المقالات

أحبب وافعل ما تشاء (5) أرني محبّتك حتّى أصدّق أنّك مؤمن. مادونا عسكر/ لبنان

كان العالم “ألبر أنشتاين” عائداً إلى أميركا بعد رحلة قضاها في أوروبا، فاستوقفه أحد الصّحفيّين في المطار سائلاً إيّاه عمّا إذا  كان يؤمن بوجود الله. فردّ العالم الشّهير: “حدّد لي مفهومك عن الله وسأجيبك إن كنت أؤمن أو لا”.  
غالباً ما يُردُّ على هذا السّؤال بتلقائيّة إيجابيّة، وكثيراً ما تنطوي الإجابة على تأكيد وفخر وتعالٍ، إذ إنّ بعض المؤمنين يعتبرون ذواتهم أرفع من غيرهم ويصنّفون أنفسهم بشراً من الدّرجة الأولى. الإجابة على سؤال (هل تؤمن بوجود الله؟)، تفترض جواباً دقيقاً مرتبطاً بالصّدق والوعي، والإخلاص للذّات.  يسهل علينا إعلان إيماننا ولكنّه يصعب علينا ترجمة هذا الإيمان ما لم يكن يقيناً ثابتاً، راسخاً في عمق الذّات الإنسانيّة. قد نظهر كمؤمنين بممارستنا لطقوس عدّة ومختلفة، وبتطبيقنا لنصوص كتابيّة شتّى، أمّا ما يخفيه البعض في دواخله ليس إلّا خوفاً من نار أو طمعاً في جنّة. وهنا ينتفي مفهوم الإيمان الحقيقيّ، إذ إنّه قابل للتّبدّل والتّحوّل في أيّ لحظة انعدم فيها الخوف والطّمع.
الإيمان هو تصديق ما لا يُرى، والمعنى متناقض إذا ما حلّله العقل، فالتّصديق يحتاج للإثبات والدّليل. بيد أنّ الإيمان بالله لا يحتمل من الأدلّة الحسيّة والعلميّة إلّا اليسير منها، ويبقى دليل المؤمن شخصيّاً ولا يمكن تلقينه للآخر، كما لا يمكن جعله معادلة حسابيّة منطقيّة قابلة للبرهان والتّأكيد.  بالمقابل، إذا أيقنا أنّ الإنسان أبعد من كائن بيولوجيّ يدرك الأمور الحسّيّة فقط، ويحمل في ذاته توقاً إلى المطلق، وقدرة على تحسّس ما لا تعاينه الحواس، كالحبّ والجمال والفنّ…،  وأنّ بإمكانه تغذية بصيرته، تلك القوّة الدّاخلية القادرة على تلمّس وتبيان ما لا يرى، وتهذيب عقله فيمتلك الحكمة، سيصبح تعريف الإيمان غير متناقض، ويمسي الإيمان تصديق ما لا يرى بالحواس وإنّما يُرى بالبعد الدّاخليّ والرّوحيّ للإنسان. والتّصديق يفترض عاملين أساسيّين، الأوّل وهو الثّقة بمن نؤمن، والثّاني، الحبّ، إذ إنّه لا يمكن تصديق من لا نحبّ.
– الإيمان الثّقة:  
نحن نؤمن أقلّ بكثير ممّا نقول، وإلّا لاختفت شكوكنا وتساؤلاتنا واستفهاماتنا حول حقيقة وجود الله، ولسيطر علينا الذّهول والدّهشة بشكل مستمرّ، ولعشنا حياتنا بخشوع مستديم، إذ إنّ الإيمان أي الثّقة الثّابتة بالله أقوى من أن يحتملها العقل البشري، لذا يبقى العقل مضطرباً ومشكّكاً وباحثاً عن الحقيقة. والأهمّ أنّه لو بلغ إيماننا أقصى درجاته لما شهدنا خلافات واختلافات حول طرائق الوصول إلى الله. من هنا تتباين الثّقة، العنصر الأوّل، بين شخص وآخر، نسبة لدرجة قبول العقل البشري هذه الحقيقة ونسبة للسّماح لهذه الحقيقة بالتّسرّب إلى القلب.  وبكلامنا عن ثقة، نحن نعرّف الإيمان على أنّه علاقة وبالتّالي وجود الثّقة يفترض وجود شخص نؤمن به ونصدّقه تصديقاً كاملاً، لأنّنا تلمّسنا حضوره الشّخصيّ واختبرنا مرافقته لنا. ولو بحثنا جدّيّاً لوجدنا أنّنا نثق بالله أقلّ بكثير ممّا ندّعي بدليل اضطرابنا وقلقنا في الأزمات والصّعوبات، حتّى يصل بنا الأمر أحياناً إلى اعتبار أنّ الله تخلّى عنّا.
إنّ مفهوم الله يختلف من شخص إلى آخر ومن مجموعة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى، إلّا أنّه إن بقي في إطار الفكرة أو المفهوم، فلا يمكن عندها الحديث عن ثقة، فالثّقة ضمن العلاقة تحتاج لشخص وليس إلى وهم. والفكرة قد تكون وهماً والأيديولوجيا قد تتبدّل أو تتطوّر، أو حتّى تُدحض، وبالتّالي الثّقة بالله تتخطّى الثّقة بفكرة لتتحوّل إلى ثقة بشخص حيّ، يتفاعل معنا ونتفاعل معه، يخاطبنا ونخاطبه، ندعوه ويستجيب، وبالتّالي كمؤمنين ومن خلال هذا التّفاعل نبني علاقة مع الله ترتكز على الثّقة والتّصديق بأنّه الّذي يرانا ولا نراه، ويحضر معنا كلّ حين.  
هذه الثّقة الّتي تشكّل عماداً للإيمان ينبغي أن تنطلق من وعي وإدراك عقليّين، فيغدو الإيمان حقيقة يقبلها العقل ويُسمح لها بالتّسرّب إلى القلب ليتمكّن هذا الأخير من معاينة ما لا يُرى. إيمان أعمى وغير واعٍ هو إيمان باطل وكاذب وغير مرتكز على أسس متينة تثبّت عامل الثّقة بين الحبيب والمحبوب. والإيمان الأعمى ينطلق من مبدأ الموروث، في حين أنّ الإيمان العلاقة يُبنى على اختبار شخصيّ، وليس على موروث. لا ريب أنّ الإنسان يحتاج إلى مبادئ إيمانيّة معيّنة، بيد أنّه يحتاج للبحث الشّخصيّ والاختبار الشّخصيّ لهذه العلاقة، فلا تعود قابلة للتّزعزع. عندما يقودنا المنطق إلى وجود الإله، الشّخص الحيّ، وينفتح قلبنا عليه، عندها يمكننا المجاهرة بالإيمان، وما عدا ذلك إمّا يدخل في إطار الخوف من إله لا نعرفه وإمّا في إطار الانسياق ضمن مجموعة أحكمت السّيطرة علينا بمفهومها لله، وسيطرت على عقلنا وتمكّنت من قلوبنا، وإمّا أعجبتنا فكرة التّسلّط على الآخر باسم الله واستباحة ملكه وعرضه وكرامته.
لو ألقينا نظرة على الواقع فسنجد الكثير ممّن يدّعون الإيمان مقابل القليل الّذي يؤمن حقّاً ويتفاعل مع الله الحيّ، فينتج عن إيمانه هذا أعمال تخرج عن القوقعة الطّائفيّة، وحرّيّة تتخطّى قيود الانغلاق في دين لتبحث عن الشّخص الموثوق به (الله). فتصبح العلاقة بينه وبين الله علاقة متجرّدة وحرّة، تنطلق من الإنسان نحو الله، في بحث مستمرّ عن الحقيقة.
الثّقة بالله هي القدرة على تخطّي الذّات، والقوّة الّتي تدفع الإنسان لرؤية الموثوق به  بشكل جليّ من خلال حضوره الفعّال والحيّ.
– الإيمان الحبّ:
إنّ مؤمناً يسخر من آخر مختلف عنه، أو يظنّ نفسه أكثر قيمة منه، أو يحسب أنّ السّماء ملكاً له وحده، هو إنسان متناقض مع نفسه وغير صادق في إيمانه. المؤمن بالله، هو شخص أحبّ الله ووثق به، واعترف بأنّ الله حبّ وكلّ ما ينبثق عنه هو خير وحبّ وجمال. كما أنّ مؤمناً يدّعي أنّه من شدّة حبّه بالله يفرض نفسه وعقيدته على الآخر، بل ويستخدم القوّة لإخضاع هذا الآخر، هو إنسان يعاني من اضطراب نفسي يقوده إلى إثبات نفسه على حساب مفهومه الإيمانيّ حتّى يشعر بقوّته وقيمته.
الله حبّ، وما لم يكن كذلك فكيف نتفاعل معه بحبّ، وكيف نحبّه ونثق به؟ افتراضية أنّ الله ليس حبّاً تنفي كلّ ثقة به ليحلّ مكانها الخوف، وتقضي على الحبّ إذ إنه لا توافق بين الحبّ والخوف، وحيث يحلّ الخوف يتلاشى الحبّ والعكس صحيح. وكلّ محاولة للتّسلّط على الآخر ولفرض عقيدة معيّنة، وكلّ اضّطهاد هنا وهناك تحت غطاء إحكام الدّولة الدّينيّة يعبّر عن سلوك مرضيّ وإجراميّ وليس عن إيمان. إن كان المؤمن يدّعي الإيمان حبّاً بالله، فكيف يمكنه أن يرذل من وما أوجده الله. من يحبّ الله حقّاً يخشى أن يجرح ورقة على غصن يابس، ويخاف أن يدوس زهرة عن غير قصد، وهمّه الأكبر أن يرعى أخاه الإنسان، لأنّه كائن من كان هو خليقة الله.
إنّ الإيمان بالله، أي حبّ الله يفرض علاقة حبّ مع الإنسان، والحبّ الممنوح للإنسان يفترض علاقة حبّ مع الله. فتستحيل العلاقة عاموديّة مع الله وأفقيّة مع الإنسان، وكلّ ما ينتج عن الإيمان غير الحبّ، ليس سوى هرطقات وادّعاءات ونفاق. الإيمان الحبّ، علاقة داخليّة صامتة مع ذاك الحبيب الأسمى الّذي يجذبنا دوماً إليه، وعلاقة خارجيّة ملؤها المحبّة غير المشروطة مع الإنسان، أساسها التّفاعل مع الآخر بهدف البنيان والانفتاح عليه واحترام حريّته وكرامته الإنسانيّة، فتتشكّل ركائز الصّلاة الأولى الّتي هي حوار مع الله ومع الإنسان. إن كنّا لا نجيد الحوار مع بعضنا البعض على أساس التّفاهم والمحبّة والحرّيّة فكيف سنتحاور مع الله؟ وإنّ كنّا نهين الكرامة الإنسانيّة فكيف نتجاسر بعد على إعلان الإيمان؟
أيّاً كانت العقائد أو الانتماءات الدّينيّة، ما لم تكن في خدمة المحبّة والكرامة الإنسانيّة، فهي باطلة وغير فاعلة في النّفس الإنسانيّة لتعدّها لعالم الله ومجده السّماويّ. ولا نبحثنّ كثيراً عمّا يثبت إيمان هذا وكفر ذاك وارتداد ذلك، فالمؤمن الحقيقيّ مستعدّ أبداً لجذب الإنسان بمحبّته وانفتاحه. وهو في نضال مستمرّ ومتواصل من أجل خدمة الإنسان، أي إنسان لأنّه أحبّ الله حتّى أنّه بات يتلمّسه في كلّ مخلوقاته.
بالمقابل يحسن أن نفهم أنّ الحبّ لا حدود له والوصول إلى مرحلة الاكتفاء منه تعني نهايته. لذا فالحبّ هو حياة متحرّكة ديناميكيّة أبداً، تحيي الإنسان وتخلقه من جديد كلّ يوم. وهو فعل إلهيّ في الإنسان حتّى يمنح حبّه للآخر بصدق وأمانة فيثبت حبّه لله. كما يحسن أن نعيَ وندركَ أن إيماننا غير مرتبط بطمع بجنّة أو بخوف من جهنّم، لأنّ الحبّ لا يخضع لشروط بل هو فعل مجّانيّ، وبالتّالي يكون الحبّ لله حبّاً من أجل الحبّ، ويكون الحبّ للإنسان حبّاً من أجل الحبّ.
ليس لأحد فضل على أحد إلّا بالمحبّة، وليس لأحد دَيْن على أحد إلّا دَيْن المحبّة، ولا يحيا الإنسان كرامته الإنسانيّة إلّا إذا حوّل طاقة الحبّ الّتي نفخها الله فيه باتّجاه الله والإنسان، ولا يكون حرّاً ما لم يرفعه الحبّ إلى السّماء وهو ما زال يسكن العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى