إقتصاد وأعمال

القرءان صالح لكل زمان ومكان على مستوى العبادات. أما على مستوى التشريعات فقد أصبحت تاريخية….. محمد الحنفي

نحن، عندما نرتبط بالقرءان، يراد لنا أن نرتبط بالمطلق، فكأن الكون لا يتغير، وكأنه ثابت إلى الأبد.

وعلى عكس ما يقره العلم، الذي يثبت أن كل شيء متغير في الزمان، وفي المكان؛ لأن عملية التحول المستمر، غير قائمة أصلا، حسب اعتقاد مؤدلجي الدين الإسلامي، خاصة، وأنها هي التي تبقى ثابثة في هذا الكون.

وإلا، لماذا كنا في حاجة إلى علم قياس عمر الطبيعة، كالصخور، والأحجار، والجبال، والكرة الأرضية، ولماذا لم نكن في حاجة إلى الماء، ومن هذا النوع، وإلى عملية العيش في هذه الحياة الحيوانية، أو النباتية، التي تتحول باستمرار، دليل على أن الإنسان، والحيوان، والنبات، يتحول، أو تتحول باستمرار، ومعبرة بكل تحول، عن مرحلة عمرية معينة.

والقرءان، حتى وإن كان كتابا سماويا، فهو، أيضا، قابل للتحول، والتغير، على مستوى الفهم، على الأقل. وإلا، فلماذا هذه التفاسير الكثيرة، التي يعبر كل تفسير معين، عن المرحلة التي وجد فيها، خاصة، وأن علماء التفسير، يضطرون إلى الحديث عن أسباب النزول، وعن الناسخ، والمنسوخ، وغير ذلك، مما يستوجب إعادة النظر في اعتبار أحكامه مطلقة، كما يذهب إلى ذلك مؤدلجو الدين الإسلامي، الذين يستندون في بناء تصورهم المطلق، على دراسات، يعتبرونها مصدرا لبناء تصوراتهم المطلقة، حول الكون، والمجتمع، والطبيعة.

وحتى لا نمارس القساوة، ضد أي شخص، مهما كان، ممن ينخرطون في عبادة الماضي، وممن يروون الآية الكريمة: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، الأمر الذي يقتضي منهم، جعل المطلق حاكما مطلقا للكون، والإنسان، والطبيعة، مع أن العلم يثبت يوما، بعد يومـ أن الكون يتحول باستمرار، وأن الإنسان يتطور باستمرار، في مجال معين، وأن الطبيعة تتطور باستمرار.

إن الأمر، عندما يتعلق بالقرءان، يصير، كذلك، متعلقا بالمطلق، في الزمان، والمكان، وعندما يتعلق الأمر بالمطلق، يجب أن تجف الأقلام، حتى لا تدون ما يسيء إلى ما يعتقده الظلاميون، على اختلاف ألسنتهم، وألوانهم، ومذاهبهم، سواء كانوا أحزابا، أريد لها أن تشرعن، أو مجرد توجهات غير مشرعنة، لا حزبيا، ولا جمعويا، مع أن القرءان هو الكتاب الذي يعتمده المسلمون في عباداتهم، أو في بعض الأحيان، حتى في معاملاتهم، التي يتعاقدون عليها، من أجل تمثل القيم النبيلة، التي نجدها في كل آية من آياته.

ونحن في قراءتنا للقرءان، نستحضر قيام أحد علماء الأزهر: محمود شلتوت: الذي ألف كتاب: (الإسلام عقيدة وشريعة). وهو كتاب قيم، ميز فيه صاحبه بين الإسلام كعقيدة، والإسلام كشريعة. وهذا التمييز الذي يتضمنه الكتاب المشار إليه، ليس بريئا؛ بل لا بد أن يوحي بأن الكاتب المذكور، كان يميز، من خلال ذلك، بين النسبي، والمطلق. فالإسلام كشريعة نسبي، والإسلام كعقيدة مطلق؛ بل إن العقيدة نفسها، التي تمثل المطلق، تتحول إلى الفهم المتعدد من أئمة الدين الإسلامي، وخاصة: مالك، والشافعي، والحنفي، والحنبلي، الذين كان يمثل كل واحد منهم فهما معينا. والفهم المتعدد يولد النسبي.

فإسلام مالك، ليس هو إسلام الشافعي، وليس هو إسلام الحنفي، وليس هو إسلام أحمد بن حنبل.

وإسلام السنة، ليس هو إسلام الشيعة. وهو ما يؤكد نسبية القرءان.

ومع ذلك، فنحن نقر بضرورة الفصل بين الإسلام كعقيدة، على أنه مطلق، والإسلام كشريعة، على أنه نسبي.

فماذا نعني بالمطلق؟

وماذا نعني بالنسبي؟

وما هو الفرق بين المطلق، والنسبي؟

وما الأصل في القرءان؟

هل هو نسبي؟

هل هو مطلق؟

وهل يمكن أن يتحول النسبي إلى مطلق؟

والمطلق إلى نسبي؟

وهل يمكن أن نعتبر الناسخ، والمنسوخ، وأسباب النزول، من باب النسبي، أو من باب المطلق؟

وهل الخطاب الموجه في القرءان، إلى الناس كافة، من باب النسبي، أو من باب المطلق؟

وهل الأحكام العامة، الواردة في القرءان، من باب النسبي، أو من باب المطلق؟

أليس المطلق قائما في فكر، وفي ممارسة مؤدلجي الدين الإسلامي، منذ انقسام أتباع علي إلى سنة، وشيعة، وخوارج؟

أليس تطور فهم القرءان نسبيا؟

أليس المطلق مختصا بالعبادات في عموميتها؟

أليست خصوصية العبادات نسبية؟

ألا نعتبر الأحاديث غير الصحيحة الرواية، والمتن، هي التي وقفت وراء تسييد المطلق في فكر المسلمين؟

ألا نعتبر أن تعدد الديانات السماوية، في حد ذاته، عمل نسبي؟

أليس تفاعل القرءان مع الواقع المختلف، في كل زمان، وفي كل مكان، لإعطاء فهم مختلف له، من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى زمن آخر؟

فالنسبي، والمطلق، يشكلان إشكالية كبيرة في القرءان الكريم، وهي إشكالية تحتاج منا إلى إعمال الفكر، وبالتأني، ودون سعي إلى الحسم في الأمور، وبالسرعة المطلوبة؛ لأننا، في هذه الإشكالية، قد نجد أنفسنا أمام جيش عرمرم، من أتباع مؤدلجي الدين الإسلامي، الذين يستعدون، باستمرار، لتنفيذ فتاوى التكفير، التي تعني اغتيال المناضلين، واغتيال المفكرين المتنورين، وكل مخالفيهم الرأي، حتى وإن كان إسلامه هو الصحيح. أما مؤدلجو الدين الإسلامي، فلا إسلام لهم، ما دام اعتقادهم قائما على أدلجة الدين الإسلامي، التي لا تعني إلا تحريفه، من أجل استغلاله أيديولوجيا، وسياسيا، من أجل ممارسة التضليل على المومنين بالدين الإسلامي، الذين صاروا يعتقدون: أن الدين الإسلامي الحقيقي، هو الدين الإسلامي المؤدلج، مما يؤدي، بالضرورة، إلى الخروج عن الدين الإسلامي، الذين يدعون أنهم يطبقون شريعته، في العديد من دول المسلمين، وصولا إلى جعل استغلاله أيديولوجيا، وسياسيا، لتحقيق التطلعات الطبقية، التي من بينها: (الحكم باسم الدين الإسلامي).

فماذا نعني بالمطلق؟

ونحن عندما نناقش مفهوم المطلق، نجد أنه: كل فعل متحرر من الزمان، ومن المكان، في نفس الوقت. فالزمان، والمكان، غير موجودين أبدا، حتى لا يقفا وراء تقيد الفعل المطلق، كما هو الشأن لأفعال العبادات المتعلقة بأي دين، بما في ذلك الدين الإسلامي، الذي نجد أن الصلاة فيه: هي هي، لا يمكن تغييرها أبدا، ولا يمكن إدخال أي تعديل عليها، فهي كما فرضت في الدين الإسلامي، تبقى هي هي، ما دام مؤديها، أو قاضيها، مومنا بالدين الإسلامي، إلا أن اختلاف التمذهب، في كيفية أدائها، الذي يظهر فيه الاختلاف واضحا، يحول المطلق في الصلاة، إلى نسبي؛ لأنه لكل مذهب طريقته في الصلاة، وهناك الاختلاف في طريقة الأداء، ليس من فعل الله، بقدر ما هو من من فعل البشر. ونفس الشيء بالنسبة للزكاة، التي لا تطرح قيمتها، بقدر ما يطرح إلى من تؤدى. وأداء الصلاة والزكاة في الطريقة، وإلى من تؤدى، يتحولان من المطلق، إلى النسبي، أما فريضة الحج في الدين الإسلامي، فهي نسبية في أصلها، وفصلها؛ لأنها لا تهم إلا من يتوفر على القدرة المادية، والقدرة الجسدية، والقدرة العقلية، على أداء فريضة الحج، كما هي في الآية الكريمة: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا). فهي ليست مطلقة أبدا، ولا ينوب فيها شخص عن شخص آخر، حتى وإن تم إبداع ذلك لغرض تجاري معين، يتمثل في استئجار من يقوم بأداء فريضة الحج، لصالح شخص معين، حاضرا كان، أو غائبا، ميتا كان، أو حيا، عاجزا عن الحضور، أو من أداء فريضة الحج.

والخلاصة، أن المطلق، والنسبي، حاضرين في عملية أداء الطقوس الدينية، في الدين الإسلامي، كما في غيره من الأديان الأخرى، فالمطلق في المفهوم العام للطقوس، والنسبي في كيفية أداء تلك الطقوس، وفي الأخلاق، وفي الفهم، من مذهب، إلى مذهب آخر، أو من بلد، إلى بلد آخر، أو من فرد، إلى فرد آخر، ومن زمن، إلى زمن آخر، بالنسبة لنفس المذهب، وهو ما يبطل كون المطلق، مثالا لكل الأمور الدينية، وكون النسبي غير ممكن في مثل هذه الأمور.

وما ذا نعني بالنسبي؟

إن اختلاف الخصوصية، من بلد، إلى بلاد آخر، ومن دين، إلى خر، ومن مذهب ديني، إلى مذهب ديني آخر، ومن فرد، إلى فرد آخر، لا يمكن أن يعتبر إلا نسبيا، وهو ما يمكننا من القول: بأن النسبي، هو العمل، أو الصفة، أو الدين، أو طريقة أداء طقوس معينة، التي تخص بلدا معينا، أو فردا معينا، في الاعتقاد، وفي العيش، وفي كيفية أداء الطقوس الدينية، وفي طريقة العيش، وفي العادات، والتقاليد، والأعراف، وفي الاهتمام بنسبية المعرفة، في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، فإن هذا الاختلاف، كذلك، يمتد إلى المعتقدات، وإلى كيفية أداء الطقوس الدينية، من بلد، إلى بلد آخر، ومن جماعة إلى جماعة أخرى، ومن شخص، إلى شخص أخر.

فما هو الفرق بين المطلق، والتسبي؟

إن الفرق بين المطلق، والنسبي، يتمثل في:

1) أن المطلق يشمل كل الأفق المرئي، واللا مرئي على حد سواء. فكلمة الله هي كلمة غير محددة، وغير معروفة معرفة عينية، أو حتى علمية، يمكن أن نقف على حقيقتها، بواسطة تلك المعرفة، التي تتحول عند المومن بالله، بالمعرفة الإيمانية، الموسومة بالتسليم المطلق، إلى الذات الإلهية. وهذا ما تؤكده كل نصوص القرءان.

والقرءان عندما يتحدث عن الله، لا يفيدنا بمحددات معينة. فهو (لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد)، و (ليس كمثله شيء)، و (لا تدركه الابصار، وهو يدرك الابصار). والبصر هنا ليس نظريا، بقدر ما هو عقلي، وقد تمحل علماء الكلام، الكثير من الحجج، والبراهين، من أجل تحديد الذات الإلهية، انطلاقا من الصفات التي يأخذونها، غالبا، من صفات الإنسان، بغاية العمل على امتلاك التصور للذات الإلهية، وخاصة، إذا كانت هذه الصفات واردة في القرءان: (هو الله الذي لا إله إلا هو، الملك، القدوس، السلام، المومن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر)، و (الله لا إله إلا هو، الحي، القيوم، السلام، المومن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر)، و (الله لا إله إلا هو، الحي القيوم، لا تاخذه سنة، ولا نوم، له ما في السماوات، وما في الأرض). وهذا الذكر الوارد في القرءان، ليس الهدف منه هو التعريف بالذات الإلهية، بقدر ما هو إبراز قدراته، خاصة، وأن القرءان أورد على لسان إبراهيم قوله: (لا تدركه الابصار، وهو يدرك الابصار). وهو ما يعني: أن ما ورد في القرءان، لا يتجاوز المطلق، إلى النسبي، ولكن ما ألحقه من يسمون أنفسهم ب (علماء الكلام)، بما ورد في القرءان، هو الذي يمكن وصفه ب (الله النسبي)، نسبة إلى الأوصاف التي دبجها علماء الكلام، للبرهنة على أن الله موجود، مع أن الذات الإلهية، ليست في حاجة إلى تمثل البشر لذلك، وتؤكد أن ما جاء على لسان إبراهيم، فيه القول الفصل: (لا تدركه الابصار).

2) أن النسبي توجد له مرجعية ينسب إليها. والصفات التي ذكرها علماء الكلام، والتي ترتبط بمرجعية محددة، لا يمكن أن تكون إلا نسبية، خاصة، وأنهم ملأوا بطون العديد من الكتب، بما تمحلوه من أجل البرهنة على وجود الله، مع أن الله ليس في حاجة إلى ذلك. وهو ما يجعلنا نجزم، بأن ما لله لله، وما (لعلماء الكلام، لعلماء الكلام)؛ لأن المطلق، يبقى مطلقا، والنسبي، يبقى نسبيا، ولا داعي لأن نتمحل الكلام، لاستدراج الناس إلى الإيمان بالله، وإلى الاستغراق في العبادة، مع أن الاستغراق في العبادة، أو التعبد، لا يضمن لا الأكل، ولا الشرب، ولا اللباس، ولا السكن، وغير ذلك، مما تتحقق به إنسانية الإنسان.

أما الإيمان بالله، أو عدمه، فقد حسمه القرءان في جملتين بسيطتين، تحملان معا حرية الإنسان في الإيمان به، أو الكفر به، كما كما جاء في سورة (الكافرون): (فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر) .وهي حرية لا زالت البشرية تناضل من أجلها، إلى يومنا هذا، حتى لا يصير في هذه الحياة معتقد واحد، وحتى لا يصير الكفر وسيلة لمصادرة الحق في الحياة.

وللأسف الشديد، فإن علماء الكلام، لا زالوا إلى يومنا هذا، يستنسخون ماضي علماء الكلام القدماء، ويعيدون إنتاجه، على أنه كلام جديد، لكنه لا يفيد في تطور الحياة، وتطويرها، بقدر ما يرجعنا إلى الماضي المدنس، الذي صار مقدسا، لظلاميته.

وللأسف الشديد، كذلك، فإن هؤلاء المستنسخين لما خلفه علماء الكلام في القرن الثاني، والثالث الهجري، الذي ازدهر فيه علماء الكلام، وصار لهم شأن في كل ربوع الأرض، التي كانت معروفة، في ذلك الوقت، ب (دار الإسلام)، والتي ساد فيها معيار الكفر، أو الإيمان، كمعيار للتخلف، أوالتقدم، مع أن الإيمان، أو الكفر، لا يفيدان لا في الاقتصاد، ولا في الاجتماع، ولا في الثقافة، ولا في السياسة.

ومن هذا المعطى، نستطيع القول: بأن مالا يستطيع الإنسان إدراكه إدراكا علميا دقيقا، يدخل في خلق القيم، وما هو غيبي، مما لا تستطيع الأبصار إدراكه، فهو مطلق، أي أنه لا يحتاج أبدا إلى البرهنة على وجوده، مادام مصدر معرفته، مصدرا إيمانيا، والمعرفة الإيمانية، لا يمكن أن تتحول إلى معرفة علمية، وما يتحول إلى معرفة علمية، هو النسبي، الذي ينطلق من الواقع، ويعود إليه، من أجل العمل على تطوره، وتطويره.

والأصل في القرءان، باعتباره كلام الله، أن يكون مطلقا، لأننا لا نستطيع إدراكه، كبقية إدراك القول، أي قول، وكيفيته.

ولكن عندما يتحول القرءان إلى وحي، يتلقاه الرسول، عن طريق ملاك معين، يتحول إلى نسبي، وتتأكد نسبيته، بما صار يعرف، عند المفسرين، بأسباب النزول، وبالناسخ، والمنسوخ، وباعتبار القرءان يقسم إلى آيات مكية، وآيات مدنية، يؤكد نسبية القرءان، على مستوى المضامين، وعلى مستوى اللغة المعتمدة، وعلى مستوى الأهداف، التي يسعى إلى تحقيقها على أرض الواقع، فإن القرءان، من ألفه إلى يائه، نسبي.

وما هو مطلق في القرءان، هو الإيمان بأنه كلام الله، بالنسبة للمومنين به، وإن هذا الإيمان، يستمر في إطلاقيته، إلى مالا نهاية، لكن كيف لا يتم تصريف التعبير عند ذلك الإيمان. فهذه أيضا لا يمكن اعتبارها مطلقة، بقدر ما هي نسبية، ما دام التعبير عن الإيمان يختلف من شخص، إلى شخص آخر، ومن إنسان، إلى إنسان آخر، ومن مومن بدين معين، إلى مومن بدين آخر… وهكذا.

فالتعبير الديني عن إيمان كل مسلم، يختلف بحسب الزمان، والمكان، ويختلف تبعا للعادات، والتقاليد، والأعراف، وبحسب الدول، وبحسب القارات، وبحسب العصور.

وكذلك التعبير عن إيمان كل مسيحي، فإنه يختلف، كذلك، بسبب الزمان، أو المكان، ويختلف في نفس الزمان، وفي نفس المكان، تبعا للعادات، والتقاليد، والأعراف السائدة حسب الدول، وحسب المناطق، وحسب الأعراف، وحسب الأعراف المختلفة، والعادات المختلفة، والتقاليد المختلفة، من زمن، إلى زمن آخر، ومن مكان إلى مكان آخر.

وإذا اعتقد مؤدلجو الدين الإسلامي، المنتجون للظلامية، فإن كل ما يتعلق بالدين الإسلامي، هو مطلق، سواء تعلق الأمر بالقرءان، أو بالحديث، أو بسيرة الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، إلى يوم الدين. فإن ذلك، يعتبر من شأنهم، ولا يدخل أبدا في الشأن الديني، إلا عندهم.

وما يمكن اعتباره مطلقا في الدين الإسلامي، وفي باقي الأديان، وسائر المعتقدات الأخرى، هو الإيمان، لأن الإيمان بأي معتقد، مهما كان هذا المعتقد، حتى وإن كان من الديانات الواسعة الانتشار، يبقى إيمانا بذلك المعتقد، أو هو الكفر به، الذي يبقى بدوره كفرا، لا يتغير أبدا، باعتباره حقا من الحقوق التي وردت في القرءان الكريم، في سورة الكافرون: (فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر).

ذلك أن اعتبار الإيمان، أو عدمه، شأنا فرديا، يمكن كل امرئ من حق إحياء المعتقد، الذي يومن به، وهو ما يجب أن يكون معمولا به، حتى لا يكون مومنا بدين معين، تبعا لإيمان الأبوين، أو إيمان عامة الناس، أو إيمان الملك، أو الرئيس الذي يحكم هذا البلد، أو ذاك.

والتاريخ مليء بالإيمان التابع، والواقع كذلك، على أن الإيمان التابع، وتدريس أي دين، وأي نص ديني في المدارس الرسمية، تكريس لتربية النشء على الإيمان التابع، وجميع المسلمين على وجه الكرة الأرضية، يحرصون على أن يكون إيمانهم تابعا، والإيمان التابع يدخل في إطار إعادة إنتاج إيمان الأبوين، في ممارسة الأبناء، إلى ما لا نهاية، مع أن الأمر يقتضي إعداد الأطفال، عن طريق الأسرة، وعن طريق المدارس المختلفة، وبطرق تربوية علمية متقدمة، ومتطورة، على حق اختيار المعتقد، أو لا يختاره، بطريقة حرة، ونزيهة، ودون تدخل أي جهة، كيفما كانت هذه الجهة، ومن أجل أن يحسن اختيار من يمثله في المجلس الجماعي، أو في المجلس البرلماني، أو في غيرهما، بما في ذلك من يحكمه، ومن يتحمل مسؤولية الحكومة، ودون تأثير من أية جهة.

وعلى يد مؤدلجي الدين الإسلامي، المنتجين للظلامية، يمكن أن يتحول النسبي إلى مطلق، والمطلق إلى نسبي.

وقد اعتمد هؤلاء المؤدلجون، ما ورد في العديد من كتب الحديث، وفي العديد من مؤلفات الظلاميين القدماء منهم، والمحدثين، والمعاصرين، مما لا يمكن أن يكون إلا نسبيا، كمطلق، مع أنه لم يرد في القرءان، كما هو الشأن بالنسبة لعذاب القبور، مع أن الإنسان إذا فقد حياته، لا يمكن الرجوع إليه، إلا بعد يوم البعث، والنشور، كما ورد قي القرءان، في غير ما آية من آياته. وكل ما يوجد فيما يسمونه بكتب التراث، يصير مطلقا، حتى وإن كان لا يقبله العقل، ولا يسعى إليه الفكر السليم، ولا يساهم في اعتماده بأي شكل من الأشكال؛ لأن ما يهم مؤدلجي الدين الإسلامي، هو الوصول إلى السلطة، من أجل ممارسة القهر على المومنين بالدين الإسلامي، حتى يتمكنوا من الجمع بين السلطة، والثروة، الذي لا يسعى إليه إلا المستبدون.

فكل ما له علاقة بأدلجة الدين الإسلامي، التي يعتبرونها هي الدين، مع أنها ليست إلا تحريفا لحقيقة الدين الإسلامي، باعتباره شأنا فرديا، يعتبر، في نظرهم، مطلقا، والمطلق لا يناقش، باعتباره من عند الله.

ومؤدلجو الدين الإسلامي، ونظرا لأنهم لا يأخذون إلا بالمطلق، في فكرهم، وفي ممارستهم، لا يميزون بين الدين الإسلامي كعقيدة، والدين الإسلامي كشريعة، مما يجعلهم يعتبرون: أن كل ما ورد في كتب (التراث)، من تشريعات، صالح لكل زمان، ولكل مكان، مع أن أحكام النص القرءاني، محكومة أولا: بأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ. وهو ما يعطينا أن جميع التشريعات، بما فيها تلك الواردة في نص القرءان، هي تشريعات جاءت لتناسب عقلية معينة، ومرحلة زمانية معينة، محكومة بشروط معينة. فإذا تغيرت المرحلة، وتغيرت الشروط، وتغير الزمان، وتغير المكان، تغير التشريع، كما هو مدون في العديد من كتب الفقه، التي تعود إلى مختلف الأزمنة الماضية، في مختلف الأمكنة.

وقد حان الوقت، لإعادة النظر في النسبي، والمطلق، والتمييز في الدين الإسلامي، بين العقيدة، والشريعة، حتى نعتبر كل ما له علاقة بالعبادات: (الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج)، بعد النطق بالشهادتين، بالنسبة لمن يقتنع بالإيمان بالدين الإسلامي، اختيارا، لا تبعية، ولا تحت التهديد بالقتل المادي، والمعنوي للإنسان.

فما له علاقة بالعبادات، التي تبقى هي، هي، كمعبر عن إيمان الفرد بالدين الإسلامي، وعن الالتزام بأجرأة ذلك الإيمان، يعتبر مطلقان حتى وإن كانت ممارسة العبادات، التي ترتبط بمذاهب معينة، تبرز فيها النسبية بشكل كبير.

أما الشرائع، سواء كانت واردة في القرءان، أو في الحديث، فهي من اجتهادات كل المذاهب الأربعة، المشهورة في الدين الإسلامي، فإنها لا يمكن أن تكون إلا نسبية. والنسبي هو كل ما يرتبط بحدث معين، أو بزمن معين، في مكان معين، في مرحلة تاريخية معينة، لا يمكن أن تكون إلا نسبية، ولا يمكن، أبدا، أن تصير مطلقة، خاصة، وأن المطلق يبقى مفعلا، في كل زمان، وفي كل مكان. بينما نجد أن النسبي يتغير، من زمن إلى زمن آخر، ومن مكان إلى مكان آخر، حسب ما تقتضيه شروط الزمان، أو شروط المكان، التي تتغير باستمرار، كما هو الشأن بالنسبة للفقه الإسلامي المختص، من زمن، إلى زمن آخر، ومن مكان، إلى مكان آخر، نظرا لاختلاف الشروط في الزمان، وفي المكان.

ونحن، في وقوفنا على أسباب النزول، وعلى الناسخ، والمنسوخ، نجد أن ما تمتلئ به بطون الكتب، المتعلقة بتفسير القرءان، لا يمكن أن نستخلص منها إلا شيئا واحدا، وهو أن الأحكام الواردة في النص القرءاني، هي أحكام جاءت مناسبة للزمان، الذي ورد فيه، وللمكان، الذي وردفيه، أيضا، لتكون، بذلك، أحكام نسبية.

وتمسك مؤدلجي الدين الإسلامي، ومعهم بعض الحكام في المشرق العربي، وفي غربه، وفي العديد من بلدان المسلمين، بإطلاقيتها، هو تعسف، من أجل فرض الاستبداد الديني، الذي يعتمده مؤدلجو الدين الإسلامي، ومعهم الحكام، الذين يحكمون باسم الدين الإسلامي، أحكاما مطلقة، لا تراعى فيها شروط التخفيف، التي يفرضها اختلاف الزمن، واختلاف المكان، واختلاف الشروط في نفس الزمن، مع اختلاف الأمكنة، تمسكا بإطلاقية أحكام القرءان، بصفة خاصة، والأحكام الواردة في كل كتب التراث، بصفة عامة، مع إعادة إنتاج كتب متضمنة للأحكام المختلفة، الواردة في القرءان، والواردة في كتب التراث، من أجل اعتماد الإطلاقية، لاعتبار الإسلام صالحا لكل زمان، ولكل مكان.

ولذلك، فاعتبار الناسخ، والمنسوخ، وسبل الإثبات، وسيلة للقول: بأن أحكام القرءان، هي أحكام نسبية، وليست مطلقة، لتصير بذلك أحكاما تاريخية، يمكن الاستفادة منها في صياغة أحكام جديدة، تناسب المكان المتعدد، والزمان المتحدد.

ومن باب ما ذكرنا، نجد أن الخطاب الموجه إلى المومنين بالدين الإسلامي، هو، كذلك، خطاب نسبي، ولا يتخذ طابع الإطلاقيةن إلا بكونه يتعلق بالعبادات؛ لأن كل ما يتعلق بالعبادات، لا يرتبط لا بالشروط الذاتية، ولا بالشروط الموضوعية، مهما كانت هذه الشروط. وما سوى العبادات، يبقى نسبيا، يختلف من زمن إلى زمن آخر، ومن مكان إلى مكان أخر. والاختلاف في الزمان، والمكان، هو أساس النسبية، وحتى إن بقيت نفس الأحكام سارية على المومنين بالدين الإسلامي، فإن طريقة تطبيق تلك الأحكام، لا تكون إلا نسبية.

والأحكام العامة الواردة في النص القرءاني، من غير العبادات، تظهر، وكأنها، مطلقة. والواقع أن تلك الأحكام، لا يمكن أن تكون إلا نسبية. والنسبي في لغة الأحكام، ناتج عن اختلاف في فهم ما هو عام، خاصة، وأن عملية الفهم، في حد ذاتها، تبقى عملية نسبية، ولا يمكن أن تكون مطلقة، لاستحالة إطلاقية الفهم، الذي وجد مختلفا من شخص، إلى شخص آخر، ومن زمن، إلى زمن آخر، ومن مكان، إلى مكان آخر. وإذا اعتبرنا تلك الأحكام مطلقة، كما يذهب إلى ذلك مؤدلجو الدين الإسلامي، فإن هذه الإطلاقية لا توجد إلا في أذهانهم، ولا يمكن أن تتحول إلى واقع. والواقع ذو طابع نسبي.

والأحكام الخاصة، حتى وإن كانت نسبية، فهي تتحول عند مؤدلجي الدين الإسلامي، إلى أحكام مطلقة، لا تتبدل، ولا تتغير، وتبقى صالحة لكل زمان، ولكل مكان؛ لأنه، فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية، المتعلقة بمختلف الأحكام، لا يعرف مؤدلجو الدين الإسلامي إلا المطلق، حتى يثبتوا أنها صالحة للتطبيق، في كل زمان، وفي كل مكان، ولا شيء عندهم اسمه النسبي، خاصة، وأنهم يربطون الدين بالسياسة، ليصير تطبيق ما يسمونه بالشريعة الإسلامية، وسيلة لقهر المجتمع، لجعله قابلا لتأبيد الاستبداد القائم، أو من أجل فرض استبداد بديل، حتى لا يتحرر المجتمع من كل أشكال الاستعباد، والاستبداد، والاستغلال، وحتى لا تتحقق الديمقراطية، التي يعتبرونها بدعة غربية، وسعيا إلى الحيلولة دون تحقيق الاشتراكية، التي تحمل في طياتها التوزيع العادل للثروة المادية، والمعنوية.

والمطلق القائم في فكر، وفي ممارسة مؤدلجي الدين الإسلامي، منذ انقسام أتباع علي: إلى شيعة، وخوارج. ومنذ ذلك الوقت، والصراع غير المشروع، والذي قد يصل، في أوقات كثيرة، إلى صراع تناحري، لأنه، لا شيء يجمع بين السنة، الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب حق في الحكم، وبين الشيعة الذين يعتبرون أنفسهم أيضا أصحاب حق في الحكم، وهذا الصراع، يمكن اعتباره، أيضا، ذا طبيعة مصلحية.

فحكم السنة، لا يمكن أن يكون إلا مطلقا، وحكم الشيعة، أيضا، لا يكون إلا مطلقا. فلإطلاق، ليس قائما إلا في الحكم؛ لأن من يصل إلى الحكم: من السنة، أو الشيعة، يحكم حكما مطلقا. أما من يحكم ذلك الحكم المطلق، فهو يحسم الصراع التناحري، إما لصالح السنة، أو لصالح الشيعة. بينما نجد أن الدين الإسلامي، في حقيقته، لا وجود فيه لا للشيعة، ولا للسنة، هناك شيء واحد، فقط، اسمه الدين الإسلامي، الذي أعطانا كامل الحرية في الإيمان به، أو الكفر به، كما جاء في سورة الكافرون: (فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر).

وإذا اعتبر مؤدلجو الدين الإسلامي، أن كل ما ورد في القرءان، لا يمكن أن يكون إلا مطلقا، وأن ما ورد، كذلك، في كتب التراث، يتحول إلى مطلق، فإن فهم القرءان، الذي يختلف من مكان، إلى مكان، ومن زمان، إلى زمان، كما تجسد ذلك مختلف التفاسير، الواردة من مختلف الأزمنة، ومن مختلف الأمكنة، فإن نسبيتها الواضحة، تتحول، في نظرهم، إلى مطلق. مما يجعل مؤدلجي الدين الإسلامي، على اختلافهم، مرضى بتقديس المطلق، الذي لا يتبدل، ولا يتغير، ولا يتأثر بالشروط الجديدة، ولا يتعامل معها، ولا يؤثر فيها، ولا يتأثر بها. وهذا الفهم، حتى وإن كان ذا طابع نسبي، فإن نسبيته مرفوضة، من قبل مؤدلجي الدين الإسلامي؛ لأن العمل بالإطلاقية، ورفض النسبية، ما هو إلا شكل من أشكال التحريف المادي، والمعنوي، الذي يمارسه مؤدلجو الدين الإسلامي، آناء الليل، وأطراف النهار، حتى يعتبر ما يقوم به أي مسلم، حتى وإن كان فيه إساءة للبشرية. فهو قدر من الله، يخلق الفعل السيء، ويعاقب القائمين به، ويخلق الفعل الحسن، ويجازي القائمين به. وهو ما يمكن القول معه: أن الله يعاقب الناس، ويجازيهم على أفعال لم يقوموا بها. وهو أمر يقتضي منا: أن نعيد النظر في فهمنا للدين الإسلامي.

فالإنسان البالغ، يتمتع بإمكانية التمييز بين الفعل المضر، والفعل المفيد. وهذه الإمكانية، هي التي تؤهله إلى الحساب يوم القيامة، لا يوم الدين، كما يذهب إلى ذلك مؤلجو الدين الإسلامي، الذي يدخل في إطار أدلجتهم للدين الإسلامي. وقد تستمر البشرية لعشرات القرون، دون أن تبلغ يوم القيامة.

وإذا أقررنا: بأن فهم القرءان المختلف من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، فإن المطلق يختص بالعبادات كلها: (الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج)، بعد النطق بالشهادتين. نظرا لصفة الثبات التي تلازم أداء العبادات، وخاصة، تلك التي لها طابع يومي، أو سنوي، أو مرة في العمر، كما هو الشأن بالنسبة لفريضة الحج، وكما ذكرنا سابقا، في معالجتنا لهذا الموضوع، فإن إطلاقية العبادات، لا تنفي نسبيتها؛ لأن كيفية الأداء، لا في الصلاة، ولا في الزكاة، ولا في الصوم، ولا في الحج، يختلف من مذهب، إلى مذهب آخر، سواء كانت هذه المذاهب سنية، أو شيعية، كما يختلف الأداء من عصر، إلى عصر آخر، ومن بلد، إلى آخر. وهو ما يؤكد، بالضرورة، قيام النسبية، بسبب ذلك الاختلاف القائم.

وبالإضافة إلى ما ذكرنا، فإن العبادات تبقى نسبية، نظرا لخصوصية كل شكل من أشكال العبادة على حدة. فالصلاة هي الصلاة، والزكاة هي الزكاة، والصوم هو الصوم، والحج، مرة في العمر، هو الحج مرة في العمر؛ لأن لكل عبادة خصوصية معينة، بالإضافة إلى الاختلاف حسب الجنس القائم، بتلك العبادة.

ومتى تجب على جنس النساء؟

ومتى تسقط؟

ومتى تجب على جنس الرجال؟

ومتى تسقط؟
بمعنى أن مؤدلجي الدين الإسلامي، لا يمكنهم نفي النسبية عن خصوصية كل عبادة على حدة، وعن الجنس القائم بتلك العبادات، وعن نسبية الواجب، والسقوط، بالنسبة لكل جنس.

وعندما يتعلق الأمر بالأحاديث غير الصحيحة، التي يحتج بها مؤدلجو الدين الإسلامي، يعتمدونها بصفة مطلقة، ولا يشيرون أبدا إلى كونها صحيحة، أو غير صحيحة، لأنهم، بذلك، يحيلون إلى نسبيتها، فيضاعف العمل بها، أو يتوقف نهائيا، خاصة، وأن القول بالنسبي، يمكن من إمكانية التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي. ولكن عندما يسود المطلق، المصحوب بقطع الرؤوس، وقطع الأطراف، فإن كل شيء يتوقف في هذه الحياة، ولا يقع أي تجديد فيها؛ لأن اعتماد المطلق في الفكر، وفي الممارسة، يشكل سدا منيعا دون ذلك.

ولهذا، كان يجب التشدد في اعتماد إطلاقية الأحاديث المروية، وأن لا يعتمد أي حديث بصفة مطلقة، إلا بشروط محددة، وأن هذه الشروط، تبقى رهينة بصحته، أو عدم صحته، أو مساهمته، وعدم تشكيله، لسد، يحول دون قيام التطور، الذي تقتضيه شروط الحياة المتحولة باستمرار.

وهؤلاء الذين يتمسكون بالمطلق، الذي يفرض إعادة إنتاج نفس الممارسة، من مؤدلجي الدين الإسلامي، فإن تعدد الديانات السماوية، بالخصوص، يؤدي إلى القول: بأن لكل دين سماوي، خصوصيته، التي تميزه. فديانة عيسى، التي توصف، كذلك، بالمسيحية لها خصوصيتها، والدين الإسلامي الذي جاء به محمد بن عبد الله، أيضا، له خصوصيته. وهو ما يعني: أننا عندما نتعاطى مع تعدد المعتقدات، نتعاطى، في نفس الوقت، مع النسبي، وليس مع المطلق، خاصة، وأن البشرية تناضل من أجل تحرير كافة المعتقدات، من وصاية أي جهة كانت، وأن هذه الوصاية، تقتضي اعتبار المطلق هو السائد، وأن المطلق إذا ساد، تقام السدود ضد أي شكل من أشكال التقدم الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، ليسود، بذلك، تخلص المجتمعات البشرية، التي يسود فيها المطلق الديني، الذي يفرضه مؤدلجو الدين الإسلامي، باعتبارهم أوصياء على الدين الإسلامي، بالإضافة إلى السلطة الوصية، على الدين الإسلامي، في كل دولة، وخاصة في الدول المسماة إسلامية، من الوصاية على الدين الإسلامي، حتى يصير هذا الدين، شأنا فرديا، وقد آن الأوان، لزوال تلك الوصاية، حتى يبقى الشأن الديني، شأنا فرديا، وكل من حاول حشر نفسه، في محاولة فرض شكل معين من التدين، أو التمذهب، فإنه يجرم؛ لأنه يحشر نفسه فيما ليس له، وأن يترك أمر تدريس الدين، والتعريف به، للمؤسسات الدينية التابعة للمسجد، أو الكنيسة، أو البيعة، وأن تتوقف المدرسة، بصفة نهائية، عن تدريس دين معين، وأن يعوض ذلك التدريس، بتدريس الأخلاق، التي لها علاقة بالتربية على القيم النبيلة، دون ربطها بالأمور الدينية، أو غير الدينية.

وبالنسبة إلينا كمومنين بالدين الإسلامي، فإن تفاعل القرءان مع الواقع المختلف، في كل زمان، وفي كل مكان، لإعطاء فهم مختلف له، من مكان إلى مكان آخر، ومن زمن إلى زمن أخر، هو في العمق، تفاعل نسبي، وليس تفاعلا مطلقا، الأمر الذي يترتب عنه: أن أي فهم مختلف، يقود إلى تشريح مختلف، حتى يعتبر نص القرءان: كأنه وصاية على الدين الإسلامي، نصا مطلقا، متعدد النسبيات.

فالقرءان واحد، انطلاقا من مصحف عثمان بن عفان، الذي أمر، باعتباره خليفة، بحرق جميع المصاحف، باستثناء مصحفه، الذي وزعه على جميع الجهات، التي كان يحكمها، والذي كان يسمى: بمصحف عثمان، حتى يتوحد الناس حول كتاب القرءان، الذي كان مصدرا للعقيدة، وللشريعة، ليكتسب بذلك طبيعة الإطلاق.

وكيفما كان الأمر، فنحن في تناولنا لموضوع: (القرءان صالح لكل زمان ومكان على مستوى العبادات، أما على مستوى التشريعات، فقد أصبحت تاريخية) خاصة، وأن التشريعات المتبعة الآن، في العديد من البلدان الإسلامية: العربية منها، وغير العربية، كل ما تفعل، أنها تجعل التشريعات الإسلامية، أو الواردة في القرءان، من مرجعياتها، بالإضافة إلى مرجعيات أخرى، قد تكون: الإعلانات، والمواثيق، والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وحقوق العمال، بالإضافة إلى العادات، والتقاليد، والأعراف، المتحكمة، بالدرجة الأولى، في السلوك العام، وفي سلوك الأفراد.

وحتى نكون واضحين أكثر، كما تعودنا ذلك فيما نطرحه، فقد حاولنا توضيح مفهوم المطلق، وعلاقته بالواقع، وبالنص، ومتى يصير الواقع مطلقا، والنص القرءاني مطلقا كذلك، ووضحنا: أن الإطلاقية في النص الديني، تقود بالضرورة، إلى تكوين ما صار يعرف الآن بالاستبداد الديني، الذي يمارسه الحكام باسم الدين، أو تمارسه الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي، بعد وصولها إلى الحكم، إن هي تمكنت من ذلك، كما تناولنا، بالتوضيح، مفهوم النسبي، الذي يحيلنا إلى فعل معين، بمصدر معين، في زمن معين، وفي مكان معين، مع وقوفنا على الفروق القائمة بين المطلق، والنسبي، حتى نستطيع التمييز بينهما، ودور المطلق، في تكريس التخلف، ودور النسبي، في عملية التقدم، والتطور المطردين، اللذين تتمتع بهما الإنسانية، في جميع المجالات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، ثم انتقلنا إلى الوقوف على الأصل.

والقرءان، قد يكون نسبيا، وقد يكون مطلقا، مع الإشارة: إلى أن النسبي، قد يتحول إلى مطلق، وأن المطلق، قد يتحول إلى نسبي، مع اعتبار الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، من باب النسبي، والخطاب الموجه إلى كل الناس: ظاهره المطلق، ولكن اختلاف الوضعيات: التي يعيشها الناس، فإنه يتحول إلى نسبي.

أما الأحكام العامة، الواردة في النص القرءاني، ظاهرها المطلق، ونظرا لخصوصية تلك الأحكام، فإنها تكون نسبية، أما الأحكام الخاصة، فإنها لا تكون إلا نسبية.

والمطلق عندما يكون قائما في فكر، وفي ممارسة مؤدلجي الدين الإسلامي، يتحول معه كل ما يحسب على الدين الإسلامي، إلى مطلق، وكل من خالف ذلك المطلق، فإنه يعتبر كافرا، أو ملحدا، أو ذميا، يفتى فيه من قبل مؤدلجي الدين الإسلامي بالقتل.

ومع ذلك، فإن هؤلاء المؤدلجين، لا يستطيعون نفي نسبية فهم القرءان، من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المطلق مختص بالعبادات، في عموميتها، أما خصوصيتها، فتجعلها نسبية.

وتعتبر الأحاديث غير الصحيحة الرواية، والمتن، هي التي وقفت وراء تسييد المطلق، في تفكير المسلمين، وفي ممارستهم، عن طريق مؤدلجي الدين الإسلامي، وانطلاقا مما سبق، ونظرا لتعدد المعتقدات السماوية، بصفة خاصة، فإن هذا التعدد، لا يمكن أن يكون إلا نسبيا، كما هو الشأن، كذلك، بالنسبة لتفاعل القرءان مع الواقع المختلف، في كل زمان، وفي كل مكان، لا يمكن أن يكون إلا تفاعلا نسبيا.

وبناء على ما رأينا، علينا أن نميز في الدين الإسلامي، بين الإسلام كعقيدة، والإسلام كشريعة، حتى نسلم بإطلاقية العقيدة، وبنسبية الشريعة، حتى نعطي لأنفسنا الحق، في تشريع ما يناسبنا في الزمان، وفي المكان، وبما تقتضيه شروط الحياة المتغيرة باستمرار.

ونحن عندما نقر بإطلاقية العبادات، المعتبرة شأنا فرديا، وبنسبية الشرائع، التي تحكم المجتمع، والتي تتغير باستمرار، تبعا لتغير الزمان، والمكان، فإنها تعمل على جعل كل شيء في هذه الحياة، يتقدم، ويتطور، نظرا لتقدم، وتطور الشرائع، التي تنظم حياة المسلمين في البلاد العربية، وفي باقي بلاد المسلمين.

فهل نستطيع الحد من هذا النقاش الدائر حول المطلق، والنسبي، في القرءان الكريم؟

وهل نميز، في ديننا الإسلامي، بين العبادات، والشرائع؟

وهل نعتبر أداء العبادات شأنا فرديا؟

وهل نعتبر التشريعات شأنا جماعيا؟

ألا نعتبر كل ما له علاقة بالعبادات مطلقا؟

أليست للشرائع علاقة بالتحولات، التي تعرفها المجتمعات، التي يسود فيها المسلمون؟

ألا نرى أن هذا التحول يجر إلى النسبي؟

أليست نسبية الزمان، والمكان، ونسبية التحول، مدعاة إلى تغيير الشرائع، حتى تتناسب مع الشروط الجديدة؟

ألا نعتبر ذلك التغيير، الذي تعرفه الشرائع المختلفة، مدعاة إلى التقدم، والتطور؟

ألا يعتبر التقدم، والتطور، مدعاة إلى قيام نهضة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين؟

أليست تلك النهضة، مدعاة إلى إقبار كل أشكال الفساد، التي تعرفها البلاد العربية، وباقي بلدان المسلمين؟

ألا نعتبر ذلك إيذانا بالانتقال إلى المجتمع الصناعي، المتطور على جميع المستويات؟

أليس قيام المجتمع الصناعي تطورا في التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية؟

أليس تطور التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية، في اتجاه قيام التشكيلة الاشتراكية؟

أليس من شروط قيام التشكيلة الاشتراكية، تحقق التحرير، والديمقراطية؟

ألا نعتبر أننا، بذلك، نميز، في مسار حياتنا، بين ما لله، وما للإنسان، قياسا على المقولة القديمة: مالله، لله، وما لقيصر، لقيصر؟

إننا بهذه الأسئلة، التي ذيلنا بها الموضوع، نتيح الفرصة لنقاش آخر، في أفق اعتبار الاعتقاد شأنا فرديا، واعتبار التشريعات شأنا إنسانيا، خارج دائرة المطلق، وداخل دائرة النسبي.

ابن جرير في 01 / 02 / 2020

محمد الحنفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى