعلاً ويعنيه الوصول إلى مجتمع أكثر أماناً لهن يجب أن ينقلب على الأسلوب اللبناني بمناصرة قضايا النساء الذي يأخذ القضايا الفردية ليعمم آلياتها على المجتمع ويفرض بشكل أو بآخر هذه الآليات على كل من يهتم بقضايا النساء من دون أي رؤية واضحة لحماية مستدامة، مردودها إيجابي على كل أفراد الأسرة من دون أي تصنيف بين رجل وامرأة.
لا يحقق النضال من أجل حقوق المرأة أي نتائج بعيداً من النضال من أجل حقوق الرجل، والتمييز ضد النساء ليس نتيجة واقع ذكوري لا شأن للمرأة فيه، بل هي معنية بشكل مباشر وغير مباشر بتعزيز هذه الذكورية أو إلغائها لأنها المسؤولة عن تربية الأنثى والذكر داخل الأسرة.
نهج الضحية هو نهج سياسة الدولة العام الذي انعكس على معظم الحركات السياسية والاجتماعية داخل البلد

إن ضرورة تصويب كافة الجهود نحو الأسرة وكيفية دعمها وتعزيز قدراتها بدلاً من تجزيء الحقوق بين أفرادها، واعتبار المرأة في سباق دائم مع الرجل من أجل تحقيق مكتسبات فردية على حساب المصلحة الجماعية التي هي جزء لا يتجزأ من مساندة، المرأة ولا يمكنها الاستمرار من دونها سواء كانت مع الأهل أو الزوج والأولاد أو المجتمع ككل، فهو أمر غاية بالأهمية ويرتب مسؤولية كبرى خلال عملنا في قضايا مناصرة النساء وعلينا وضع هذا الهدف أساساً لكل تحرك ونشاط ننطلق منه في كل قضية، وإلا لن تحصد المرأة إلا المزيد من انتهاك حقوقها وازدياد العنف ضدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى