الحص: مكافحة الجريمة تستوجب اصلاح المجتمع

إنني لا أستبيح ذبح حيوان، فكيف بقتل إنسان؟ إن نفسي، كوني نباتيا، لا تتقبل فكرة ذبح نعجة أو بقرة أو فروج. لنغني بلحمها أو بلحمه طعامنا. فكيف أتقبل فكرة إنهاء حياة أحد من بني البشر؟” .
واضاف: “قيل لي إن حكم الإعدام لا ينفذ إلا بمرسوم، وأي مرسوم لا يصدر إلا بتوقيع رئيس الوزراء إلى جانب توقيع رئيس الجمهورية. وقيل إن الراهن أن القانون يبيح حكم الإعدام في لبنان، وأن العفو الخاص في حق أي محكوم أمر ممكن، ولكن العفو الخاص هو من صلاحية رئيس الجمهورية، وليس من اختصاص رئيس الوزراء بحسب الدستور. أفلا يعني امتناعي عن التوقيع على مرسوم بالاعدام مخالفة للقانون الذي حكم القاضي بموجبه، ومخالفة للدستور الذي جعل العفو الخاص من اختصاص رئيس الجمهورية، من دون رئيس الوزراء؟.
إن جوابي عن هذه التساؤلات هو بكل بساطة: إن الدستور لا يملي على رئيس الوزراء التوقيع على مرسوم إن لم يكن مقتنعا بمضمونه. ولو لم يكن التوقيع على مرسوم الإعدام خيارا حرا لرئيس الوزراء، أي أنه مخول بالتوقيع عليه أو بعدمه، لما قضى القانون بضرورة توقيع رئيس الوزراء على المرسوم أساسا، بل لكان قضى بنفاذ أي حكم إعدام بمجرد عدم اقترانه بعفو خاص من رئيس الجمهورية ولا داعي في تلك الحال لمرور الحكم عبر رئيس الوزراء. بعبارة أخرى، إن توقيع رئيس الوزراء ليس خاتما يمهر به أي مرسوم في شكل آلي، وإنما هو خيار لرئيس الوزراء، أو على الأقل هكذا أنظر إليه” .
وتابع: “كثيرا ما يقال لي أن الله حلل في الكتب السماوية إعدام القاتل، فبأي منطق أسمح لنفسي بتحريم حكم الإعدام بمجرم.
والجواب هو أنني لم أحرم تنفيذ حكم الإعدام إلا على نفسي: فمع أن ذبح الخراف أيضا حلال. فإن أكثر الناس لا يستطيعون، أو لا يجيزون لأنفسهم، ذبح خروف بأيديهم. وأنا بالتوقيع على مرسوم بالإعدام أشعر وكأنني في مقام الجلاد، أو ذابح الخروف.
وأقول لمن يطرح هذا السؤال علي: إذا قيل لك أنت، وأنت المؤمن بواجب تنفيذ أحكام الإعدام، إن أحدا من الناس محكوم بالإعدام، فهل أنت على استعداد لتنفيذ الحكم بقطع عنقه بيدك؟ إذا كان الجواب سلبيا، وهذا ما أتوقعه من أكثر الناس، فلماذا تعذر نفسك في الاستنكاف عن تنفيذ حكم إعدام بيدك، ولا تعذرني إذا استنكفت عن التوقيع على مرسوم بإعدام إنسان، ولو كان مجرما؟.
إلى كل ذلك، فأنا أرى أن أحكام الإعدام في لبنان تطلق انتقائيا وتنفذ انتقائيا. فإلى الذين يسائلونني عن موقفي من حكم الإعدام، أسائلهم: ألم تسمعوا بمن حكم بالإعدام، ثم حولت المحكمة الحكم إلى السجن المؤبد؟ فلماذا ينفذ حكم الإعدام بالبعض ولا ينفذ بالبعض الآخر؟ لماذا لا تحل عقوبة السجن المؤبد محل عقوبة الإعدام في كل الحالات؟.
ثم ألم تسمعوا بمجرمين، ارتكبوا أبشع الجرائم خلال الحرب الداخلية اللبنانية، يرتعون اليوم أحرارا طلقاء، إما لأن قانون العفو العام شملهم، أو لأنهم من ذوي المنزلة التي لا تطاولها يد القضاء، وبعضهم تسلق مراكز المسؤولية.
ومن يقول إن عقوبة الإعدام رادعة للجريمة، نرد عليه بملاحظتين: أولا إن أحكام الإعدام نفذت في لبنان في السنوات الماضية، ولم يردع تنفيذها أولئك الذين صدرت في حقهم أحكام إعدام فيما بعد، وهم اليوم ينتظرون تنفيذها. وثانيا إن أحكام السجن المؤبد يجب أن تكون أيضا رادعة. ثم إن تجارب المجتمعات التي ألغت عقوبة الإعدام لا تدل على أنّ هذه العقوبة ضرورة لردع الجريمة.
ولا بد من الإشارة إلى أن أكثر من مئة دولة في العالم تحرم اليوم عقوبة الإعدام، والرأي في بقية الدول يتجه نحو إلغاء عقوبة الأعدام في قوانينها” .
وقال الحص: “توليت رئاسة مجلس الوزراء في لبنان خمس مرات ما بين عام 1976 وعام 2000، ولم أوقع على مرسوم تنفيذ حكم الإعدام بمحكوم طيلة هذه التجربة في السلطة. كانت آخر مرة ووجهت بهذا الخيار في عام 2000، عندما عرض علي مشروع مرسوم بتنفيذ حكم الإعدام بإثنين من الجناة، فأبيت التوقيع عليه. ثم كان أن غادرت لبنان في زيارة رسمية إلى الخارج، فبادر نائب رئيس مجلس الوزراء في غيابي إلى التوقيع على المرسوم. وفور عودتي من رحلتي بعد يومين طلبت من رئيس الجمهورية، الرئيس إميل لحود، قبل أن يوقع على المرسوم، إلغاءه. وهكذا كان. فلم يصدر المرسوم، ولم ينفذ حكم الإعدام. إلا أن المغفور له الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي خلفني بعد ذاك في سدة رئاسة الوزراء، عاد فوقع على مرسوم بإعدام محكومين اثنين غير اللذين كنت استنكفت عن التوقيع على إعدامهما” .
واوضح انه يتبنى “موقفا سلبيا مطلقا من حكم الإعدام يعود إلى إيماني بأن القتل، حتى قتل القاتل، لا يجوز. هذا لا يعني أن القاتل ينبغي أن يعفى من العقاب، بل يعني أن العقاب يمكن أن يكون السجن المؤبد.
لا أرتضي لنفسي إنهاء حياة أحد، ولا حتى حياة قاتل. فأنا من المؤمنين أن الله تعالى وهب الحياة والله وحده يستردها. وأعتبر أن القتل أكبر الكبائر. فخطيئة القتل لا تعوّض. فلا سبيل إلى استرداد حياة من زُهقت روحه قتلاً. وقد جاء في القرآن الكريم: “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً”.
الإسلام يجيز عقوبة الإعدام ولكنه لا يفرضها حكماً.
لطالما قلت إنني لو خيرت بين أن أكون قاتلاً أو مقتولاً لاخترت أن أكون مقتولاً. فالقاتل معرّض لأقسى العقوبات وهي الندم، أي وخز الضمير، وفي وخز الضمير عذاب ما بعده عذاب. هذا بالنسبة إلى من يتمتع بضمير حي.
ثم إنني لا أرى في الإعدام عقوبة تردع. فالعقوبة تفرض عادة على من يرتكب إثماً حتى لا يعود فيرتكب مثله مرة أخرى. أما إعدام القاتل فليس عقوبة بهذا المعنى، إذ لا سبيل إلى ردع القاتل عن تكرار فعلته بعد إعدامه. قد يقال إن عقوبة الإعدام تفرض عموماً لردع آخرين عن ارتكاب جرائم قتل مماثلة مستقبلاً. قد يكون في ذلك شيء من التحليل الصادق، ولكن الواقع أن عقوبة الإعدام لم تكن يوماً فعلياً، ولا هي اليوم، الرادع الفاعل لجريمة القتل في أي مجتمع. بدليل أن معدل الجريمة في المجتمعات التي تطبق عقوبة الإعدام لا تقل عن معدلها في المجتمعات التي تحظر عقوبة الإعدام. وهذا بلدنا لبنان، إنه يطبق عقوبة الإعدام فعلياً، وما زال معدل الجريمة فيه مرتفعاً نسبياً. وهناك من يعتبر أن المجرم هو في واقع الحال ابن المجتمع ونتاجه. لذا فإن مكافحة الجريمة تستوجب بطبيعة الحال عملاً منهجياً لإصلاح شأن المجتمع والقضاء على الآفات التي تعتمل فيه والاختلالات التي تعتوره.
ثم إن حكم الإعدام من الأحكام التي يصدرها أناس من البشر. وجلّ بين الناس من لا يخطئ. هل يستطيع أحدنا أن يتصور فظاعة واقع يظهر فيه بعد تنفيذ حكم الإعدام بأحد المحكومين أن الحكم كان جائراً وأن الجاني الحقيقي هو غير الذي صدر الحكم في حقه. وكان لبنان يوماً حالة مماثلة، حيث حكم أحدهم بالإعدام ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد، ثم اكتشف الجناة الحقيقيون في الأردن ونفذ حكم الإعدام بإثنين منهم في عمان، وعندما سئل المحكومان عن علاقة المحكوم في لبنان بالجريمة أكدا نفي أية علاقة له بها من قريب أو بعيد” .
وختم: “هكذا نقف ضد عقوبة الإعدام، كون القتل إزهاقا للروح وهذا لا يجوز حتى في معاقبة المجرم، فالسجن المؤبد هو العقاب المتاح. هذا فضلا عن أن الإعدام لا يردع من ينفذ في حقه بعد أن تزهق روحه. والتجارب دلت على أن عقوبة الإعدام لا تردع جريمة القتل حيث تتفشى هذه الجريمة. فردع الجريمة لا يكون إلا بتنمية خلقيات المجتمع وبنيته وسلوكياته وقيمه. وأخيرا لا آخرا فحكم الإعدام قد يبنى على حيثيات خاطئة، فكيف يمكن تعويض الخطأ بعد تنفيذ الحكم؟.
إلى كل ذلك علينا أن نجاري العصر. فالتوجه العام في العالم المتحضر ينحو في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام. لكل هذه الاعتبارات، أشعر براحة الضمير، لأنني لم أوقع على مراسيم الإعدام. ولقد أنفقت في سدّة رئاسة الوزراء منذ عام 1976 ما يناهز التسع سنوات لم أوقع خلالها على مرسوم بإعدام أحد والحمد لله” .
Best Development Company in Lebanon
iPublish Development offers top-notch web development, social media marketing, and Instagram management services to grow your brand.
Explore iPublish Development