المقالات

الثورة والتثوير بقلم: محمد علي الحلبي – دمشق

بادئ ذي بدء،فلقد أكدت ثورة الشباب المليونية في مصر سواء كانت في ميدان التحرير أم في باقي المدن المصرية حقائق أساسية بعضها من السمات المشتركة لكل الشعوب في أنحاء العالم،والبعض الآخر تبدت مرتسماته على جغرافية الوطن العربي.
– عندما تعاني الشعوب من ويلات وقسوة حكامها أومن المحتلين الذين احتلوا أرضها وعبثوا بمقدساتها وكراماتها،فإنها  تستكين لفترة تقصر أو تطول بفعل عوامل عديدة سياسية،واجتماعية،واقتصادية لتتفجر بعدها كالسيل العرم لتطيح بكل ركائز الماضي وحتى عناوينه،ففي عصر التنوير في القرنين15، 17  بدأ نمّو الحركات الفكرية الداعية إلى أفكار جديدة واضعة الحريات في سلم أولياتها،ولتلغ أو تخفف من التفاوت الطبقي في ظل الحكومات الملكية غير العادلة،فكانت الثورة الفرنسية يوم4آب-أغسطس-1789،وكانت الثورة البلشفية في روسيا عام1917،وقامت ثورات في الوطن العربي ضد الاحتلال،وضد أنظمة العمالة لها فكانت ثورة”رشيد عالي الكيلاني”في العراق عام1941،وثورة اليمن عام1948،وكانت ثورة الأحرار في مصر عام1952،والتي قادها الراحل”جمال عبد الناصر”،وقبلها شملت الثورات أغلب محافظات سوريا ضد الاحتلال الفرنسي إلى أن تمّ الاستقلال، كما وكانت الثورة الإيرانية عام1979ضد الشاه عميل أمريكا،وهكذا أصبحت الثورات سنّة من سنن الكون تنبجس بغزارة كانبجاس الماء من السحاب،ومن العيون الفائضة عند ازدياد الجور والظلم .
–   الثورة المصرية،التي بدأتها جماهير الشباب في25من كانون الثاني- يناير- لهذا العام أثبتت وحدة الأمة العربية،فلقد تجمّد وتسمّر الكثيرون من أبنائها من المحيط إلى الخليج أمام شاشات التلفاز يتابعون أخبارها تنتابهم مشاعر الخوف عليها،وآمال النجاح لها رافعين الأدعية  لله بالنصر لأبطالها،ولأن الأوضاع في أغلب الأقطار العربية تشابه وتماثل الأوضاع في مصر فلم يستطع المؤيدون لها والمحبّون لأبطالها النزول إلى شوارع عواصم ومدن بلدانهم لتأييدها،لكنها أججت مع ثورة تونس التي سبقتها الآمال في النفوس،والتطلع إلى غدٍ مشرق لهذه الأمة المجيدة تنتفي منه كل ظواهر الاستبداد والاسترقاق،وهكذا تجذرت عوامل الوحدة والتوحد في الحاضر والمستقبل،والأماني بغدٍ خالٍ من كل وجميع رواسب الماضي التي خلّفها المستعمرون وأنظمة الخنوع لهم،والتفاني في تحقيق مطالبهم.
ولو ألقينا نظرة على دوافع وعوامل هاتين الثورتين”تونس ومصر”لوجدناها متوضّعة وجاثمة فوق أركان الوطن العربي الكبير تتجسد في:
1-    انعدام الحريات، والقمع المستمر، والسجون التي ضاقت بأصحاب الرأي مهما كانت درجات معارضتهم.
2-    كان الاتجاه السائد لتعميم النظام الملكي الأسرويّ حتى على ما يسمى زوراً بالجمهوريات،فالرئاسات فيها زاد عمر بعضها عن الأربعين عاماً،بل قارب النصف  قرن،والتحضيرات تستكمل لتوريث الأبناء.
3-    في ظل أنظمة الاستبداد، وإلغاء الحريات والنقد،  كان لابد من إسهامها  في تزايد عوامل الاستكانة  في مجتمع    اصيب بويلاتها لذا عمدت  الى خلق بؤر ومستنقعات ساكنة تنمو على ضفافها الطحالب والعلق الذي يمتص ثروات الشعب ،ومن ثم دماءها وليعمّ الفساد….فلكبار المنتفعين بالثروات وهم حكامها  كل المصلحة في تعميم الارتكابات الخارجة عن القيم،وبذا يضّمون شرائح عديدة من المجتمع إلى جانبهم لتشويه أصولهم وإفسادهم،وإن كان فسادهم وجنيهم لا يوازي النذر اليسير من اختلاسات مرشديهم ومفسديهم  ،وبالتالي فإن تحدث أحدهم عن فساد الشرائح العليا ضُمّ إلى قائمة المعتقلين لأنه فاسد،والاستنتاج المنطقي لهذه الظاهرة أن صغار الفاسدين المرتشين يسرق بعضهم بعضا ،فكلما ازدادت أساليب الفساد دفع ثمنها هؤلاء،ومعهم الشرفاء من الأمة،فالإضافات والزيادات التي تذهب إلى جيوب صغار المرتشين من العاملين في أجهزة الدولة  تضاف على سعر السلع المثقلة بالرشاوى حيث يدفع جميعهم ما حصل عليه نظراؤهم في الفساد عند شرائهم السلع،والخطورة هنا تتجسد في بندين:
–    زيادة أكلاف الإنتاج،وبالتالي غلاء الأسعار،وعدم القدرة على المنافسة وتصدير الإنتاج الوطني مما يُضعف التنمية،ويقلل الدخل القومي وبالتالي الفردي،ويجمع المفكرون وعبر التاريخ على أن القيم والأخلاق تشكل كتلة واحدة مترابطة لا يمكن تجزئتها،أو الانتقاص من جزء منها فالفساد يضعف ويقتل الوطنية،ومن هان عليه وطنه هانت عليه الأشياء كلها،والمثل العربي القديم خير معبّر عن ذلك ففي كتاب(مجمع الأمثال)للميداني يقول”من هانت عليه نفسه فهو أهون على غيره”.
–    يجب أن ندرك أن قوة المستبدين مستمدة من تنظيمات حولهم أقاموها لحمايتهم،وحماية مصالحهم الدنيئة،وتركوا لأعضائها حبل المعاصي على غاربه ،وفور بدء الهزات المتناوبة على وجودهم يعتريهم الخوف من المحاسبة فيتزايد تمسكهم وتماسكهم حفاظاً عليه ،وللهرب من حتمية محاسبتهم ومن  تطبيق العقوبات عليهم،والأنظمة الشمولية المستبدة في حقيقتها وكنهها عاقة لشعوبها…قاطعة لرحم الوصل معها ،  ولإخفاء عوراتها وذنوبها وآثامها تلجأ إلى التحريف والتزييف بكل أنواعه وبكل شيء في التعابير والمسميات،وحتى في المضمون،وذروة التزوير تجلت في اسميّ الحزبين القائدين سابقاً في تونس….الحزب الدستوري وهو أبعد ما يكون عن الأسس الدستورية الناظمة والحافظة لحقوق المواطنين،ومثله الحزب الوطني في مصر فهو مرتع لفجور الفاسدين الناهبين لثروات الوطن،والمزوّرين حتى لإرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع،ويتوسع التزوير أكثر في خلق مؤسسات ومنظمات من أحزاب ومجالس شورى وبرلمانات أصبحت مواخير ومجالس ريبة يجتمع أهل الفسق والفساد فيها همهم الصمت عن مآسي الناس و عن قول الحقيقة والحق،وترديد الشعارات المضللة والكلمات الجوفاء ،وأناشيد سيئة في نصها وأكذوبة كبرى في معانيها  لأرباب نعمهم.

العنوان الذي تقصدته خير معبّر،وحاوٍ للمضامين التي حملتها الثورة،وما زالت تحملها منذ أيامها الأولى فالثورة في اللغة مصدر للفعل”ثار”ويعني”هاج”،ويبدو لنا أن أغلب الكلمات العربية المنتهية بحرفيّ  “ا ر”   كثار،حار،مار،وجار….تشير إلى انفعالات وهياجانات،لكن لنضف إليها”الشدة”فتصبح”ثوّر”الأمر أي بحثه،ومثلها  “حوّر الاتجاه أي غيره “،فمع”الشدة”ينتقل المعنى إلى مصاحبة للعقل،والإرادة الفاعلة.
وطرفا المعادلة المصرية:
شعب ثار، وثوّر أموره، وكان قد عَرف بالحسّ الوطني السليم هموم أمته، وأدرك بعقلانية رائعة الحلول لها، ووضع المطالب والبرامج لتحقيقها….في المقابل تنظيم،بل تنظيمات السلطة الباغية التي فشل اضطرابها وهياجها،وبالتالي سياساتها في القضاء على الثورة   ,  ففي الأيام الأولى اشتدت وتمادت  في تعسفها أجهزة القمع الأمني بتعدد  فروعه لكنها  هزمت وآلت الى اضمحلال وزوال ،دفع ثمن تجنيها  الثائرون العديد من الشهداء والجرحى،تلتها عصابات الأذى (البلطجية)  وتركت آثار من سلوكها المنحرف على المعتصمين في الساحات،وأيضاً فشلت في إخافة وثني أبطال الانتفاضة عن متابعة ما بدؤوه،ونادوا به.

في هذه الأيام،وقد خسر النظام،وفشلت خططه راح يراهن على استغلال عامل الزمن لبث اليأس في النفوس الطاهرة،وبدأ الإعلام الرسمي يوجّه جهوده لنقل صور عودة الحياة العادية إلى بعض الشوارع شارحاً في برامج عدة انعكاسات الثورة على الاقتصاد والأمور المالية متناسياً ومتجاهلا ًحقيقة مؤكدة عن بؤس في الأوضاع الاجتماعية،والتي ترسبت خلال ثلاثين عاماً من حكم الطاغية،كما عمدت السلطة إلى استغلال طاولة الحوار لتمزيق وحدة المناضلين ولإطالة الزمن،ورمي الفتات والوعود الكاذبة ،لكن وفي تقديرنا،وبعد أن عمد الثوار إلى تشكيل لجنة قيادية مكونة من عشرة أعضاء دعمت وجودها وتحركها بعشرين عضواً من أصحاب الفكر والرأي العميقين  والاختصاصات المؤيدين لها،وبدأت تصعّد من مطالبها،ولم تعد تكتف بالاعتصام.
لقد تركت بصمات مشرقة على تاريخ مصر العربي،وأعادته إلى جذوره في الإخاء بين المسحيين والمسلمين في الصلوات المشتركة التي تنادوا إليها شارحين للعالم أجمع أن الصدام المفتعل بين الديانتين كان بوحي خارجي وتنفيذ داخلي،ولذا تقدم محامون إلى القضاء بدعاوى لديهم ثبوتيات الإدانة ضد  وزير الداخلية السابق المتهم بأن له ضلعاً بالمؤامرة،بل وحرك التثوير منظمات المجتمع المدني لتحتل كل منظمة جانباً من النشاطات الموكلة أصلا ًإليها،فالأطباء قاموا بدورهم في إسعاف المصابين،والمحامون ينوون الاعتصام أمام القصر الرئاسي،والجمعيات راحت تنقل الغذاء والدواء لأماكن الثورة،والمطلوب ولنجاح الثورة المزيد من التخطيط وبرامج التنفيذ….جميل أن تتركز المطالب في رحيل الرئيس،وإلغاء قانون الطوارئ،والإفراج عن المعتقلين السياسيين،وحلّ مجلسي الشعب والشورى المزيفيّن،ومحاسبة المرتشين،وتعديل الدستور لضمان حريات أوسع وأمتن للجماهير،وقد يكون من المفيد تحريك الجماهير ضد النظام في كل مجال وناحية للمطالبة بحقوقها بالخدمات التي حُرمت منها،والأشد إلحاحاً أن تضع نقابة المهندسين خطة تأمين السكن للجيل الصاعد،وإلغاء العشوائيات،والسكن في المقابر عبر تنظيم أملاك الدولة،وإنشاء الجمعيات السكنية ودعمها بالقروض.

ليس من المستحيل على الثورات طالما انتقلت من الثورة إلى التثوير وحققت نجاحات في تحقيق مطالبها …. لتكون المرشد والهادي لثورات قادمة على الأنظمة الشمولية الباقية ،وعمالتها لأمريكا والعدو الإسرائيلي،فالوقاحة الأمريكية وضحت أبشع صورها في تدخلها اليومي في الشؤون الداخلية لمصر مشتركة مع النظام في التزييف وعهر الكذب،فهي داعمة كانت وما زالت للنظام وأركانه لكنها تتحدث بلغة ناعمة في تأييد مطالب الشعب،والشعب في ثورته بأبعادها السياسية والاجتماعية يرفض الأوضاع المتخلفة داخلياً،وكبت الحريات في ذات المستوى لرفضه العمالة لأمريكا وحليفتها إسرائيل…..جميعها ثوابت للعمل الوطني،والمنطلقات النظرية للثورات القادمة فوق الأرض العربية.

محمد علي الحلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى