المطران عودة: نشهد ولادة لبنان الجديدة إن لم نشهد صدق اللبنانيين وحسن نواياهم

وبعد قراءة الإنجيل المقدس، ألقى عظة جاء فيها: “نعيد اليوم لذكرى تجسد ابن الله، ربنا يسوع المسيح الذي “أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس” وبينهم من أجل خلاصهم. ويقول بولس الرسول أيضا في رسالته إلى أهل غلاطية: “لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني” (غلا 4: 4-5). وعملية الفداء في تدبير الله الخلاصي لم تكن موجهة إلى فئة من الناس، أو محصورة بفئة معينة من البشرية. “لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين” (في 2: 4). الله تجسد ليخلص البشر، ليفتدي البشرية جمعاء، ليكسر السياج الذي يفصل بين الإنسان وخالقه وبين الإنسان والإنسان، وسببه الخطيئة ومعصية الله: “لأنه هو سلامنا الذي جعل الإثنين واحدا ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة” (أف 2: 14-15).
تجسد الرب يسوع ليزيل ما يعيق الإنسان من الإرتفاع إلى حضن الخالق. وخلال حياته على الأرض كان يسوع النموذج الذي على خطاه يجب أن نسير. كذلك رسم لنا خلال حياته القصيرة على الأرض الخطوط العريضة لحياة القداسة التي على كل مسيحي أن يحياها. المسيحية سلوك حياة: “ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد إن له إيمانا ولكن ليس له أعمال” (يع 2: 14).
لقد أتى إلى يسوع فريسي ليجربه قائلا: “يا معلم، أية وصية هي العظمى في الناموس. فقال له يسوع تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء” (متى 22: 36-40).
هاتان الوصيتان اللتان تركهما لنا ربنا المتجسد هما ركيزة إيماننا نحن المسيحيين. الله محبة: “إن قال أحد إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب” (1 يو 4: 20). إذا “قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا” (1 يو4:8). الله أوصانا أن نعتنق المحبة مبدأ لنا نسير بهديه حتى نكون كاملين كما أن أبانا الذي في السموات هو كامل. والمحبة المقصودة ليست محبة الأهل أو الأقارب والأصدقاء. إنها المحبة الشاملة المطلقة التي، كالشمس، لا تحجب عن أحد. إنها محبة ذاك السامري الذي وحده دون غيره توقف من أجل مساعدة من كان عدوه، أي رجل يهودي تعرض له اللصوص وضربوه. لقد ساعد السامري اليهودي دون هدف أو غاية، ودون سابق معرفة، بل بالرغم من العداوة التي كانت بين السامريين واليهود. أحبه دون أي مقابل، ومثل هذه المحبة المجانية يفوق كل كلام معسول ووعود كاذبة (أنظر لوقا 10: 25-37). إنها الفعل الذي يجسد الفكر، والفكر هنا نابع من الأخلاق.
كم ينقصنا نحن المسيحيين أن نكون على صورة هذا السامري الذي فاق بمحبته كل علم اليهود ومعرفتهم بالكتاب المقدس. وكم ينقصنا في هذا البلد أن نحب بعضنا بعضا كما أحبنا الرب الإله إلى حد إرساله ابنه الوحيد ليصلب ويموت من أجل خلاصنا، من أجل أن يشترينا بدمه الكريم ويفتدينا. وقد علمنا قائلا “طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين” (متى 5: 11). هذا يعني أنه علينا أن نشهد للرب الإله مهما كانت العقبات والصعوبات. والشهادة له صعبة لأن على كل واحد منا أن يكون نورا يعكس نور الرب يسوع وخميرة تخمر العجين كله رغم صغرها. إن اتباع المسيح يستدعي التواضع وإنكار الذات. المسيحي الحقيقي إنسان وديع يرفض الظلم ولا يدين، إنسان لطيف، متواضع، محب، متفان من أجل الآخرين، مدافع عن الحق، منفتح على الجميع وقابل للجميع. المسيحي لا يعرف الإنعزال ولا القوقعة، ولا يحتمل أن يعزل أو يظلم. “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم” (متى 5: 44). هذا ما علمنا إياه ربنا المتجسد الذي سامح صالبيه وغفر لهم. وهو تجسد “ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد” (يو 11: 52).
بميلاده أراد الرب ولادة جديدة للعالم. أراد للإنسان أن يخلع عنه ثوب الخطيئة واللعنة وأن يعود إلى أصالته، إلى صورته البهية التي خلق عليها في الفردوس. المسيح ولد لينهض الصورة التي سقطت منذ القديم. بميلاده المتواضع في مغارة علمنا أن الأهم ليس الغنى أو الجاه أو ما شابه، بل القصد والهدف. المهم هو التواضع، هو العمل، هوالإنجاز. طفل وديع ملفوف بالأقمطة ومضجع في مذود حقير قد أخاف ملك اليهود هيرودس. الملك العظيم خاف طفلا أعزل، ما يعني أن القوة قد تنبع من الضعف وأن المسيح لم يكن ساعيا وراء ملك أرضي بل كانت إرادته أن يصعد الإنسان إلى مملكته السماوية. نزل من السماء ليجعل الأرض سماء، ليوحد البشر ويجمعهم إليه. لذلك من يعمل على تفريق البشر يعمل عكس إرادة الله. هنا أسأل: هل يدرك اللبنانيون أنهم ينتمون الواحد للآخر وأنهم ينتمون إلى وطن واحد فريد بفسيفسائه؟ صحيح أن عدد الطوائف في لبنان ثماني عشرة ولكن ألسنا نؤمن بإله واحد ونسكن أرضا واحدة ونستظل دولة واحدة؟ فلم التشتت والتفرقة والإنعزال؟ الأسرة المفككة تنهار وينهار أفرادها، أما تلك الموحدة فيجتمع أعضاؤها على السراء والضراء، وفي اجتماعهم تكون قوتهم. هذا ينطبق على الوطن، الأسرة الكبيرة التي تجمع كل المواطنين، وبديهي أن يجتمع المواطنون من أجل خير وطنهم، وأن لا يسمحوا ليد الشر أن تفرقهم وتزعزع ترابطهم، ولا للأنانية أن تبعد الواحد عن الآخر مهما كانت الذرائع أو علل الخطايا.
إحترام واحدنا للآخر واجب، ومن لا يحترم أخاه لا يحترم نفسه. وإن كانت محبة العدو أمرا إلهيا فكيف نهمل محبة الأخ المواطن ومحبة الأخ القريب التي هي وصية إلهية عظمى. طبعا هناك وجهات نظر عديدة بين اللبنانيين وهذا أمر صحي. لكن الإختلاف يجب ألا يتحول إلى خلاف. ولنتذكر دائما أننا، رغم اختلافاتنا، كلنا بشر توحدنا الإنسانية، وكلنا لبنانيون يجمعنا حب الوطن والإنتماء إليه. ولن يخرج وطننا من الصعوبات والمحن إلا متى أحس كل واحد منا، كل لبناني، بأن لبنان وطنه وبأن اللبناني الآخر أخوه، ومتى قام كل منا بكامل واجباته تجاه وطنه، وتمنى لأخيه ما يتمناه لنفسه، وعامل أخاه كما يحب أن يعامل هو، ومتى رفض لأخيه ما يرفضه لنفسه. بكلام آخر، لن نشهد ولادة لبنان الجديدة إن لم نشهد صدق اللبنانيين وحسن نواياهم تجاه بعضهم البعض. فإن تألمت فئة يتألم الجميع معها، وإن فرحت فئة يفرح الجميع، وإن أحست فئة بالغبن أو الظلم يتدافع الآخرون لرفع الظلم عنها. هذا يعني أن يحب بعضنا بعضا لا أن نتبادل الحقد والكيد والكراهية والتشفي ونتراشق بالإتهامات من أجل جني المكاسب، وننصب أنفسنا ديانين على الآخرين، ننعتهم بشتى النعوت، متناسين قول الرب لنا لا تدينوا لكي لا تدانوا، ونصيحته أن ننظر الخشبة التي في أعيننا قبل القشة في عين غيرنا.
في يوم الميلاد المجيد أدعوكم أيها الإخوة الأحباء إلى النظر مليا في معنى رسالة ربنا يسوع المسيح إلى البشر، عل ذلك يساعدنا على الخروج من المآزق التي نرمي أنفسنا فيها. ولنكف عن إطلاق النظريات والشعارات دون العمل بها. ولتكن محبة الرب الإله لنا، وتواضعه وتنازله من أجل أن يخلصنا جميعا، وغفرانه لخطايا الإنسان منذ عصيان آدم حتى كبرياء إنسان اليوم وتعجرفه واستغلال أخيه الإنسان، لتكن كلها منارة لحياتنا، نستلهمها من أجل أن نحيا حياة قداسة ومحبة وتضحية وغفران. ولتكن ثمار الروح: المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والتعفف ظاهرة في سلوكنا، وليعمل كل منا بحسب ما يمليه عليه الضمير والواجب بدل إطلاق النظريات والشعارات دون العمل بها وكأنه يتوجب دائما على الآخر فقط أن يطبق النظريات والمبادئ.
أما أنتم أيها المسيحيون فلا تتلهوا بتعداد المخاطر التي تحيق بكم أو تهدد وجودكم بل اعملوا بما علمكم إياه ربكم وسيدكم وفاديكم. كونوا مسيحيين حقيقيين حياتكم تعبر عن إيمانكم وأعمالكم تترجم أفكاركم، ولا تنسوا ما قاله الرب لكم: “لا تخف أيها القطيع الصغير فقد حسن لدى أبيكم أن ينعم عليكم بالملكوت” (لو 12: 32). أما كاتب المزامير فقال: “ألق على الرب همك وهو يعولك” (مز 55: 22). إن القلق يعني عدم الإيمان، وهو خطيئة. أليس تناقض في حياتنا أن نبشر بإيمان لا نمارسه؟ ألا نؤمن بأن القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله” (مز 50: 19) وبأن من يهتم بسنابل الحقل وطيور السماء لن يترك من اختار أن يتبعه؟
ولكن كيف ننتصر على القلق؟ الخطوة الأولى تكمن في إدراكنا أن الله يعرف مخاوفنا وما نحتاج إليه لأننا خراف في قطيعه الصغير، أفراد في عائلته، خدام في مملكته، وهو يزيل كل مخاوفنا ويزرع الرجاء في قلوبنا.
المؤمن الحقيقي لا يخاف لأنه يحب الله ولا خوف في المحبة. وهذا المؤمن يلتقي مع أي مؤمن حقيقي على عبادة الله واحترام الآخر، مهما كان الآخر مختلفا.
الإيمان عنصر توحيد بين البشر لا عنصر تفرقة. الإيمان لا يخيف لأنه مصدر حياة ومحبة. التعصب هو المشكلة لأنه يولد الأصوليات والتزمت ويجعل الإنسان في الظلام. وقانا الرب شر الإنغلاق والتزمت، وجعلنا من أولئك الذين يطيعون تعاليمه ويبشرون بالإيمان والرجاء والمحبة واحترام الإنسان والإنفتاح على الجميع، ويغفرون للناس زلاتهم كما أوصاهم الرب، ليس بالكلام إنما بالأفعال.
حفظكم الرب الإله الذي ولد سلاما للعالم وبسط سلامه في لبنان وفي المسكونة كلها”.
Best Development Company in Lebanon
iPublish Development offers top-notch web development, social media marketing, and Instagram management services to grow your brand.
Explore iPublish Development