المقالات

المفتشون الحفاة كتب: د. قصي الحسين

في الصين، نسمع عن “المفتشين الحفاة- Barefoot Inspectors” : كانت المصانع تدفن المواد الملوثة ليلا. تعرف أن مفتشي الحكومة، لا يأتون إلى تلك الأماكن بعد ساعات الدوام.لكن القرويين المحليين” أصبحوا شبه مفتشين. يعملون طوال الوقت. يقضون الليل ساهرين. وينتقلون من مصنع إلى آخر للقبض على الذين ينتهكون القانون، ويتخلصون من النفايات.
في لبنان، الفساد مثل الدودة الشريطية. تبدو متغلغلة عميقا في الكيان السياسي. والتخلص منه، ليس بالمهمة السهلة، خصوصا أن الناس، الذين يوكل إليهم، واجب محاربة الفساد، قد يكونون في كثير من الأحيان، هم بأنفسهم من الفاسدين. أو لهم روابط نخبوية، مع السلطات التي يتربع الفاسدون على رأسها.
الفساد في لبنان، صار ظاهرة إجتماعية، لها الكثير من الأسباب. فروابط القرابة والولاء، القوية مع الزعماء ومع الرؤساء ومع الوزراء، ومع المتنفذين، لأسباب وأسباب، تعيق عمل الرقابة، وتسهل أسباب الفساد وطرقه وأساليبه، وجميع تعرجاته الملتوية.
أما الروابط الأخرى، مع الدولة، ومع جمهور الناس عامة، ومع المجتمع المدني، على وجه مخصوص، فتكون ضعيفة جدا.
ففي حالة لبنان، نعود للعبارة التي صاغها “إدوارد بانفيلد- Edward Banfield”، حين تحدث عما أسماه: “العلاقات العائلية غير الأخلاقية”، في دراسته لجنوب إيطاليا.
قال بانفيلد: إن الناس في تلك المناطق، كما في كثير من الأماكن الأخرى في العالم، لا يشعرون بالولاء تحديدا، أو بأي واجب، إزاء المجتمع. فالشخص الذي يتمتع بالسلطة، المال، أو التأثير، سوف يستعمل تلك السلطة والمال والتأثير، بالنيابة عن عائلته، أو جماعته، أو قبيلته. فإذا ما طلب إبن العم من موظف مدني، خدمة معينة، فهذا سوف يقبل أن يقدمها له، بلا تردد. وبذلك تكون رابطة الدم هنا أقوى، من الروابط العادية السارية في النظام العام للمجتمع.
في الواقع، عملت تكتلات كثيرة ومافيات متنوعة، وقيادات وزعامات، كما عمل مسؤولون كثيرون في لبنان، على إفساد الأجهزة الرقابية. وعلى إفساد الأجهزة العدلية. وعلى إفساد أجهزة التفتيش. وهذا ماساهم إلى حد كبير، في عملية إفساد الإدارات والمؤسسات، وذلك عبر تهديدها المبطن؛ إذ على رجالها وموظفيها، الإختيار بين “الفضة” والعزل والقتل.
وليس من المستغرب أن يختار الكثيرون من أصحاب المراكز، في هذة الأجهزة “الفضة”. لأن المال بطبيعة الحال، هو الحافز الأكثر تأثيرا.
هذا الواقع الفاسد الذي غشا لبنان، وإستفحل فيه، دفع بالقوى المجتمعية، أن تصعد جمعيات كثيرة، لحماية الأمن الإجتماعي والإقتصادي والأمن السياسي والأمن الإداري. وبرزت في مدينة طرابلس، على وجه مخصوص، جماعة “حراس المدينة”. أخذوا دورا بارزا في التصدي، للعبث والعابثين، في جميع أجهزة الدولة، وخصوصا منها، الأجهزة العدلية والأجهزة الرقابية التابعة للمحافظة. فقد صار دور هذة الجمعيات، أشبه ب”المفتشين الحفاة”، الذين يتحرون جميع أشكال الفساد. وكانوا لا يتوانون عن تصيد الشاحنات التي تقل النفايات والردميات، لرميها على الشاطئ أو في المنحنيات والمنعرجات والسواقي والوديان خفية، في الساعات المتأخرة من الليل. صاروا يتعقبون مهربي شاحنات البنزين والمازوت. صاروا يتعقبون شاحنات المواشي المهربة. صاروا يداهمون المخازن والمستودعات، في جميع القطعات، بحثا عما هو مدعوم، من الأدوية وحليب الأطفال والمواد الغذائية واللحوم.
وأشبه بذلك، قيام جماعات الضغط الممثلة بالجمعيات ومن وراءهم من الأهالي والشرائح الإجتماعية، بالتصدي للقائممقاميات وللمحافظات وللعدليات، وللبنوك وللمصارف ودوائر الماء والكهرباء ومصالح تسجيل السيارات، وسائر الدوائر العقارية. كانوا يريدون الكشف والتنديد والتبليغ، عن كل أنواع الفساد. مثل رخص الصيد ورخص السلاح الفردي. ورخص البناء العشوائي. صاروا يداهمون الورش البلدية وصناديق البلدية ودواىر الهندسة والتوظيفات العشوائية في المحافظة، وفي البلدية.
“المفتشون الحفاة”، الذين شكلوا قوة ضغط أول ظهورهم في الصين، صاروا في لبنان زمن( ثورة17 تشرين الأول 2019-2020)، قوة ضغط أيضا، شدت أنظار العالم إليها. وجعلت لبنان، على رأس قائمة الإهتمامات العالمية. وأخذ التضامن والتعاضد معها، يعظم، في جميع عواصم و مدن العالم. وداخل منابر الأمم كلها. مما شد الأنظار إليها، وجعلها في مقدمة نشرات أخبارها.
فهل يعود “المفتشون الحفاة” إلى الظهور، فيجددون ثورة تشرين من جديد؟. سؤال برسم ما يستجد من أحداث، على مستوى تأليف الحكومة، وخطتها الإصلاحية. وكذلك برامجها لمواجهة الفساد ومحقه، ومواجهة الفاسدين وزجهم في السجون، وتقديمهم إلى المحاكمات وأعمدة التشهير، وإستعادة الأموال المنهوبة، من حساباتهم ومن حسابات عائلاتهم، حيثما أودعوها، في الداخل أو في الخارج على حد سواء.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى