إجتماعيات

الدلالة الاجتماعية للضحك بقلم : الدكتورة أمل مبروك عبد الحليم

عرَّف الفلاسفة الإنسان بأنه “كائن ناطق” أي عاقل قادر على إدراك العالم من حوله، فلا شك – كذلك – أنه “كائن ضاحك” أو “كائن يعرف كيف يضحك” ويُضحك الآخرين”، بمعنى أنه الكائن الوحيد الذي يحول الهم والقلق والحيرة واليأس والتشاؤم والضعف والتناهي إلى “فكاهة” و”ضحك”، و”هزل” لكي يبدد تلك الهواجس الكئيبة؛ باعثًا فيما حوله جوًا انطلاقيًا ملؤه اللهو والهزل والعبث واللاواقعية. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف “النكتة” ويستخدم الفكاهة، ويفنن في خلق أسباب الضحك؛ ويستعين بسلاح الدعابة والسخرية في تعامله مع الآخرين. إذن، الضحك ظاهرة إنسانية بمعنى أنها من أخص خصائص الموجود البشري، أو هي فضيلة قد اختص بها البشر.
وقد جذبت ظاهرة “الضحك” من قديم الزمان اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس، وعنى بدراستها كل من “أفلاطون” و”أرسطو” و”ديكارت” و”هيجل” و”شوبنهاور” و”سبنسر” و”نيتشه” الذي رأى أن الإنسان هو أعمق الموجودات شعورًا بالألم، ولذلك فقد كان لابد له من أن يخترع الضحك. ومن الفلاسفة من انخرط في دوامة البحث عما إذا كان “الضحك” ظاهرة فردية أم جماعية، نجد الفيلسوف الفرنسي الشهير “هنري برجسون” صاحب كتاب “الضحك” الذي يُعّدُ من أهم المؤلفات التي تناولت موضوع الضحك – من منظور فلسفي – بوصفه شيئًا حيًا، لذلك يؤكد على ضرورة معالجته بالاهتمام ذاته الذي نعطيه للحياة؛ أي البحث عن طبيعة الضحك في ثنايا “الحياة” التي تدب في أنحاء الكون.
لقد ذهب “برجسون” إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يقدر الكوميديا أو يتذوق النكته، لو أنه كان يشعر بأنه وحيد يحيا في عزلة عن الناس. وهذا يعني أن “الضحك” ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، بمعنى أن الإنسان لا يضحك – في حقيقة الأمر – إلا بوجود الآخر، والضحك إنما هو رد فعل ضد كل ما يبدو لنا في الحياة الآلية الميكانيكية التي نحياها، أي الإيقاع الآلي الرتيب الذي تسير عليه حياتنا اليومية. ومن هنا يستنتج “برجسون” أن “الضحك” نوع من السلوك الاجتماعي، أو هو استجابة لبعض مطالب الحياة الجمعية؛ بمعنى أنه لابد من يكون للضحك دلالة اجتماعية.
إن الضحك وسيلة فعالة لتصحيح تلك الآليات الضارة التي تنطوي عليها حياتنا الاجتماعية العادية بإظهارنا على ما فيها من سخف وعبث وتفاهة. ففي الحياة الإنسانية – كما يرى “برجسون” – مجموعة من النقائص التي يعمل الضحك على تصحيحها، فهو يصحح التصلب بالمرونة، والثبات بالتغير، والآلية بالحيوية، والانعزال بالاجتماع. بمعنى أن الضحك يقوم بدور المقوم الاجتماعي الذي يتطلب من كل فرد منا نوعًا من المرونة، والتكيف مع الحياة، والانصراف عن الآليات الضارة على نحو ما تتمثل في العادات الرتيبة والانفعالات المتأصلة. وهذا ما أطلق عليه “برجسون” “المقاربة السوسيولوجية” ليؤكد على العلاقة القائمة بين الضحك والآخر في بعده الجمعي؛ فإننا نضحك في الجماعة عادة، ولا نضحك إلا وسيلة لتثبيت قيم دينية أو اجتماعية أو سياسية أو محاولة هدمها.
إذن الضحك في جوهره العام ظاهرة اجتماعية وأخصب ألوان الضحك ما يكون مصدره عقليًا اجتماعيا – على حد قول برجسون – حيث أكد أن الضحك يتوجه في الأغلب إلى ما هو شاذ من التصرفات والغرائب في الحركات، والاختلاف في المسلمات أي الابتعاد عن كل ما هو خارج الأعراف الاجتماعية. يقول: “المجموعة هي التي تنشط عملية الإضحاك، وعلى هذا الأساس يكون الضحك أداة إرسالية وتواصلية للتخاطب الاجتماعي؛ لذلك فإن صاحب النكته يعمل على المشاركة مع الآخرين لتحقيق هذا التفاعل”.
إن برجسون حين يكتب عن “الضحك” وعلاقته بالسهو والتكرار والآلية، إنما يفعل ذلك بعقل المفكر الحزين الذي يرى أن ساعة الصفاء أو الأنس – إن صح التعبير – ليست خالية من نكهة مرارة تفرضها تراجيدية الحياة، ويتساوى في الشعور بهذه المرارة “الفيلسوف”، والشخص “اللا مبالي” من الناس، وكذلك “الممثل” و “المشاهد”. لذلك خصص القسم الثالث من كتابه “الضحك” لدراسة الفرق الأساسي بين الكوميديا (الهزل) والمأساة (الدراما)، وأعطى أمثلة غاية في الأهمية مستقاه من فن المسرح؛ أي المكان الذي يُظهر فيه الهزلي شكلاً من أشكال الفن الذي يقترب من الواقعية ليثبت الدلالة الاجتماعية للضحك.

أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة
كلية الآداب – جامعة عين شمس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى