كي لا ننسى

تفاصيل عملية اغتيال الامير الاحمر ابو علي حسن سلامة في بيروت عام1978

تفاصيل عملية اغتيال الامير الاحمر ابو علي حسن سلامة في بيروت عام1978

في ظل عصر التطبيع والمفاوضات مع العدو الاسرائيلي ومواقف الاستسلام والتخاذل كان لابد من التذكير بجرائم الصهاينة الاسرائيليين, وسوف نكر منها في هذه الحلقة عملية اغتيال الامير الاحمر ابو علي حسن سلامة في بيروت عام 1978

أخطاء قاتلة
بعد فضحية ليليهامر المدوية في 21 يوليو 1973، تردد في الموساد أن علي حسن سلامة خطط بذكاء لإحراج إسرائيل في دول أوروبا الاسكندنافية، لذلك رتب مع عملاء متطوعين أن ينخرطوا مع الموساد من خلال سفارتين مختلفتين، وكانت مهمتهم تزويد الإسرائيليين بسلسلة من التواريخ والمواقع التي تظهر تحركاته.
ليست تحركاته الحقيقية بالطبع، وإنما التي أراد من الموساد أن تصدقها، وكانت عملية “ليليهامر” إحدى عملياته السرية الناجحة لإظهار مدى غباء رجال الموساد، وفضح الاستخبارات الإسرائيلية على مستوى العالم.
فيما بعد، اعترف سلامة في حديث نادر له قائلاً:
–    (كنت في أوروبا بالفعل عندما قتل بوشيقي في ليليها مر، كان بوشيقي موظفًا في Hallenbad، ولم يكن يشبهني وجهًا أو هيئة؛ لكن المخابرات الإسرائيلية تستخدم رجالاً للمهام الإرهابية، وهي تحاول بكل طريقة أن تقتل الفلسطينيين على سبيل الدعاية.
فحياتي لم تكن آمنة بسبب مهارتي؛ ولكن بسبب الضعف في المخابرات الإسرائيلية)!!
وتقول عميلة الموساد (إيريكا تشا مبرز) عن علي حسن سلامة- أثناء إعدادها لاغتياله:
(تحولت الرغبة عندي وغريزة اصطياد سلامة إلى حالة هوس، لقد درست كافة الملفات الخاصة به… وغصت في تفاصيل وجهه المرح)!
إن الكلمات التي يصفه بها مدرسوها في الموساد- وعلى رأسهم هراري- لها صداها في أذنيها وعقلها:
–    (قالوا لي إنه لم يسبق لهم التعامل مع (عدو خبيث ذكي)، مثل سلامة؛ فهو لا يبدو مثل هؤلاء العرب الذين يدينون بمذهب الجبرية، ولهم كروش ولحية كثة. إنه شخص من نسيج آخر متوهج، ماكر، أسطورة في الدهاء والمراوغة، واع بأهداف مدرك لأغراضه.
حذروني منه ومن إثارته، قائلين: إنه قاس وجذاب… وأن أي امرأة يلفها حول إصبعه.
قالوا لي أيضًا إن سلامة متحدث لبق… يجيد الفرنسية بطلاقة أكثر من الإنكليزية والألمانية. يهوى تدليل النساء ويستمرئ دغدغة الأعصاب بلعب الروليت، ويغير الشقق كما يغير ملابسه، ولذا لا يستطيع أحد أن يتعقبه، أو التكهن بخططه وتحركاته. وبالرغم من انشغاله الدائم فهو أنيق، شاعري، لديه حاسة شم تقوده إلى الخونة ويقتلهم بلا رحمة.
وفي ذات الوقت فهو سياسي يتعاون مع منظمة الجيش الأحمر الإيرلندي ويلتقي بزعميها ستيللور، وكذا بالفريق الأحمر (الألوية الحمراء) في إيطالي، والانفصاليين الباسك في منظمة Eta، ووثيق الصلة بقيادة عصابة بادر ما ينهوف الألمانية)!!
أما علي حسن سلامة، فبرغم ذكائه الخارق، وحساسية موقعه، تخلى عن الحس الأمني الذي اشتهر به مما أنقذه من محاولات كثيرة لاغتياله، حتى إنه وقع في عدة أخطاء قاتلة، سهلت مهمة الموساد في الوصول إليه بعد ذلك:
•    بسفره العلني وظهوره مع ياسر عرفات في نيويورك عام 1974، أتاح الفرصة الذهبية للموساد للحصول على صور فوتوغرافية مقربة وحديثة له، ومن جميع الزوايا.
•    تزوج من ملكة جمال العالم جورجينا رزق، ابنة العائلة المسيحية الكبيرة في لبنان، وهي كشخصية عامة كانت تعمل بالفن قبل زواجها منه، لم يكن من الصعب تجاهلها إعلاميًا وشعبيًا، وبات عنوانها معروفًا لغالبية سكان بيروت.
•    أقام سلامة مع زوجته الجديدة بإحدى البنايات التي تحيطها عمارات مرتفعة، متخليًا عن المواقع الاستراتيجية التي تؤمن سرية إقامته وتحركاته، وأصبح بذكاء مكشوفًا للجميع.
•    زواجه من جورجينا كان مدعاة لأن يعيش حياة اجتماعية مختلفة، إذ كان يرتاد الأماكن العامة، نوادي، ومطاعم، وفنادق، مصطحبًا زوجته المشهورة في حراسات خفيفة.
•    اعتياده على مواعيد تقريبية شبه محددة للخروج من شقته لمكتبه، إما لزيادة والدته أو أسرة زوجته الجديدة، أو زوجته الأولى وأولاده منها.
•    سيارته الخاصة إضافة إلى سيارات الحراسة لم تكن تتبدل، ولم يكن يغير خط سيره اليومي في تنقلاته.
•    كان السكان في العمارة، وفي العمارات المجاورة، والشوارع المحيطة، يعرفون موقع شقة (جورجينا رزق) وتتعلق العيون بشرفتها.
•    فعل كما فعل رفاقه الثلاثة ضحايا عملية فردان، ولم يهتم بالحراسات أمام البناية، معتمدًا على فريق حراسة متنقل من أربعة أفراد، حفاظًا على مشاعر السكان.
•    كان تليفون بيت معروفًا، مما سهل عملية التنصّت على المكالمات الخاصة بالعمل التي كانت تتم بالشيفرة، أو المكالمات العائلية لزوجته التي يمكن من خلالها معرفة مواعيد خروجه.
كل هذه الأخطاء ما كان يجب على مسؤول الأمن والمخابرات الفلسطيني ارتكابها.

فتيات الموساد
وفي الموساد الترتيب لاغتيال علي حسن سلامة؛ فعملية كمنال عدوان الفدائية زلزلت عمق إسرائيل وقلبها، وتصريحات أبي إياد المرعبة كانت كالطلقات الصاروخية التي تنسف الأمن الإسرائيلي وتحرق الأعصاب، وكانت العميلة المدربة إيريكا تشا مبرز جاهزة للتحرك والسفر إلى بيروت.
ولدت إيريكا لأسرة يهودية في فبراير 1948 Portsmoth أقصى جنوب إنكلترا، ثم انتقلت مع والدتها للإقامة في لندن حيث واصلت تعليمها حتى التحقت بالجامعة ونالت البكالوريوس في النبات والجغرافيا. كانت قد قرأت كيهودية عن إسرائيل والتاريخ اليهودي لكنها لم تكن ذات دوافع سياسية أو اتجاهات محددة.
كانت إيريكا تعشق الجغرافيا، وكان مشروع التخرج في الجامعة عن منطقة (الغابة الجديدة) New Forest في جنوب إنكلترا بالإضافة إلى بحوثها في المجاري المائية. وانصب أملها في إكمال دراستها العالية والحصول إلى الدكتوراه؛ لذا سافرت إلى أوستراليا لدراسة جغرافيتها الجافة، وسرعان ما حصلت على فرصة لإكمال أبحاثها الجامعية في الجامعة العبرية بالقدس، فغادرت أوستراليا إلى إسرائيل في أغسطس 1972، وسط ضجيج إعلامي دولي عن دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وفي إسرائيل عاصرت محنة المذبحة التي قتل فيها أحد عشر رياضيًا إسرائيليًا، ومنذ تلك اللحظة بدأت تتساءل:
–    لماذا هذا الصراع الدموي بين العرب وإسرائيل..؟
اتجهت بفكرها واهتماماتها إلى السياسة، وقرأت كثيرًا عن مشكلة اليهود منذ البداية، وكيفية تأسيس الدولة اليهودية، والحروب التي خاضتها إسرائيل للمحافظة على أمتها واستقرارها، تشكلت لديها ثقافة الكراهية المزمنة للعرب، وباتت تتابع العمليات التي يقوم بها (الإرهابيون) ضد اليهود في إسرائيل.
تصيدها عملاء الموساد وعملوا على تنشيط الحس الديني لديها. كانت منذ البداية قد تعاطفت مع بني عقديتها، لذلك لم يستغرق أمر تهيئتها كثيرًا. إذ أبدت تجاوبًا فوريًا ملحوظًا، مدفوعة عقائديًا بالكراهية الشديدة للعرب، التي يقابلها إعجاب منقطع النظير بإسرائيل، وبعمليات الموساد التي قرأت وسمعت الكثير عنها.
لقد تم تشريح شخصيتها تشريحًا فسيولوجيًا دقيقًا، اعتمادًا على المعلومات التي جمعت حولها في الجامعة والمدينة الطلابية، فتكونت في النهاية الملامح الخاصة، والسمات المطلوبة فيمن ينضم إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، تلك السمات التي تتطلب من العملاء الجدد أن يتميزوا بها، كالذكاء والجرأة وسرعة البديهة، والإخلاص في العمل.
كانت إيريكا تشا مبرز تتميز بكل المواصفات المطلوبة تقريبًا… لكن مشكلة قديمة كانت لا تزال تؤرقها. إذ تعرضت وهي في الخامسة عشرة من عمرها للاغتصاب عدة مرات متتالية من شابين أحدهما زنجي. كانت يومها في رحلة مدرسية لإحدى مدن الشمال البريطاني. شجعتها زميلة لها على الخروج مساءً لمشاهدة أحد أفلام السينما… وعند عودتهما لاحقهما شابين، فرت زميلتها وتركت إيريكا تواجه مصيرها معهما. وفي إحدى الغابات تناوبا اغتصابها تحت تهديد السلاح.
هذا الحادث شكل لدى الفتاة كراهية للجنس الآخر، ونفور Aversion مرضي عند محاولة تذكر حادث الغابة، نتيجة انقباض Vaginismus حاد دفعها لأن تبحث عن صور “المتعة” المثالية في عالم الخيال Unreality فقط.
وبعد إخضاعها لعلاج نفسي تصاحبه تمرينات عملية لفك حالة الانقباض تخلصت إيريكا شيئًا فشيئًا من مخاوفها وعقدها النفسية، وأنشأت علاقة خاصة مع مدربها بأكاديمية الموساد، علاقة تحت الملاحظة وإن كانت بعيدًا عن المراقبة؛ وذلك بغرض طرد أية مخاوف ترسبية بداخلها، وكان يطلب منهما كتابة ملاحظاتهما إثر كل لقاء عما استجد بينهما.
وهكذا شمل التحليل النفسي أدق خلجات إيريكا ومشاعرها، للخروج بنتيجة مرضية عن عملية الموساد الجديدة، التي قد يطلب منها مستقبلاً مصاحبة من يراد تجنيده خارج إسرائيل.

مهمة في بيروت
كانت هذه إحدى حلقات الإعداد النفسي التي تعتمدها الموساد في تدريب فتياتها، لذرع الثقة في نفوسهن، وإشعارهن أن عملهن هو أولاً وأخيرًا لصالح إسرائيل، وأمن الشعب اليهودي. تلك هي الشعارات التي تغرسها الموساد في عقول طوابير فتياتها.
إيريكا تشامبرز تصورت أن هذا الإعداد الطويل لها توقعًا لصداقة قد تجمعها وعلي حسن سلامة في بيروت؛ لذلك تعجبت وضحكت في سرها: هل ينتظر منه شيئًا وهو المتزوج من ملكة جمال الكون؟! لكن على كل حال تم الجهيز للأمر، واطلعت إيريكا على ملف الأمير الأحمر بما يتضمنه من تقارير تحليلية أمينة وسياسية، كتبت عنه منذ ما يقرب من عشر سنوات، وتأملت كثيرًا في عدة صور حديثة التقطت له في الأمم المتحدة بنيويورك، أخذت له من عدة زوايا وتم تكبيرها ووضعها داخل ألبوم خاص في ملفه..
قرأت إيريكا تقريرًا عن سلامة كتب عام 1975 أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (يحاول الأمير الأحمر أن يخلع عنه رداء الفدائية بعدما تحول إلى سياسي جاد؛ لكنه هو الشخص الثاني تقريبًا الآن بعد عرفات، يبدو متطلعًا إلى مستقبل مشرق لمنظمة التحرير الفلسطينية على يديه.. حيث يحاول رسم صورة مغايرة للمنظمة الإرهابية يخدع بها العالم، في حين أنه يخطط وينفذ عمليات إرهابية داخل إسرائيل وخارجها، دائمًا ما يبدو متصلاً منها… لكن دماء ضحاياه من اليهود الأبرياء توشم يديه)!!!
وفي تحليل لشخصية سلامة كتبه خبيرا الأمن مايكل بار، وإيتان هاير، قالا:
–    “منذ تزوج علي حسن سلامة من جورجينا رزق، فإن تفكيره في الموت المبكر لا يترك شيئًا آخر، فهو يسيطر عليه تمامًا لدرجة ترقبه في أية لحظة، فقط سبق له أن صرح:
–    “أعلم أنني سأموت… سأقتل… أسقط فجأة في إحدى المعارك، وعندما أموت يجب على أولادي مواصلة النضال من بعدي، تمامًا مثل أبيهم وجدهم”.
قال سلامة أيضًا:
–    عندما أموت لا يجب أن يكون هناك مجال للحزن. إنني أكره الحزن فالأحزان تعني الخمول والشعور باليأس”!!
بعد تدريبات شاقة طالت كل فنون التجسس، غادرت عميلة الموساد إسرائيل إلى فسبادن Wiesbadee في شرق ألمانيا، وذلك بعد زيارة سريعة إلى أسرتها في إنكلترا، استخرجت خلالها جواز سفر جديد لا يحمل تأشيرة إسرائيل. واستأجرت شقة في فسبادن وبدعوة الدراسة حصلت على إقامة طويلة مدتها خمس سنوات.
كانت الموساد قد وعت الدرس السابق جيدًا، واستفادت من جملة الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها في عملية أمينة المفتي في لبنان، تلك العميلة الأردنية الأصل والمشحونة بالغضب، التي انحصر تفكيرها في الانتقام من العرب ثأرًا لزوجها اليهودي الذي أسقط السوريون طائرته.
من زاوية الانتقام دفع بها إلى بيروت بلا غطاء أمني محبك ظنًا- وهذا من أفدح الأخطاء لانتفاء الظن في عمليات المخابرات- بأن الاستخبارات الفلسطينية لن تستطيع أن تنقب في قارات العالم، وراء كل متطوع يعرض خدماته الطبية والاجتماعية على المنظمة.
لكن من خلال ما نشر في بيروت عن أمينة المفتي بعد سقوطها، تبين للموساد أن من عوامل هذا السقوط الاستهتار الشديد بقدرات علي حسن سلامة وجهازه الأمني، فضلاً عن الهوس الهستيري المفعم بالغضب عن أمينة المفتي التي من المفترض أن تكون عكس ذلك تمامًا.
لذلك… استعدت الموساد هذه المرة، على مهل، اختارت عميلتها، ودربتها تدريبًا مهنيًا ونفسيًا يؤهلها للمهمة المنتظرة في بيروت، إضافة، وهو الأهم- إلى الغطاء الأمني المشدد الإحكام لإيريكا تشامبرز قبل دفعها لعملية بيروت التي سميت شفريًا بالعبرية (لخيم زار)، أي : (زهرة لكم) في مصطلحات الجاسوسية واستعاراتها، ففي ذلك الوقت من عام 1978 كان علي حسن سلامة في منتصف العقد الرابع من عمره أو كما يقول المثل العربي: (في زهرة شبابه).
اختيرت فسبادن Wiesbaden لإقامة إيريكا ماريا تشامبرز، قبل انطلاقها إلى بيروت، وقد اختيرت فسبادن بالذات لموقعها الاستراتيجي في مثلث هام يضم مدن فرانكفورت وبون ودارمستات Darmstat ومانهايم. وهي المدن التي يفضلها العرب للإقامة في ألمانية الغربية، ومن ضمنهم المئات من الفلسطينيين بعضهم يدرس، وبعضهم يعمل، ويتردد على هذه المدن أيضًا قيادات فلسطينية هامة، قد يصادف أن يكون علي حسن سلامة من بينهم، في إحدى رحلاته البالغة السرية لأوروبا.
وسط هذا المثلث ومزيجه البشري المتباين الوجوه والجنسيات، تواجدت إيريكا تشامبرز كطالبة أوروبية تدرس الفلسفة بجامعة فرانكفورت القريبة، وتستأجر شقة صغيرة من حجرة واحدة وصالة يقتطع المطبخ ركنًا منها. هذا إضافة إلى حساب بنكي في بنك (درسدن) يضاف إليه راتبه الشهري في الموساد، ورخصة قيادة جديدة استخرجتها من فسبادن بعدما ادعت فقدانها لرخصتها الدولية.
لكن الجديد، أن عميلة الموساد بحثت عن مكاتب منظمات رعاية الطفولة في فسبادن والمدن المحيطة بها، وحصلت على عضوية إحدى الجمعيات المحلية، ثم عضوية منظمات دولية مهمة، وقدمتها عضويتها هذه إلى المجتمع الفلسطيني في لبنان فيما بعد.

زيارة مختلفة

كانت الأوامر تقضي بألا تسعى لعقد صداقات مع الشبان العرب داخل جامعة فرانكفورت أو خارجها، على أن تترك هذا الأمر بالذات للصدقة البحتة إن توافرت، وألا تمارس أن نشاط تجسسي عن قصد. فمحاولاتها للتقرب إلى شباب عربي ستكون مكشوفة حتمًا، وأي نشاط غير طبيعي يضعها في بؤرة الشك. فرجال الاستخبارات الفلسطينية بعد وقوع حوادث عديدة، بدا واضحًا أنهم لا يغفلون عن كل كبيرة وصغيرة. إذ أوقعوا بضباط معروفين في الموساد، واستعملوا أساليب الخطابات المفخخة بمهارة ضد الدبلوماسيين الإسرائيليين في عواصم العالم، وكلها مؤشرات تدل قطعيًا على تفعيل العمل وتطور حروب الأدمغة بين الفلسطينيين والموساد.
ولما كان التواجد في فسبادن مجرد محطة انطلاق، أي انتظار مؤقت ليس معروف مداه، كان الملل إحدى سمات هذه الفترة التي عاشتها إيريكا، ملل تشويه موجات خوف الإقدام على التجربة الأولى في عالم غامض مثير، يحمل رائحة الموت بين الشهيق والزفير، وتحت الجلد.
كان صيف عام 1978 حارًا بسبب التناحرات الداخلية في لبنان إلا أن الأوامر صدرت أخيرًا، وتحركت عميلة الموساد باتجاه بيروت، تحمل بعض الأموال والخطابات من منظمة الطفولة الألمانية إلى مؤسسة (صامد) الفلسطينية والصليب الأحمر، وقامت بجولات عديدة بين الملاجئ والمخيمات الفلسطينية والمراكز الاجتماعية، تدرس أوضاعها ونشاطاتها وظروفها المادية، وما تحتاجه من معدات ونفقات.
لم تبق إيكا غير أسبوع واحد فقط في بيروت، تعرفت إلى المدينة ووطدت علاقتها بالمراكز الاجتماعية، وتجولت بالقرب من شارع مدام كوري حيث يقيم علي حسن سلامة، رسمت شكل المنطقة برأسها، وسافرت مرة ثانية إلى فسبادن حيث حصلت على معونات طبية للهلال الأحمر الفلسطيني من المنظمة الألمانية. إضافة إلى عدة آلاف من الماركات كتبرع. وعادت من جديد لبيروت وفي هذه المرة قابلت فتحي عرفات رئيس هيئة الهلال الأحمر الذي سر بما رآه من نشاط الفتاة الإنكليزية التي تدرس بألمانيا.
هذا الاهتمام الفجائي من الضيفة البريطانية، التي وصلت إلى بيروت فجأة تنشر المعونات على ملاجئ الأيتام، جعلها محط اهتمام الأمن الفلسطيني، وما توقعته الموساد قد حدثت تفصيله دون حذف. إذ تم الحري عن إيريكا في فسبادن وجاءت التقارير تبرئ ساحة الفتاة من أية شكوك:
(مسجلة بالدراسات العليا جامعة فرانكفورت. سمعتها بين الطلاب العرب طيبة جدًا. اشتهرت بين الطلاب بمناصرة القضية الفلسطينية وجمع التبرعات من أجل أطفال المخيمات في لبنان، واليتامى الذين خلفتهم الحرب الأهلية وهي عضوة نشطة بمنظمة الطفولة الدولية A.S.E.D. ونشرت صحيفة الجامعة عن اهتماماتها الاجتماعية في مجال الطفولة في دول العالم الثالث، وأطفال المخيمات الفلسطينيية).
اشتمل التقرير الأمني على كل ما يتصل بها من حيث علاقاتها بالآخرين داخل محيط الجامعة وخارجها. والمسكن والجيرة وتفاصيل التفاصيل التي تعطي صورة كاملة نهائية عنها. وبناء على ذلك أزيلت شكوك فلسطينية مؤقتة حولها. لكن بقيت هناك تحريات أخرى تتم في بيروت لمتابعة نشاطها وتحركاتها.
هذه المرة في شهر سبتمبر 1978 كانت زيارة إيريكا رقم 7 لبيروت لكنها تختلف كثيرًا عما سبقها من زيارات. إذا وصلت وبحقيبتها خطاب تفويض من منظمة A.S.E.D. بعمل فرع لها في بيروت تديره إيريكا، يهتم الفرع بشكل خاص بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام. وهذا الاتجاه فتح لها مغاليق الأبواب المحكمة في بيروت. إذ حصلت على تصاريح بزيارة مؤسسات المخيمات الخيرية والحصول على تقارير وافية عنها، من حيث النشاط والتمويل والحالات والاحتياجات.

العد التنازلي
وكانت الخطوة القادمة الجريئة في بيروت هي استئجار شقة كمقر همي لمنظمة الطفولة، إذ لم يكن الأمر مجرد العثور على شقة خالية، أية شقة تطل مثلاً على الكورنيش، أو تقع بشارع الحمراء، إنما كان الوصف المحدد لسمسار العقارات أن تكون شقة علوية جيدة التهوية، لا تخرج من نطاق شارع لبنان، ضمن مجموعة عمارات عالية متجاورة بالشارع. لكن لماذا البحث عن شقة في هذه المنطقة بالذات..؟ والإجابة بسيطة للغاية وهي من أجل مراقبة شقة علي حسن سلامة من فوق، دون أن يلاحظ أحد ذلك.
دلها السمسار على أكثر من شقة بمجموعة العمارات المختارة. لكن إيريكا رفضت لكون الشقة دون الارتفاع المطلوب، والذي يحقق ميدان رؤية للشقة الهدف وللشارع أيضًا، أو بسبب أن بعض هذه الشقق لا تطل بالمرة على ناحية سلامة. لذلك أكدت على السمسار أن يبحث لها عن شقة تتوافر بها المواصفات المطلوبة، واجتهد الرجل قدر استطاعته لمساعدة الفتاة السخية، مندوبة المنظمة الدولية التي تبغي مساعدة لبنان، إلى أن عثر على المكان المناسب وكانت شقة واسعة تقع بالطابق الثامن ذات موقع استراتيجي هام جدًا.
في أكتوبر 1978، وقعت إيريكا عقد الشقة بصفتها مندوب منظمة الطفولة الدولية، والممثل لها في لبنان، وعلقت اللافتة النحاسية على باب الشقة، وببطء شديد بدأت في شراء أثاث الشقة ولوازم إعدادها كمقر مكتبي. ومن ضمن الأدوات التي حملت إلى المقر، تلسكوب قوي دأبت إيريكا على استعماله لعدة ساعات كل يوم في مراقبة شقة سلامة، وتمكنت لمدة شهرين من وضع جدول زمن لتحركاته اليومية صباحًا. في طريقه إلى مكتبه وعصرًا حين عودته، ثم خروجه بعد ذلك في زيارات شبه منتظمة لزيارة والدته وأولاده من الزوجة الأولى.
هذا الجدول الدقيق بتحركات سلامة اليومية، كانت الموساد بحاجة ملحة إلى تفاصيله، لوضع خطة الاقتباس بحيث لا تخيب.
هكذا تحول سلامة إلى هدف سهل محدد الأماكن والتحركات والمواعيد، لا يكاد يفكر بأن هنالك من يتربص به، إمام لاستسلامه لفكرة أن الموت لن يخيفه، أو لاطمئنانه على أمنه من خلال أصدقائه في المخابرات المركزية الذين ضمنوا لها الأمن من ناحية الموساد.
لكن الموساد برغم تخوفها من غضب المخابرات المركزية، لم تتوقف عن مطاردة سلامة ومراقبته، خاصة بعد عملية (كمال عدوان) في 11 مارس 1978، بقيادة دلال المغربي، فقد كان التصميم على تصفية سلامة أقوى دافعًا وهدفًا عن ذي قبل.
وبرغم فتاة جولدا مائير، لم يخفت أمل قادة الموساد، حتى رتبوا كل شيء بدقة متناهية، ومن خلال إيريكا ماريا تشامبرز اتضحت الرؤية، وتحددت خطوات العمل القادمة لانتهاء من كابوس سلامة المفزع، وشبحه الذي ترتجف له العقول في إسرائيل.
لم يمكن من الطبيعي أن تقضي إيريكا ماريا تشامبرز وحدها ليلة رأس السنة في بيروت، خاصة والملف الخاص بها في جهاز الأمن الفلسطيني يؤكد أنها شخصية ملتزمة وجادة، بلا أية علاقات خاصة في لبنان، تهتم بعملها في جمع معلومات وافرة عن الأطفال والأسر الفقيرة، وتسعى لجلب مساعدات عديدة من الخارج لإعالة هذه الأسر، وتوفير حياة صحية آمنة للأطفال ذوي الحاجات الخاصة واليتامى.
وعلى ذلك طارت إيريكا إلى لندن حيث احتفلت مع أسرتها، ثم طارت إلى فرانكفورت وفسبادن والتقت بشكل سري للغاية مع أحد ضباط الموساد، حيث شرح لها كيفية اللقاء بعميلين سوف يزوران بيروت خلال أيام قلائل.
عادت عميلة الموساد إلى بيروت، تحمل بعض الأموال والهدايا لأطفال لبنان اليتامى، وتدرك أن وصول عميلين للمساعدة معناه أن العد التنازلي للعملية قد بدأ. وأن نهاية علي حسن سلامة أوشكت على الانتهاء.

الموت الراقد أسفل المقعد
كان علي حسن سلامة تحت إمرته سيارة شيفروليه ستيشن ضد الرصاص، ويحذره دائمًا رجال المخابرات المركزية C.I.A. من أن هناك محاولات للموساد لتصفيته، لكنه تعود على مدار سنوات هذه التحذيرات وقذف بها خلف ظهره، أما جورجينا رزق فكانت بشكل دائم في حالة توتر، كلما نظرت من الشرفة إلى العمارات العالية التي تحيط بهم تكاد تصرخ، طلبت من زوجها كثيرًا أن يغير السكن فرفض: (الرب واحد والعمر واحد) سألته ذات مرة:
لماذا لا يتحرى الحرس عن سكان العمارات المجاورة؟
فضحك سلامة:
(من الأولى أن أترك أنا هذه الشقة، لا أن أثير حنق جيراني، وأنا أقتحم عليهم خصوصياتهم).
تقول الراوية الإسرائيلية عن الأيام الأخيرة التي سبقت اغتيال (الأمير الأحمر) في لبنان:
–    (بعد عودتها إلى بيروت وقد قضت إجازة مرحة في بريطانيا وألمانيا الغربية، واصلت إيريكا مراقبتها لعلي حسن سلامة أكثر من 16 ساعة يوميًا كانت تمسك بالمنظار المكبر وتتبع تحركات السيارة الشيفروليه التي يستقلها سلامة، والسيارة الخاصة بحراسته ماركة رانز روفر.
في 17 يناير سافر من باريس إلى بيروت بريطاني يدعى (بيتر سكرايفر)، وفي فندق رويال جاردن هوتيل التقى بالكندي (رونالد كليبرج) الذي كان قد وصل من زيورخ، وكلاهما حجز سيارة من شركة ليبانون كار (Lebanon Car) إحدهما ماركة (فولكس فاجن).
مساء أحد الأيام غادرت ثلاث قوارب صواريخ سريعة ميناء حيفا، بأحدهما كان هناك مايك هيراري رئيس وحدة الاغتيالات في الموساد. وفي الليل عندما كان الساعة تشير إلى الثالثة، أنزل قارب مطاطي ميناء جونيه Jounieh شمالي بيروت، وهو الميناء الحيوي الذي يسيطر عليه الكتائبيون، أصدقاء إسرائيل في الخارج، أنزلت شحنة من مادة T.N.T. شديدة الانفجار، تسلمها سكرايفر وكلوبرج وانصرفنا دون كلام. وبعد ثوان كان القارب المطاط في طريق العودة إلى السفينة الأم، واستدارت القافلة وطوفت البحر فيما بين لبنان وجزيرة قبرص.
كانت المادة المتفجرة تزن 15 كيلو جرامًا، قام سكرايفر ورفيقه بتكويمها تحت المقعد الأمامي والمقعد الخلفي للسيارة الفولكس فاجن، التي ستقوم إيريكا بتفجيرها الكترونيًا عن بعد، بواسطة الريموت كونترول، من شرفة شقتها بالطابق الثامن.
إلى الآن لم تظهر معلومات جديدة حول إعداد العبوة الناسفة، وعما إذا كان سكرايفر وكولبرج أعداها بمفردهما أم أن هناك أحد خبراء المفرقعات من الموساد قد ساعدهما وبعد الانتهاء من وضع العبوة، أوقفا السيارة أمام منزل إيريكا تشارمبرز، حيث تسكن بمنزل أنيس عساف.

الأصابع المقوسة
صباح 22 يناير 1989 غادر سكرايفر بيروت إلى مطار لارناكا في قبرص أما كولبرج فقد ترك الفندق أيضًا… لكنه اتجه إلى جونية ونزل بفندق مونتمار انتظارًا لحدوث بقية التطورات التي انتقلت إلى يد إيريكا تشامبرز.
وبالنسبة لعلي حسن سلامة، فإن اليوم مر عاديًا، رغم أنه تسلم تحذيرًا من الأمريكيين.
كان ينتظر أن يسافر سلامة إلى دمشق في ذلك المساء، فهناك ستعقد اجتماعات الدورة الرابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، وستكون فرصة هامة لاتخاذ القرارات، حيث ينتظر أن تعقد منظم فتح اتفاقًا معتدلاً مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد أراد عرفات أن يلتقي بمنافسه الأبدي جورج حبش، ليقنعه بأن يفصل جبهته عن جبهة الرفض (؟!) وبخلاف ذلك، إدانة اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.
رجع علي حسن سلامة إلى بيته عصرًا لإعداد نفسه للسفر إلى دمشق وبخلاف ذلك فقد كان عليه أن يزور شقة أمه في غرب بيروت، لكي يقدم التهنئة لابنة أخيه جهاد بمناسبة عيد ميلادها لقد كانت الساعة تشير إلى 15.45 بالضبط، حيث ودع أبو حسن زوجته جورجينا. وضع يده لفترة قصيرة على بطنها الحامل منذ خمسة أشهر، وأخذ يداعب زوجته: (ستكون فتاة جميلة مثلك)… أجابته: (سيكون صبيًا.. إنني تحملت ذلك من أجل (علي) الصغير).
غادر الأمير الأحمر شقته وأخذ مكانه بجوار رفيق سفره، جميل، السائق متخذًا طريقه إلى منعطف الطريق عند الميدان، وقد جلس ثلاثة من الحراس في المقعد الخلفي، وتبعتهم السيارة Ranze Rover وبها خمسة أفراد آخرون من الحرس الخاص، وكانوا من القوة 17.
كانت إيريكا ماريا تشامبرز تجلس أمام نافذتها وتراقب، كيف كانت تقترب السيارة الشيفروليه بسرعة من السيارة الفولكس فاجن، المفخخة.
كان الريموت كونترول بيدها وعيناها معلقتان على سيارة سلامة، قاست المسافة بين السيارتين. ما زال هنالك مائة متر… خمسون مترًا… ثلاثون… عشرون قوست إبهامها.. السيارة تقترب… إنها الآن بمحاذاة الفولكس فاجن تمامًا، الآن وبسرعة، ضغطت على زر الريموت لأسفل، وفتحت فمها متزامنة مع موجة الضغط التالية والانفجار المذهل.
وخلال أجزار من الثانية هزت المتفجرات القوية الحي، واشتعل الشارع باللهب تطايرت السيارة الشيفروليه في الهواء… وتحول الشارع النظيف الهادئ إلى ساعة معركة شرسة خلفت عشرات القتلى والمصابين، وقفزت جورجينا إلى الشباك تنظر في فزع إلى موقع الانفجار، وكان أول ما فكرت فيه:
–    (لقد قتلوك!! فعلوها معك..).
لقد سمعت الانفجار وشاهدت كمأة الدخان، وسمعت صفارات سيارت الإسعاف التي كان تجلجل.
امتلأ شارع البقاع بالفوضى والزحام. لم يصب الحراس الخمسة في الرانز روفر بأي ضرر. لكنهم كانوا يتحركون بصعوبة. لقد تحطمت سيارة علي حسن سلامة بالكامل، لكن يبدو أنه ما زال حيًا. وبسرعة كان لا بد من إحضاره إلى مستشفى الجامعة الأميركية. ومع كل ذلك لكل ما استطاعه الأطباء في ذلك الوقت إثبات وفاته. لقد التصقت قطعة معدنية بمخه.

الملكة الحزينة
الذي حدث بعد ذلك أن تواجدت قوات أمن منظمة التحرير والشرطة اللبنانية ووجد سبعة أشخاص من المارة قد قتلوا، بينما أصيب ثمانية عشر آخرين. يضاف إلى ذلك ركاب الشيفروليه الخمسة، سلامة وسائقه وحراسه الثلاثة. أما السيارة التي فصلت سيارة سلامة والرانز روفر، فقد أصيب ركابها إصابات مختلفة ولم يمت أحد منهم، وأمكن العثور على اللوحة المعدنية للسيارة الفولكس).
وتضيف الرواية الإسرائيلية في افتخار وثقة:
في سرعة البرق غادرت إيريكا تشامبرز شقتها لآخر مرة بعد الانفجار فركبت سيارتها واخترقت شوارع بيروت حتى وصلت إلى جونية شمالاً فالتقت برونالد كولبرج ووصفت له وهي ترتجف فرحًا تفاصيل ما حدث. ومن البحر عن بعد، كان مايك هيراري يحاول أن يتأكد من بقعة الدخان التي خلفها الحادث. وفي ظلام الليل قد كولبرج سيارته إلى الشاطئ برفقته إيريكا. وبواسطة بطارية يدوية ومضت عدة مرات، تحرك الزورق، ومن ثم صعود زورق الصواريخ في عرض البحر، حيث احتضن مايك هيراري إيريكا تشامبرز بين ذراعيه، فنادرًا ما كانت تصعد إلى ظهر سفينته، عندئذ قالت له بفرح:
_ (مايك… لقد مات)، وفي مساء اليوم التالي في أكاديمية الموساد، أقيم احتفال كبير بهذه المناسبة.
كان ياسر عرفات في اجتماع هام بفندق ميرديان بدمشق، عندما تلقى خبر استشهاد أقرب رجاله وأحبهم إلى قلبه… فانفرد بمستشاريه وحراسه. ثم صدر بيان منظمة التحرير الفلسطينية، الذي يتوعد فيه عرفات بالانتقام من القتلة. وجرت مراسم تشييع جثمان الشهيد بصورة مثيرة، حيث أحيطت مقابر شهداء منظمة التحرير الفلسطينيين، بالقرب من مخيم شاتيلا للاجئين في بيروت الغربية، حمل عرفات بنفسه الكفن وسالت الدموع على لحيته المرتعشة، وسط أكثر من خمسون ألف فلسطيني ولبناني مشوا خلف نشع الشهيد.
“إننا نواري شهيدًا التراب”.
كان ذلك صدى صوت عرفات الحاد النغمة، إلى اللقاء أيها البطل؛ استقر مكانك في كبرياء! سنكمل مسيرتنا إلى فلسطين مهما كانت التضحيات.
على مقربة من عرفات كانت تقف أم حسين، الزوجة الأولى لسلامة، وقريبة المفتي الأسبق للقدس الحاج أمين الحسيني. وكان حسن سلامة، الابن الأكبر للشهيد، يرتدي ملابس الفدائيين خلال الجنازة، تتدلى الكوفية فوق كتفيه ويمسك في يده مدفع الكلاشينكوف، وتشرق نظراته بشعاعات التحدي.
لم يبك الابن في انهيار أثناء توديع أباه، كان عرفات يمشي إلى جواره ممسكًا بيده، وتتساءل العيون والعقول: هل سيظهر حسن سلامة مرة أخرى..؟ لقد سمح للزوجة الأولى بأن تكون حاضرة لمراسم الوداع الأخير، أما الزوجة الثانية فلم يكن من اللائق ظهورها، لكن سمح لسائق سيارتها بأن يصحبها خلف الجنازة من بعيد، فكانت متشحة السواد ترتجف حزنًا ولوعة، ولا أحد من المشيعين عرف أنها ملكة جمال الكون الحزينة… زوجة الشهيد.

من كتاب تحت عنوان: عاش مهموما .. مات مسموما.. ابو عمار ثائر اسطوري ام عميل لاسرائيل لمؤلفه فريد الفالوجي – الصادر عن دا الكتاب العربي دمشق – القاهرة1978

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى