الأخبار اللبنانية

دريان في خطبة الجمعة من المسجد المنصوري : فقدنا ركنا وطنيا من كبار الوطن وطرابلس المناضلة

وطنية – ألقى مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان خطبة الجمعة في المسجد المنصوري الكبير في طرابلس، في حضور رئيس مجلس الوزراء تمام سلام،الرئيس فؤاد السنيورة بصفته الشخصية وممثلا الرئيس سعد الحريري، رفعت بدوي ممثلا الرئيس سليم الحص،ووزراء ونواب وشخصيات وحشود

وجاء فيها :”الحمد لله رب العالمين، أرسل نبيه بالهدى والحق المبين، نحمده سبحانه على إسباغه النعم، وإغداقه العطايا والمنن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، سيد الخلق أجمعين، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } ، (سورة الحشر ، ألآية : 18) .

أيها المسلمون: خلق الله تعالى البشر ، وأرسل إليهم الرسل معلمين ومبشرين ومنذرين، قال سبحانه : {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ، (سورة الأنعام ، الآية : 48)، وقد أكرم الله سبحانه وتعالى البشرية بمحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليكون خاتم النبيين والمرسلين، قال عز وجل : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما} (سورة الأحزاب ، الآية : 40)، فكان مولده صلى الله عليه وسلم إيذانا بفجر جديد، يحمل للعالم الهداية والإيمان والخير والسلام ، وينشر العلم والحضارة في الأنام، قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (سورة آل عمران ، الآية : 164) .

وقد أيد الله عز وجل رسوله بالرعاية منذ صباه، وخصه بالشمائل الجميلة ، وأكرمه بالشريعة الخالدة، والمعجزة الباقية، ففضائله كثيرة ، يقول رسولنا:” أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر ، وأول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع ومشفع ، بيدي لواء الحمد”.

عباد الله: لقد بعث رسول الله على فترة من الرسل، حيث انتشر الظلم ، وساد القتل، وشاع النهب والسلب ، وكان الناس في فرقة وشتات، وكثر الجهل فيهم، وعبدت الأوثان والأحجار من دون الله عز وجل ، فقام النبي داعيا إلى الله تعالى بإذنه وسراجا منيرا، فدعا إلى إفراد الله سبحانه بالعبادة ، وحرر العقول والأفهام من أغلال الخرافة والأوهام ، وحرم السلب والنهب والعدوان ، ومنع الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال ، وعظم حرمة الدماء ، ودعا إلى التآخي والتراحم والصفاء ، وحض على مكارم الأخلاق ، وأرسى دعائم التعايش السلمي مع غير المسلمين ، فكان كما أخبر الله تعالى عنه في قوله : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ، (سورة الأنبياء ، الآية : 107) ، وكان كما أخبر هو عن نفسه، فقال: ” أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة “. ولما آذاه المشركون قيل: يا رسول الله ادع على المشركين. قال:” إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة”.

أيها المؤمنون: من رحمة نبينا بأمته حرصه الدائم عليها ، ودعاؤه المستمر لسعادتنا في الدنيا والآخرة ، فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن النبي تلا قول الله عز وجل حكاية عن عيسى عليه السلام : {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، (سورة المائدة ، الآية : 118) ، فرفع يديه وقال : ” اللهم أمتي أمتي “. وبكى، فقال الله عز وجل:” يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم، فسله : ما يبكيه ؟”. فأتاه جبريل عليه السلام ، فسأله ، فأخبره رسول الله بما قال، وهو أعلم ، فقال الله تعالى: ” يا جبريل ، اذهب إلى محمد ، فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك”.

وكان يدعو لأمته بالخير والمغفرة في كل صلاة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما رأيت من النبي طيب نفس ، قلت: يا رسول الله، ادع الله لي ، فقال: “اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ، ما أسرت وما أعلنت” ، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك ، قال لها رسول الله : “أيسرك دعائي؟ “، فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك ، فقال صلى الله عليه وسلم: “والله إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة”.

فما أرحمك يا رسول الله، وما أشفقك وأعطفك، لقد علمتنا الرحمة في أجمل معانيها، وربيتنا على أروع صورها، فهنيئا لمن تخلق بأخلاقك الطاهرة الزكية ، ويا شقاوة من سعى بالغلو والتطرف لتشويه سيرتك الشريفة ، وتحريف سنتك المطهرة.

أيها المسلمون: إن حقوق نبينا علينا كثيرة ، ومن ذلك : أن نصلي ونسلم عليه ، كما أمرنا الله تعالى بقوله : {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} ، (سورة الأحزاب ، الآية : 56) ، وأن نحبه فوق محبة الخلق أجمعين ، يقول : ” لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”.

ومن دلائل محبته أن نؤثر هداه على هوانا، ونجعله القدوة في حياتنا، قال سبحانه وتعالى : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}، (سورة الأحزاب ، الآية : 21) . ومن حقوقه علينا: أن نغرس محبته في نفوس أبنائنا، ونربيهم على تعظيمه وتوقيره واتباعه، قال الله تعالى : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} ، (سورة آل عمران ، الآية : 31) .

اللهم ارزقنا حب نبيك والورود على حوضه، والفوز بشفاعته، ووفقنا جميعا لطاعتك ، وطاعة رسولك محمد وطاعة من أمرتنا بطاعته، عملا بقولك الكريم : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }، (سورة النساء ، الآية : 59).

أيها الإخوة، كنت أتمنى أن أقوم بزيارة طرابلس الحبيبة، في غير هذا اليوم الحزين، الذي فقدنا فيه ركنا وطنيا من كبار هذا الوطن وهذه المدينة المناضلة. وكنت أعد نفسي لهذه الزيارة، بعد انتخابي مفتيا للجمهورية اللبنانية، من اجل لقاء أهلي وإخواني وأحبائي من العائلات الطرابلسية الكريمة والأصيلة، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة، ومشيئته تعلو فوق كل مشيئة.

أيها الأخوة، لقد عانت طرابلس كثيرا ، وعانت طويلا ، وهي لا تزال تعاني الإهمال والحرمان ، ولا تزال تدفع غاليا ثمن التحريض على الفتن المصطنعة ، وتشويه السمعة الحسنة. لم توف طرابلس حقها كعاصمة لبنان الثانية ، بل لم توف حقها كمدينة كبرى لها تاريخها الحافل ، ولها أصالتها المشرقة، ودورها الرائد في العمل الوطني وفي الثقافة العربية والإسلامية.

إن من حق طرابلس علينا جميعا، أن نعمل على رفع الظلم عنها، حتى تعود إلى ممارسة دورها التاريخي، الذي يعتز به ونعتز به جميعا، مدينة للعلم والعلماء، ومنبرا حرا للرأي السديد، وواحة للاعتدال والسماحة والعيش المشترك.

لا يمكن أن يلتقي العلم مع التطرف، ولا الفكر مع الإلغاء ، ولا يمكن أن تلتقي السماحة مع الإرهاب ، ولا العيش المشترك مع رفض الآخر. لقد علمنا الإسلام أن ندعو في صلاتنا، بل في كل ركعة من كل صلاة نؤديها لله تعالى، ندعو الله أن يهدينا صراطه المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

إن المغضوب عليهم هم الذين تخلوا عن صراط الله المستقيم، وإن الضالين هم الذين تطرفوا وتنطعوا وغالوا في دينهم حتى ضلوا عن صراط الله المستقيم. نحن لسنا من هؤلاء ولا من أولئك. نحن من المتمسكين بحبل الله المتين، السائرين على صراطه المستقيم ، صراط الإيمان بالله الواحد الأحد ، الذي يعترف بحق الآخر في الاختلاف، وفي أن يكون مختلفا، وبأن الله وحده يحكم بيننا يوم القيامة، أي انه ليس لأي منا الحق أو السلطة للبحث في ضمير الآخر، إن الله العلي القدير، هو يعلم ما في الصدور، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

أيها الإخوة، لقد علمنا الإسلام أن نحترم كرامة الإنسان ، كل إنسان، وعلمنا أن نحترم الاختلاف بين الناس ، كل الناس ، وعلمنا كيف أن الاختلاف موجود ومستمر، وأنه تعبير عن العظمة الإلهية في خلق الناس من نفس واحدة وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعافوا. ولا يمكن للناس المختلفين أن يتعارفوا إذا لم يتعايشوا، ولا يمكن لهم أن يتعايشوا إذا لم يتبادلوا الاحترام والمحبة، ولقد كانت طرابلس على مدى تاريخها، حاضنة للتعايش ، فواحة بالاحترام والمحبة ، وهي اليوم لا تكون إلا به ومعه.

هكذا تعلمنا من علماء طرابلس الكبار الذين أثروا ثقافتنا الإسلامية، وأغنوا تراثنا الوطني بالفكر السمح، والملتزم في الوقت ذاته بقواعد الإسلام وثوابته الإيمانية.

أيها الإخوة، أن تكون لبنانيا وطرابلسيا يعني أن تكون قويا في إيمانك، عزيزا في وطنك، والمؤمن القوي كما علمنا رسول الله، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وقوة الإيمان، خاصة في المجتمع المتعدد مثل مجتمعنا اللبناني، تكمن في ممارسة إيمانه، وفي احترام إيمان الآخر من دون ضعف أو استضعاف. والمواطن العزيز هو الذي يستمد عزته الشخصية من عزة وطنه، وكرامته من كرامة وطنه.

رحم الله الرئيس الفقيد عمر كرامي، لقد عاش على هذه الثوابت ومات عليها، تغمده الله بواسع رحمته، وأدخله فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، وبسنة نبيه الكريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى