قصص وعبر

غزوة بدر والمكاسب \ بقلم :الدكتورة سماح الجاحر أستاذ الفقة المقارن بكلية الدراسات العربية والإسلامية بنات باسيوط

يشهد التاريخ الإسلامي أنَّ أغلب الغزوات والمعارك التي قادها المسلمون في شهر رمضان كانت تُكلَّل بالفوز والانتصار، من هنا حرص الرسول الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن تكون أغلبُ غزواته في شهر رمضان؛ تقربًا إلى الله – عزَّ وجلَّ – وإرشادًا للمسلمين إلى سبيل الاسـتعداد لاحتمال الشـدائد و الجهاد، شكل انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى فاتحة الانتصارات في شهر رمضان؛ شهر الفتوحات والانتصارات والخيرات والتمكين. فإن ما في رمضان من القيم الإيمانية والمعاني السامية لمن شأنه أن يضيف للمسلمين صبر لا ينقطع وعزيمة لا تنفد وإقداما لا حدود له. وما إن تذكر الأحداث المهمة في تاريخ المسلمين والتي حدثت في رمضان؛ فإن أول ما يحضر في بال كل مسلم غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على جحافل الكفر وصناديد الباطل من قريش.

تاريخ غزوة بدر ومكان وقوعها
وقعت غزوة بدر في صبيحة يوم الاثنين 17/ رمضان
بعد الإذن بالجهاد في العهد المدني، بلغ المسلمون تحرك قافلة كبيرة تحمل أموالا عظيمة لقريش عائدة من الشام بقيادة أبي سفيان، صخر بن حرب، فانتدب النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه للخروج، وتعجل بمن كان مستعدا للخروج دون انتظار سكان العوالي لئلا تفوتهم القافلة، ولذلك لم يكن خروج المسلمين بكامل طاقتهم العسكرية في معركة بدر، فهم خرجوا لأخذ القافلة، ولم يكن في حسبانهم مواجهة جيش قريش.

وقد خرج من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، منهم من الأنصار بضع وأربعين ومائتين، ولم يكن معهم إلا (2) فرسان، وسبعون بعيرا يتعاقبون على ركوبها. وعلم أبو سفيان بخروج المسلمين لأخذ القافلة، فسلك بها طريق الساحل، وأرسل لاستنفار أهل مكة، فاستعدت قريش للخروج دفاعا عن قافلتها، وحشدت كل طاقتها، ولم يتخلف منهم إلا القليل، فقد رأت قريش في ذلك حطا لمكانتها، وامتهانا لكرامتها، وضربا لاقتصادها، وبلغ عددهم نحوا من ألف مقاتل، ومعهم مائتا فرس يقودونها.
وصل المسلمون إلى بدر قبل المشركين، وأشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ماء بدر خلفه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورته وأخذ برأيه
ظهرت الخلافات في جيش المشركين بعد نجاة القافلة بين مريد للعودة دون قتال المسلمين حتى لا تكثر الثارات بين الطرفين، وبين مصر على القتال كأبي جهل، وقد غلب رأي أبي جهل أخيرا، ولم يعد هدف قريش نجاة القافلة، بل تأديب المسلمين، وتأمين طرق التجارة، وإعلام العرب بقوة قريش وهيبتها. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة القافلة، وإصرار قريش على قتاله صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه عامة، وقصد الأنصار خاصة فتكلم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، والمقداد بن عمرو من المهاجرين، فقالوا وأحسنوا، وفهم سعد بن رضي الله عنه مراد النبي صلى الله عليه وسلم فقال وأحسن فسر النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن معاذ رضي الله عنه.
وصل المسلمون إلى بدر قبل المشركين، وأشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ماء بدر خلفه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورته وأخذ برأيه. وبين صلى الله عليه وسلم مصارع رجال من أهل بدر بأسمائهم، فقال: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى». في صبيحة يوم المعركة جعل صلى الله عليه وسلم جيشه في صفوف للقتال، وبقي صلى الله عليه وسلم في قبة (عريش) -بمشورة سعد بن معاذ- يدير المعركة، وجعل صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء ربه، حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فٱستجاب لكم أني ممدكم بألف من ٱلملاۤئكة مردفين} [الأنفال: 9]، فخرج وهو يقول: {سيهزم ٱلجمع ويولون ٱلدبر} [القمر: 45].
ورمى صلى الله عليه وسلم المشركين في وجوههم بالحصى، قال تعالى: {وما رميت إذ رميت ولـٰكن ٱلله رمىٰ} [الأنفال: 17]، فأثبت سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه صلى الله عليه وسلم. وبدأت المعركة بتقدم عتبة بن ربيعة، وتبعه ابنه الوليد، وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فخرج لهم شباب من الأنصار، فرفضوا مبارزتهم طالبين مبارزة بني عمومتهم، فأمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، فقتل حمزة عتبة، وقتل علي شيبة، وأثخن عبيدة والوليد كل واحد منهما صاحبه، ثم مال علي وحمزة على الوليد فقتلاه، واحتملا عبيدة، وتأثرت قريش بنتيجة المبارزة، وبدأت الهجوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه برمي المشركين بالنبل إذا اقتربوا من المسلمين ودنوا.
ثم التقى الجيشان في ملحمة كبيرة، وأمد الله سبحانه وتعالى المسلمين بالملائكة يوم المعركة، قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فٱستجاب لكم أني ممدكم بألف من ٱلملاۤئكة مردفين * وما جعله ٱلله إلا بشرىٰ ولتطمئن به قلوبكم وما ٱلنصر إلا من عند ٱلله إن ٱلله عزيز حكيم} [الأنفال: 9-10]. وبعد المواجهة قتل من المشركين سبعون رجلا، منهم الذين ببن صلى الله عليه وسلم مصارعهم من أهل بدر بأسمائهم قبل المعركة، ما أخطأ أحد منهم الموضع الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من بين القتلى عدد من زعماء قريش، منهم: أبو جهل، عمرو بن هشام، قتله معاذ بن عمرو ابن الجموح، ومعاذ بن عفراء وهما غلامان، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود، وأمية بن خلف، قتله وابنه عليا بلال بن رباح، مع فريق من الأنصار وغيرهم. وأمر صلى الله عليه وسلم بسحب قتلى المشركين إلى آبار ببدر، فألقوا فيها، وكان عدد الأسرى من قريش سبعون رجلا، وفر بقية المشركين، لا يلوون على شيء، تاركين وراءهم غنائم كثيرة في أرض المعركة، ودفن صلى الله عليه وسلم شهداء المسلمين، وهم أربعة عشر شهيدا.
كسب المسلمون مهارة عسكرية، وأساليب جديدة في الحرب، وشهرة واسعة داخل الجزيرة العربية، وخارجها. أما قريش، فكانت خسارتها فادحة، فإضافة إلى أن مقتل أبي جهل بن هشام، وأمية بن خلف
أصبحت شوكة المسلمين قوية، وأصبحوا مرهوبين بين قبائل الجزيرة العربية كلها، وتعززت مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وارتفع نجم الإسلام فيها، ولم يعد المتشككون في الدعوة الجديدة، والمشركون في المدينة يتجرؤون على إظهار كفرهم، وعداوتهم للإسلام؛ لذا ظهر النفاق، والمكر، والخداع، فأعلنوا إسلامهم ظاهرا أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وازدادت ثقة المسلمين بالله تعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ودخل عدد كبير من مشركي قريش في الإسلام، وقد ساعد ذلك على رفع معنويات المسلمين الذين كانوا لا يزالون في مكة، فاغتبطت نفوسهم بنصر الله، واطمأنت قلوبهم إلى أن يوم الفرج قريب، فازدادوا إيمانا على إيمانهم، وثباتا على عقيدتهم.
كسب المسلمون مهارة عسكرية، وأساليب جديدة في الحرب، وشهرة واسعة داخل الجزيرة العربية، وخارجها. أما قريش، فكانت خسارتها فادحة، فإضافة إلى أن مقتل أبي جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وغيرهم من زعماء الكفر؛ الذين كانوا من أشد القرشيين شجاعة، وقوة، وبأسا لم يكن خسارة حربية لقريش فحسب، بل كان خسارة معنوية أيضا؛ ذلك: أن المدينة لم تعد تهدد تجارتها فقط، بل أصبحت تهدد أيضا سيادتها ونفوذها في الحجاز كله. وبذلك تعد غزوة بدر رغم صغر حجمها معركة فاصلة في تاريخ الإسلام، ولذلك سماها الله عز وجل بيوم الفرقان، قال تعالى: {ومآ أنزلنا علىٰ عبدنا يوم ٱلفرقان يوم ٱلتقى ٱلجمعان} [الأنفال: 41]، ففرق بها سبحانه بين الحق والباطل؛ فأعلى فيها كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه، ونصر نبيه وحزبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى