سبعون يوما في ساحات الميدان(نصوص، وقصص قصيرة)بقلم: د.غَازِي قَانْصُو
اللُّغزُ: أينَ هُوَ أبِي؟
كانت الحربُ دائرةً في القرية الصغيرة التي تعيشُ فيها عائلةُ أبو حسين؛ قصفٌ عنيفٌ بالطائرات والمدفعية هزَّ المنازلَ، واقتلعَ الأشجارَ.
في هذا الجوِّ المشحونِ بالخطر، قرَّرَ أبو حسين، الرجلُ الأربعيني المعروفُ بشهامته، أن يذهبَ إلى ساحةِ القرية ليأتي بالخبزِ لعائلته، رغمَ تحذيراتِ زوجته:
“الطيرانُ والمدفعيةُ لا يرحمان، لا تخرج يا أبا حسين، الحياةُ أهمُّ من الخبز.”
لكنَّه أجابَ بحزم:
“كيفَ أتركُ أولادي بلا طعام؟ سأعودُ سريعًا، لا تقلقي، إِنَّهَا مُهِمَّةٌ مِنْ مَهَامِّي، وَلَيْسَتْ أُوّلَ مُهِمَّةٍ أَقُومُ بِهَا، وَرُبَّمَا لَنْ تَكُونَ ٱلْأَخِيرَةَ.
مرَّت الساعاتُ ثقيلةً، ولم يَعُد أبو حسين. جلسَ حسين، الصبيُّ البالغُ من العمرِ أربعةَ عشرَ عامًا، أمامَ البابِ ينتظرُ والده، ينظرُ إلى الطريقِ المؤدي إلى الساحة، لكنه لم يرَ إلا دمارًا وصمتًا. لم يحتمل الصمتَ، فسألَ أمهُ بقلق:
“أمي، هل أذهبُ للبحثِ عن أبي؟ ربما أصابهُ مكروه.”
لكنها أجابتهُ بحزم:
“لا، يا بني. القصفُ مستمرٌّ، ولن أغامرَ بفقدانكَ أيضًا. انتظرْ قليلاً، ربما يعود.”
في الزاويةِ الأخرى من الغرفة، جلست مريم، البنتُ ذاتُ السبعِ سنوات، تحتضنُ أخاها الأصغرَ جاد البالغَ أربعَ سنوات. كان جاد مرتبكًا، فسألها بصوتٍ خافت:
“مريم، أين أبي؟ لماذا تأخرَ؟”
نظرتْ إليه بحزنٍ، ثم قالت:
“ربما ذهبَ لمكانٍ بعيدٍ ليحضرَ لنا الطعام. سيعود، لا تخف.”
لكنَّ جادَ لم يقتنع:
“لماذا لا يعودُ؟ هل ماتَ مثلَ جارِنا؟”
صُدمت مريم بسؤاله، لكنها أجابتْ بصوتٍ خافت:
“لا، يا جَاد، الموتُ يعني أنَّ أحدًا لا يعودُ أبدًا. لكن أبي لم يمت، هو فقط مُختفٍ.”
في ساحة القرية:
كان أهلُ القرية يجتمعون أحيانًا في أوقاتِ الهدوء، يتحدثونَ عن مفقوديهم ويحاولونَ تفسيرَ ما حدث. قالَ أحدُ الجيران:
“رأيتُ أبا حسين في الساحةِ قبل أن يقعَ القصفُ العنيف. كان يحملُ كيسَ خبزٍ.”
أجابَه آخرُ بحزن:
“لكنْ لم يعثرْ أحدٌ على جثَّتِه. ربما دفنَه الأنقاضُ.”
تحدثت امرأةٌ عجوزُ بصوتٍ متأثر:
“كانَ أبو حسين رجلًا شريفًا. ما فعلهُ كان تضحيةً عظيمةً لعائلته.”
في داخل المنزل مرّتِ الأيامُ ثقيلةً، وأصواتُ النقاشاتِ كانت تترددُ بين أفرادِ الأسرة. في إحدى الليالي، جلسَ حسينُ مع أمهِ وسألها:
“أمي، ماذا لو لم نجدْ أبي أبدًا؟”
تنهدتْ بحزنٍ وأجابتْ:
“أحيانًا، يا بني، لا تملكُ الحياةُ إجاباتٍ لكلِّ أسئلتنا. لكنَّ والدكَ كانَ شجاعًا، ولن ينساهُ أحدٌ.”
قاطعتهم مريمُ وهي تحملُ كتابًا صغيرًا:
“أمي، هل يمكننا أن نكتبَ قَصّةً عن أبي، ليعرفَ الجميعُ قَصّتَه؟ وافقتها أمُّها على الفَوْرِ.
بَعدَ انتهاءِ الحربِ:
عندما توقَّفتِ القنابلُ، خرجَ أهلُ القريةِ يبحثونَ بينَ الأنقاضِ عن أحبائِهم. لمْ يعثرْ أحدٌ على جُثَّةِ أبي حُسين. اجتمعَ الرجالُ والنِّساءُ في السَّاحةِ، وقرَّروا أنْ يُطلقوا عليهِ لقبَ “الشَّهيدِ أبو حسين”، احترامًا لشجاعتهِ وتضحيتِه.
في أحدِ اللقاءاتِ القرويَّةِ، قالَ أحدُهم:
“أبو حُسين غابَ وهوَ يبحثُ عن الخبزِ لأطفالِه. هذا الرجلُ مثالٌ للوفاءِ والشَّجاعةِ.”
فوافقوهُ جميعًا.
وأضافت امرأةٌ أخرى:
“لنْ ننسى تضحياتِه، وسيبقى اسمُهُ خالدًا في القرية.”
أمَّا حسينُ، كأُختِه وأخيهِ، فظلَّ يحملُ سؤالًا في قلبِه:
“أينَ أنتَ يا أبي؟ هل كنتَ قريبًا منَّا ونحنُ لمْ نجدْك؟”
كانَ الغيابُ كالجُرحِ المفتوحِ.
لكنَّ العائلةَ تعلَّمتْ أنْ تتعايشَ مع الألمِ كجزءٍ من ذاكرتِها. إلّا الأمُّ، على الرّغمَ مِن وَجعِها كانَت صَامتةً، كانتْ تعرفُ الحَقيقةَ، وَسيَأتِي يَومٌ تُبوحُ بِهَا، أو ما يكفِي للنّاسِ من معرفةِ بَعضِها.
بقيَ أبو حُسين حاضرًا في قَصَصِهم وصَلواتِهم، رمزًا للوفاءِ والشَّجاعةِ.
ولا زالت العائلةُ تنتظرُ إجابةً عن هذا اللُّغزِ. كانوا يعلمونَ في قلوبِهم أنَّ الغائبَ لمْ يختفِ؛ بل بقيَ حاضرًا في الذكرياتِ، وفي عيونِ كلِّ منْ أحبَّه.
هكذا استمرَّ اللُّغزُ:
أينَ هوَ أبي؟
أمَّا الإجابةُ، فقد كانتْ في قلوبِ كلِّ منْ عرفَه:
أنَّهُم في الانتظارِ، مهما كانَ عليهِ الحال، ولا زِلنا معهُم في الانتظار.
مع تحياتي،
د.غَازِي مُنِير قَانْصُو
الأربعاء في ٢٥-١٢-٢٠٢٤
Best Development Company in Lebanon
iPublish Development offers top-notch web development, social media marketing, and Instagram management services to grow your brand.
Explore iPublish Development