ثقافة

“لبنان الرسالة” والإرشاد الرسوليّ : تحدّيات الصيغة والميثاق

شكّل تسليم قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر الإرشاد الرسوليّ الخاصّ بمسيحيّي الشرق الأوسط، من لبنان، بعدًا استثنائيًّا يتلاقى مع الرمزيّة الاستثنائيّة التي قارب فيها قداسة الراحل الطوباوي يوحنّا بولس الثاني هذا البلد على أنّه “أكثر من وطن بل رسالة”
. ويطرح البعد الاستثنائيّ هذا المتلاقي مع الرمزيّة تلك، تحديّاتٍ مفصليّة على وطنِ الصيغة والميثاق خصوصًا بما يعني حماية التنوّع فيه، وتفاعل التعدّديات، وتقديم نموذجٍ في الحوار المسيحيّ الإسلاميّ يتجاوز الأطر التنظيريّة إلى تماسٍّ في عمق الحياة اليوميّة. والتحدّيات المفصلية هذه،
في ظلّ التحوّلات التاريخيّة التي يعيشها العالم العربيّ بما اصطلح على تسميته بالربيع العربيّ، أسهمت في تباعد اللبنانيّين بعضهم عن بعض، وكثّفت الاصطفافات العاموديّة والأفقيّة فيما بينهم. وقد يكون الإرشاد الرسوليّ خارطة طريقٍ للخروج من هذا المأزق. فكيف يُمكن الاستثمار الوطنيّ عندنا انطلاقًا من
توجيهات الإرشاد الرسوليّ، وما هو دور من هم في مواقع القرار، والإنتلجنسيا في عمليّة صون النموذج اللبنانيّ، نموذج حوار حضارات وأديان؟ وأي دورٍ للمسيحيّين والمسلمين في مواكبة
التحوّلات العربيّة من خلال مضامين الإرشاد بما يؤكد رسوليّة دورهم في هذا الشرق؟ وما هي الأسس الواجب أن يبني عليها الشركاء في المواطنة خيار لبنان العربيّ بقِيَم الحرية والديموقراطيّة وحقوق الإنسان لبناء دولةٍ عصريّة؟

نص البيان الإعلامي:

برعاية غبطة البطريرك غريغوريوس لحام ممثلا براعي أبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما للروم الكاثوليك المطران كيرللس سليم بسترس أقام المركز العالمي لحوار الحضارات “لقاء” ندوته الرابعة تحت عنوان “لبنان الرسالة” والإرشاد الرسولي:تحديات الصيغة والميثاق”، مساء أمس في مركز لقاء في الربوة.

شارك في الندوة النائب نهاد المشنوق، الصحافي جهاد الزين، الدكتور ناصيف قزي والدكتور أنطوان صفير، وأدارها وقدم لها الاستاذ زياد الصائغ.

وحضرها الى المطران بسترس والنائب المشنوق، الوزير الس
السابق الياس حنا، الدكتور منير معلوف ممثلا الرئيس أمين الجميل، الاستاذ وليد يونس ممثلا الرئيس سعد الحريري، الدكتور شارل جزرا ممثلا النائب العماد ميشال عون، الاستاذ ملحم رياشي ممثلا الكتور سمير جعجع، الاستاذ طلال مقدسي ممثلا وزير الداخلية مروان شربل، الاستاذ بشير ضاهر ممثلا النائب سامي الجميل، السفير خليل مكاوي، وممثلون عن قائد الجيش ورؤساء الاجهزة الامنية وعدد من الراهبات ورجال الدين والشخصيات الفكرية والسياسية والاعلامية والاجتماعية.

هاشم:

بالنشيد الوطني اللبناني بدأت الندوة، بعدها القى المدير الأكاديميّ في مركز”لقاء” الأب غابي هاشم كلمة ترحيبيّة قال فيها: في البداية، أودّ أن أرحّب بكم في لقاء – المركز العالميّ لحوار الحضارات- وتحديدًا في هذه الندوة الرابعة والأخيرة من منتداه الفكريّ، والتي تحمل عنوان ” لبنان الرسالة والإرشاد الرسوليّ : تحدّيات الصيغة والميثاق”، وقد أردنا لها أن تجمع صنّاع قرارٍ، وقادة رأيٍ يحتكمون إلى فكرٍ نقديّ، والتزامٍ وطنيّ. وهم كلٌّ من موقعه، أشهر من أن يعرّفوا، عنيت بهم النائب الأستاذ نهاد المشنوق، والمفكِّر الكاتب الأستاذ جهاد الزين، والمناضل الفلسفيّ الدكتور ناصيف قزّي، والباحث القانونيّ الدكتور أنطوان صفير.
لكلّ واحدٍ منهم الشكر العميق على تلبيتهم دعوتنا، ونحن في مرحلةٍ حسّاسة من تاريخ لبنان الصيغة والميثاق، كما نحن في زمن تحدٍّ لترجمة مضامين الإرشاد الرسوليّ الخاصّ بمسيحيّي الشرق الأوسط، والذي سلّمه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر إلى كنائسنا في لبنان. وفي هذا رمزيّةٌ مهمّة في التأكيد على دور لبنان النموذجيّ في صون القيم الإنسانيّة والدينيّة المشتركة التي تجمع أبناء هذا الشرق، على الرغم من التمايزات فيما بينهم، ومن التوتّرات التي شهدوها في تاريخ عيشهم المشترك.

بسترس:

ثم القى متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما للروم الملكيين الكاثوليك المطران كيرللس سليم بسترس ممثلا غبطة البطريرك غريغوريو س الثالث لحام كلمة قال فيها: (الملف مرفق)

زياد الصائغ:

لم يكن سينودُس مسيحيي الشرق الأوسط، كما الإرشاد الرسولي، عادياً. وذلك يعود الى أن الكرسي الرسولي شاء، وفي لحظة مفصلية من تاريخ مهد المسيحية، وحتماً مساحة لقاء المسيحية والإسلام، وفي حين بات المسيحيون يعايشون هاجس التقهقر الديموغرافي المتنامي، شاء الكرسي الرسولي، أن يبادر مباشرة الى لمِّ شمل أبنائه المشرقيين الكاثوليك، مع استمرار نهج دعوة الكنيستين الأرثوذكسية والإنجيلية ومرجعياتٍ اسلاميةٍ ويهودية، للمشاركة في هموم أبنائه. ربما لأنه أمسى على تماسٍّ مع استشعار خطر هجرة هؤلاء المسيحيّين من أرضهم من جهة، أو لأنه قرر استعادة دور الدينامو القانع بأن المسيحية الغربية في عقلانيتها لا تستقي ألقها الوجودي سوى من كيانية المسيحية المشرقية من جهة أخرى.

المحذوران التأسيسيان، الواجب على المسيحية المشرقية تفادي الانزلاق نحوهما، وإلا تنحو باتجاه انتحارٍ اختياري، قائمان في عنوانين: أولهما رفض منطق الأقلوية وما يستدعيه. وثانيهما رفض منطق الحماية وما يستدعيه. أما الانتصاران التأسيسيان، فيتمثل أولهما بقرار الشهادة لقيم الديموقراطية والتعددية والحرية وحقوق الإنسان والعيش المشترك وتداول السّلطة بشكل منتظم وسلمي، وثانيهما باستعادة وهج القضية الفلسطينية محرَّرةً من المقايضات والمساومات والمصادرات، من منطلق أن أي خيار سلام في هذا الشرق فيها يجب أن يُبنى على
العدل.

واعتبر الصائغ في كلمته فداحة أخطار تلك العناوين:

أ – الأقلوية وهم انتحاريّ

ب – الحمايات استدعاءٌ تهجيريّ

أ – المحور كرامة الإنسان

ب – فلسطين القضية

1- الأصولية القائمة والمفترضة

2- الانتفاخ الأكثري

3 – ترهُّل الليبراليين

– هشاشة العدالة الاقتصادية – الاجتماعية

قزي:

ثم القى الدكتور ناصيف قزي كلمة قال فيها:

* الإرشاد الرسولي نصاً وروحاً

هو تحقيقٌ لمسيرةٍ مجمعيَّة كانت بدأتْها الكنيسة في ستينات القرن الماضي، أي بُعَيد انتهاء أعمال “المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني”… واستطراداً “التعليم المسيحي الجديد”، بل المتجدِّد… وقد انخرَطَت الكنائس في لبنان والشرق الأوسط في تلك المسيرة منذ انطلاقتها.

** الثاني، واقع الحال في العالم العربي

لا شكَّ أن الثورات هي حقٌّ مقدس للشعوب المقهورة. ولا يمكن لعاقل أن يُنكر على الشعوب هذا الحق المبدئي. غير أن ما يجري في عالمنا العربي هو أبعد من ذلك، وربما كانت بعض العقول الخبيثة التي تسيِّر السياسات الدوليَّة المزدوجة المعايير في مقاربتها للقضايا كافة، تسعى لتأكيد مقولة “صدام الحضارات”…!؟

باختصار، واقع الحال في العالم العربي هو عودٌ على بَدء… فقد نكون على حافة – لا أقول ذلك على سبيل الجزم بل على سبيل الحذر- انتهاء زمن الحداثة والتقدم والعصبية القومية والعروبة وتطوير النظم باتجاه الدولة – الأمة Etat – Nation، لصالح نظام تيوقراطي
نحن إذن أمام حالة ارتداديَّة على العروبة أولاً، وعلى القوميَّة العربيَّة ثانياً، لصالح الدولة الدينيَّة…!؟   

من هنا يأتي منشأ الخوف لدى المسيحيّين وغير المسيحيّين، بما فيهم المذاهب الإسلاميَّة كافة. فما يرْتَسم في الأفق من مشهديَّة لزمن قادم… مثيرٌ للقلق.

*** أين لبنان من كل ذلك؟

لبنان الواقع… المأزوم

كنت على وشك أن أقع في التجربة بشأن لبنان ودولة لبنان ونظام لبنان، بعد ما شهدناه في السنوات الأخيرة من إنقسامات حادة باتت تهدّد، ليس فقط بنيتَنا السياسيَّة – وهي هشَّة في الأصل – بل أبعد من ذلك جوهرَ وجودنا، عنيت الصيغة والميثاق… وقد قلت قبل أربع سنوات في محاضرة لي أمام الجالية اللبنانيَّة في ملبورن – استراليا، “إن لبنان فكرة لم تتحقق بعد”. لكني سرعان ما استدركْت الأمر مرجِّحاً أن يكون للدولة “بُعد إتني عميق الجذور في التاريخ” يعكس حقيقة الجماعات التي تعاقدت على العيش معاً منذ قرون… لأخلص إلى
الإعتبار بأن المشكلة ليست في الصيغة ولا في الميثاق بل في تحقيقهما في بنية أو نظام سياسي.

وعن دورنا كمسيحيّين في هذه البقعة من العالم، وسْط تنامي الأصوليّات، ومنها الدعوات المغرضة والتكفيريّة وما إليها… لا بد لنا من الإصغاء إلى الإرشاد الرسولي الذي يشجّعنا على البقاء والحوار وعدم الخوف والثبات في عيش الشركة والشهادة فيما بيننا ومع الآخرين.

إن دورنا، أيها الأصدقاء، كلبنانيّين، كبيرٌ، وكبير جداً… فنحن، ورغم كلِّ العثار، أبناءُ التجربة الرائدة في التاريخ وفي العالم… لكن… لكن… أعاننا الله على الخروج من القوالب الجامدة التي، أقول، أعدت لنا، لعلّنا نبلغ آفاق الدولة المدنيَّة التي لا خلاص لأحد منا بدونها.

صفير:

ثم كانت كلمة الدكتور أنطوان صفير فقال فيها:

لبنان الرسالة هو توصيف لحقيقة فلسفة لبنان الكيان والصيغة والميثاق.

اما لبنان الارشاد الرسولي فهو التأكيد ومن قبل اعلى المراجع الروحية
في العالم على دور هذا اللبنان كجسر العبور الى المشرق دولاً ومجتمعات. وأرشاد ” الرجاء الجديد للبنان ” كما أرشاد الشرق الأوسط تأتي في بعد روحي ووطني واحد يهدف الى طرح المعضلات والمخاطر وابرزها الرد على الأسئلة المصيرية:

– هل تبقى الصيغة والميثاق قادرة على صيانة التعددية؟

– هل الشاب اللبناني وطبعاً المشرقي قادر على صنع ربيعه اللبناني خارج الأجندات والبرامج المعدة سلفاً والأفكار المزروعة عن حق وفي أكثر الأحيان عن غير صدق وحق؟

– هل يبقى الناخب اللبناني اسير الاصطفاف ,عافياً نفسه من المسؤولية الوطنية عبر الاستمرار في السير غير الواعي وراء شعارات وتيارات وأفكار شخصية او سياسية لم تفض الى التقدم بل تخطاها الزمن والطموحات؟

اما التحدي الأبرز والواقع على كاهل المسيحبين أكليروساً وعلمانيين فهو القدرة على بلورة فكر كنسي – روحي – وطني يعزز الشهادة الرسولية – الرسالية لأبناء الكنيسة في مساحاتها المسكونية وفي مجالات الحوار المفتوح والمنفتح مع ” الأسلام ” بما يحمله من قيم الإعتدال والانفتاح.

في الواقع ,أراد قداسة الحبر الاعظم بإعلانه الأرشاد للشرق الأوسط من لبنان، تبليغ رسائل متعددة وفي أكثر من اتجاه. واولى الرسائل تمكن في التأكيد وباستمرار على دور لبنان الريادي في عالمه المشرقي وبأن المخاطر الوجودية التي تحطّ رجالها في بعض الدول والمجتمعات، يمكن ان تدّق وبحجة أولى ابواب لبنان المشرعة على إحتمالات الصراع المتعدد الوجهات.وهذا خطر كبير على الرئة الشرقية للكنيسة الجامعة وخسارة مدوية للاسلام الليبرالي.

وما أشارة الارشاد الا من باب التأكيد ان الكنيسة في الشرق الاوسط تواصل وبشجاعة شهادتها ثمرة حياة : شركة مع الله ومع القريب. تجدر الإشارة في هذا السياق الى ان السينودس الذي درس وضعية الشرق الاوسط انعقد في الفصل الاخير من ٢٠١٠ اي قبيل انطلاق شرارة الربيع العربي الذي أطاح أنظمة في بعض الدول وهو في مد وجزر في دول اخرى.

والربيع العربي يعني في لغة الإرشاد الرسولي بلورة لطموحات شعوب تتوق الى حرية القول والعمل والمشاركة. ولكن ضمن ما طرحه الارشاد من مفهوم للسلام وفق ما ورد فيه : ” المسيحي يعلم ان سياسة السلام الأرضية لن تكون ممكنة إن لم ترتكز الى العدالة في الله والعدالة بين
البشر”.

وقد جاء في البند التاسع ان السلام هو حالة الانسان المواطن الذي يتناغم مع ذاته اي فكره وعقيدته ومع قريبه اي المواطن الاّخر بغض النظر عن دينه ومذهبه ولونه السياسي …. والا يكون المواطن في حالة اللاسلام أي واقع غياب العدالة والتواصل والمشاركة الحقيقية مما يفتح في المجال أمام نزاعات متعددة وخطيرة.

وهذا السلام بالمفهوم “البابوي” لا تفرضه اعتبارات الواقع السياسي المعيوش بل يستلهم المبادىء اللاهوتية المرتبطة بالايمان.

وهذه دعوة جريئة من قداسته للمسيحيين لاسيما للشباب الذي قال عنه البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني (١٩٩٧) : شبابكم غنى لا تجعلوه فقراً.

الزين:

ثم القى الصحافي المفكر جهاد الزين كلمة قال فيها:
في الحقيقة أدّت ثورات الربيع العربي والمناخات السياسية التي رافقتها ونتجت عنها الى حصيلتين بما يتعلق بالنسبة الى مسيحيي لبنان:

أولا: ربطت أوضاع مسيحيي لبنان بمسيحيي المنطقة، كما لم يحدث سابقا. وبالمقابل أدّت هذه الثورات الى تعزيز الموقع القيادي لمسحيي لبنان بين مسيحيي المنطقة، مع العلم أن أكبر نسبة من المسيحيين في الشرق هي الموجودة في مصر، ومع ظروف التحول التي تشهدها مصر وما حصل مع مسيحيي العراق، فهناك امكانية لخروج دور قيادي حقيقي لمسيحيي لبنان.

الارشاد الرسولي جاء خلال الربيع العربي، وهو معني بالعيش المسيحي الاسلامي  بحرية وديموقراطية، لان الفاتيكان طالما يبشر بالديموقراطية ولا يحتاج الى من يبشره بها.

وأضاف المسيحيون العرب هم الحاملون التاريخيون لقيم ثقافة الديموقراطية يجدون أنفسهم عندما اقترب العرب من هذه الثقافة بحالة منم الاغتراب والازمة في المنطقة.
لقد أتى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر الى لبنان، ومسيحيو لبنان منقسمون انقساما حادا كل فريق منهم مع جهة من الصراع الاقليمي (السني – الشيعي) ما يطرح السؤال التالي: هل يستطيع المسيحيون أن يدعموا صيغة الميثاق اللبناني في ظل هذا الانقسام الحاد، وهل يساعد هذا الانقسام على اعطاء المسحيين الدور المطلوب منهم للعب دور دعم الصيغة اللبنانية.

والمشكلة أن حدة الانقسام السني – الشيعي في ظل حزبين مسيطران يمنع من اعطاء المسيحيين الدور المطلوب بسبب حجم الانخراط في صراع المنطقة.

وأشار الزين الى أنه غير متفائل بقدرة اللبنانيين على منع تهديد الصيغة اللبنانية، ولكنه شديد التفاؤل بحكمة التوافق الدولي على حماية هذه الصيغة اللبنانية.

المشنوق:

ثم كانت كلمة النائب نهاد المشنوق بدأها بالقول:

الدكتور فواز طرابلسي في كتابه عن تاريخ لبنان الحديث من الامارة الى اتفاق الطائف ” أن لبنان وضع تحت الانتداب الفرنسي بعد حروب
طائفية ، فخرجت فرنسا مهزومة وانتصر النظام الطائفي في لبنان. وأوكلت اميركا واوروبا لبنان الى اسرائيل فخرجت مهزومة وما زالت تعاني مأزق هزيمتها في لبنان. ثم أوكلت المهمة الى سوريا بعد اتفاق الطائف في العام 1989 وبدعم عربي ودولي انتقل دور الرعاية الى دمشق، فلم تتوقف النزاعات الداخلية بل خرجت سورية مهزومة من لبنان في عام 2005 وانتصر النظام الطائفي الطبقي فيه “.

لذلك أرى ان هناك سحراً في لبنان بجعلنا لا نملّ من الشكوى منه، وفي آن معاً لا نكفّ عن التعبير عن شغفنا بهذا الـ ” لبنان “.

لكنّ الاهم والابرز هو في “التركيبة الغنية للحياة السياسية والاجتماعية… فهذه الاخيرة هي المصدر الاهم للسحر واللعنة.

ونحن في نزاعاتنا، كلّ فريق يسعى، في سبيل سحق الاخر، الى الاستحواذ على مثال لبنان الذي سرعان ما نكتشف انه لا يستقيم ولا يصح من دون وجود الآخر. هذا ما أدركناه دوماً، لبنان بلاد توازنات، تحتمل التغيير او التصحيح.

إن السبب في خاصية لبنان لا يكمن في ما نسميه التعايش الاسلامي المسيحي. فهذا التعايش قد نجد نماذج له في العالم. انما السبب في التوازن القائم في لبنان بين الديانتين. انه توازن يمنع جموح الشمولية الدينية، وهو في اثناء هذا المنع، ينحو الى استبعاد اي نزعة الى احتكار السلطة، واستبعاد حالات القهر الاجتماعي والثقافي والسياسي. ومن شأن كسر التوازن ان يجعل الحريات الشخصية والجماعية امراً عسيراً، ويعطب تلك الديموقراطية اللبنانية “.

لاول مرة في تاريخ المنطقة السياسي، سينبثق مفهوم ” الشراكة ” بالتزامن مع بدء تأسيس الدولة بمعناها الحديث. شراكة تضم ست طوائف اساسية و 11 طائفة اخرى.

خرجنا من الحرب على قاعدة التوازن وفق صيغة واضحة من عبارتين : لبنان الوطن النهائي، ولبنان عربي الهوية والانتماء. ويمكن ان نستخلص من تجربة الحرب، اذا اردنا دوام نجاح التجربة اللبنانية وتثبيت السلم والاستقلال والصيغة، عبرةً اساسية هي ما اسماه الباحث والمؤرخ اللبناني احمد بيضون “الحشمة “.

الحشمة، بمعنى ان تظهركل جماعة المزيد من الاحترام والاعتبار لحقوق الآخرين ولحقوق الدولة، وان تمسك كل جماعة نفسها عن الجموح نحو قضم حقوق الآخرين او الاستقواء بذارع خارجية. يجب ان يسود التوافق اولاً على صون الحريات وعلى تضييق التفاوت الاجتماعي والتنموي ، وعلى اعلاء مبدأ استقلال البلاد، بلا لبس كما هو شعارنا ”

لبنان أولاً “.

وما نراه اليوم من استقطاب طائفي ومذهبي حاد، لا ينتج في السياسة سوى استحضار متواتر للعنف، ولا ينتج في الاقتصاد سوى شبكات فساد، ولا ينتج في المجتمع سوى اغتراب الجماعات عن بعضها البعض.

في المحصلة، ان ” الاستقلال الثاني ” كما تجسد في انتفاضة 14 آذار ومشهدها التاريخي، لن يكتمل الا بقيام الدولة المدنية ، التي لا تخضع لنزاعات الطوائف ولا يجري اقتسامها حصصاً بين من يستحوذون على تمثيل طوائفهم. انها دولة تجمع بين البعد الفردي الذي تقوم عليه فكرة المواطنة، والبعد الجماعي الذي يعبر عنه التعدد الطائفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى