الأخبار اللبنانية

سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى

كانت مواقف أهل البيت محكومة بمصالح الأمة، والامام الحسين (ع) كان منسجماً في ثورته مع هذا النهج الذي اقتضى منه أن يتصرف بالنحو الذي يعيد للأمة دورها ووظيفتها

أدّى سماحة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى العلامة الجليل الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس، الجمعة في ٤آب ٢٠٢٣، وألقى خطبة الجمعة التي قال فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.

والسلام عليكم ايها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.

ما زلنا أيها الاخوة نعيش أحداث معركة كربلاء وشهادة سيد الشهداء (ع) وما أصاب ذرية رسول الله وعترته الطاهرة (ص) من قتل وسلب وأسر ليس من موقع طائفي وإنما من موقع الانتصار لله وللحق والانتصار للامة التي مثّلت الغاية والهدف للحسين (ع) وثورته الشريفة والعظيمة وللتضحيات الجسام التي قدمها (ع) في هذا السبيل التي تظهر كم هو عظيم عنده أن تبقى الأمة الصالحة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لتستحق أن يُبذَل هذا الدم الزاكي وأن تعاني بنات رسول الله (ص) هذه الآلام وتتعرّض لهذه المأساة والإرهاب الاموي.

فقد كان كل ذلك من أجل صلاح الأمة ومواجهة عوامل الفساد والافساد فيها وحلّ عقدة الخوف لديها من مواجهة السلطة الفاسدة والحاكم الجائر وألا تكون الاثمان التي تتوقع بل تتيقن دفعها من القتل والسجن والحرمان في سبيل حفظ الدين وفي سبيل خلاصها مانعاً لها من القيام بمسؤوليتها الإلهية ووظيفتها الربّانية وسبباً لتخليها عن مهمتها الرسالية والعودة القهقرى إلى حياة الجاهلية بعد ان أكرمها الله تعالى بهذه المسؤولية.

*فحركة الامام الحسين (ع) هذه وثورته كانت حركة حضارية متكاملة الأبعاد في الثقافة والتصور لدور الأمة ولم تخرج عن المسار الذي لعبه أمير المؤمنين (ع) بعد السقيفة والإمام الحسن (ع) في صلحه مع معاوية بل كانت أدوارهم متكاملة لمصلحة الرسالة وحفظها ولمصلحة الأمة، *فأمير المؤمنين (ع) قال: ” لأُسالِمَنَّ ما سلمت أمور المسلمين”.*
وهو ما حكم تصرفه مع الخلفاء وبالأخص مع الخليفة الثالث عثمان حيث حرص على منع الفتنة ووصول بني أمية عبر معاوية ومروان ابن الحكم إلى غايتهم لو التزم عثمان الاتفاق الذي أبرمه مع الثوار، ولكنه كان أُذُناً لمروان الذي حمله على نقض الاتفاق وعودة الثوار من منتصف الطريق وهم ذاهبون إلى مصر حيث اكتشفوا أن الكتاب الذي يحملونه إنما يحملون بأيديهم أمر قطع اعناقهم ويُتَهَمُ مروان بأنه من سَهَّل دخولهم إلى القصر وتسبّب بقتل عثمان.

لقد جهد أمير المؤمنين (ع) في دفع الفتنة ولكنه أُسقط في يده، أما الامام الحسن (ع) فقد آثر الصلح مع معاوية الذي أضلَ الأمة ولَبَّس عليها بأساليبه الرهيبة حين أقنع الناس بأن المشكلة هي في التنازع على السلطة كما فعل في تصوير خلافه مع أمير المؤمنين (ع)، لذا كان الصلح من أجل كشف زيف ادعاءاته، فنفس توجّه الامام الحسن (ع) إلى الصلح يكشف بطلان هذا الادعاء، إضافة الى نقض معاوية للصلح وقوله بشكل صريح انه أراد التسلط على رقاب المسلمين وما قام به من جرائم كقتله لصحابة رسول الله (ص) الذين رفضوا الخضوع لإرهابه بالتهديد بالقتل والاغتيال بالسم وهو صاحب المقولة الشهيرة: “إنّ لله جنوداً من عسل”، ومع حجر بن عدي وخباب بن الأَرَت وغيرهم اللذين قتلهم لأنهم لم يستجيبوا لأمره بالتبرؤ من أمير المؤمنين (ع).

فقد كانت مواقف أهل البيت محكومة بمصالح الأمة، والامام الحسين (ع) كان منسجماً في ثورته مع هذا النهج الذي اقتضى منه أن يتصرف بالنحو الذي يعيد للأمة دورها ووظيفتها وهو ما قصده في قوله (ع): “إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”، وأيّ إصلاح أعظم من اعادة الأمة لممارسة هذا الدور المتوقّف على حل عقدة الخوف الذي تملّكَها وإخراجها من سجن الفساد ومن إشغالها بنفسها بالفتنة التي أشعل هذا النظام نارها بين القبائل ليصبح همّها الاكبر التنافس بينها على القرب من السلطة والاقتتال على مغانمها.

فلا يجوز وليس من المنطقي عند التعرّض لائمة أهل البيت (ع) تناول مسيرتهم على أنها مسائل فردية أو تنازع في شؤون شخصية على الحكم أو تصويره امتداداً لنزاع قبلي قديم بين أمية وهاشم، وإن كان صحيحاً من قبل بني أمية عَبَّر عنه قول ابو سفيان للعباس: “لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فأجابه العباس: إنها النبوة يا أبا سفيان”، لقد كان منطلق بني أمية جاهلياً، أما بنو هاشم فمنطلقهم وظيفة الدين والايمان التي حقّقها رسول الله (ص) والى جانبه علي (ع) وكانت وظيفتهم أي عليّ وأبناؤه بعد شهادة رسول الله (ص) هي الصون والحفظ وصلاح أمر الأمة وإقامة الحجّة عليها لتقوم بوظيفتها وتلعب دورها الذي كانت لأجله، فهي أمة لم تقم على أساس العرق والدم أو المصالح وإنما على أساس التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أيها الأخوة، إنَ ما حدث هو انقلاب أموي على الإسلام كما ذكرنا أكثر من مرة، وما فعله يزيد لم يكن تصرفاً منسلخاً عن مسيرة بني أمية، وإنما استمراراً لهذا النهج الانقلابي على الإسلام واتخاذ حزب النفاق للتستّر عليه ليتيح لهم التحرك تسهيلاً للانقلاب الذي أطاحت به ثورة الامام الحسين (ع) عليها وأحبطته.

لقد طوى أهل البيت (ع) بعد السقيفة موضوع الحكم، ولكنهم لم يتخلوا عن دور الإمامة في حفظ الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الأمة واعادتها إلى ممارسة دورها الذي عطّله الامويون في مواجهة الفساد والتسلط والاستئثار، ولم يكن الامام الحسين (ع) ليقوم بهذه الثورة لو لم يكن متيقّناً من بلوغها هذا الهدف الذي عَبَّر عنه الشاعر: إن كان دينُ محمدٍ لم يستقم الا بقتلي فيا سيوف خذيني.

إنّنا يجب أن نستوعب أن الامام الحسين (ع) لم يقم بحركة انتحارية ولم يقم بحركة أرادها مذهبية أي ليؤسّس لمذهب ليفرض بها رأياً فقهياً في مقابل رأي آخر لم يرتضيه أو ليؤسّس حزباً يتزعّمه أو ليكون مظلوماً فيندبه من يؤيده، “أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليهما السلام، فمن قَبِلَني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين”.

إنّ القضاء بالحق الذي اقتضى من الامام الحسين (ع) الصبر عليه هو الغاية التي تحقّقت وهي الحفاظ على الرسالة في مواجهة الانقلاب الذي أحدثه بنو امية بإرجاع الأمة إلى قيم الجاهلية فأفشله وتحقّق له ما أراد.

إذاً فمشروع أهل البيت (ع) ليس إنشاء حزب أو مذهب في الإسلام، فإن هذه تهمة أشاعها الامويون لتشويه هذا المشروع ومحاولة منهم لتشويش أذهان الأمة لعزل هذا التيار ومنعها من التأثّر به وقد ساعدت ردّات الفعل التي أظهرها بعض أبناء هذا الخط من الأمة نتيجة الحملات القاسية التي تعرّض لها أن تقع في هذا الخطأ وتساعد على نفسها في تحقيق ما أراده النظام مع أن الخط الاصلاحي في الأمة كان أكثر شموليةً ولكن وسم هذا الخط بالمذهبية ساعد على انحساره.

أيها الأخوة، إنّ المطلوب هو تدارك هذا الخطأ وإخراجه من الزنزانة المذهبية التي وُضِعَ فيها، إنّ الخروج من هذه الوضعية من مذهبة الصراع الذي تقتضيه مصالح بعض الانظمة، وتتولاه بعض أجهزة المخابرات الدولية التي تخشى تحرّر الأمة من هذه اللوثة واجتماعها على التزام مهمة الاصلاح يقتضي تعاون المخلصين من أبنائها والقيام بواجبهم باتخاذ خطوات مدروسة وذكية تحبط أي محاولة لإجهاضها، فإنّ أعداء الأمة سيفعلون ما وسعهم إلى افشال اي خطوة في هذا الطريق.

وأقول للمخلصين من أبناء هذه الامة: لا تخافوا السير في هذا الطريق والاتهامات التي ستوجّه إليكم لإخافتكم وثنيكم عن السير في هذا الاتجاه.

إنّ أهل البيت هم للمسلمين جميعاً، هم للأمة كلها، فهم ليسوا مذهباً ولا حزباً، (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، ويجب العمل على الفصل بين المذهبية ومصالح الأمة وعلى رأسها وحدتها التي يجب أن تكون السقف الذي لا يجوز تجاوزه والمتقدم عند التعارض مع المصالح المذهبية.

إنّ الوحدة بما فيها الوحدة الوطنية في العالم العربي والاسلامي تتعرّض اليوم لأخطر تهديد يقوده الغرب الشرير الذي يتسع ليشمل الوجود الانساني والبشري ولا يقتصر على وحدة الكيانات، وإنما على النواة لها وهي الاسرة بإشاعة الشذوذ الجنسي لتفكيكها يجب أن يشكل حافزاً قوياً لإيجاد المناعة اللازمة لمواجهة هذا الخطر، ليس بالعمل على وحدة الامة الاسلامية فحسب وتشارك أيدي كل أبنائها ومذاهبها، بل نتطلع إلى التعاون الاسلامي المسيحي على مساحة العالم لدفع هذا الخطر المحدق الذي يتجاوز أخطار الحرب النووية.

ولا بد هنا من التنويه بالموقف الذي أبداه سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الامام السيد علي السيستاني دام ظله في رسالته إلى بابا الفاتيكان والتي يؤكّد فيها المحافظة على “الفطرة التي فطر الناس عليها” وأن يأخذ هذا التواصل طريقه للتعاون بين المرجعيات الاسلامية والمسيحية لإنقاذ العالم من هذا الخطر.

كما يقتضي من اللبنانيين تجاوز المصالح الشخصية والفئوية والحزبية والطائفية والعمل على إيجاد المناعة الداخلية بتوحيد الجهود لإخراج لبنان من مآزِقِه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتفعيل مؤسساته الدستورية والتفرّغ لحماية اللبنانيين بوضع الخطط التربوية والاخلاقية والاقتصادية والقانونية لحماية المجتمع اللبناني من الأخطار المحدقة به فقراً وجوعاً وتعطيلاً وفساداً أخلاقياً ورمي المسؤولية وتحميلها للآخرين وترك اللبنانيين لأزماتهم وهمومهم المعيشية وعدم تطييف العدالة لأغراض سياسية وانتهاج موازين العدالة في التحقيق في تفجير المرفأ وإنصاف الشهداء وأهاليهم ومحاسبة المجرمين الذي يقتضي من اللبنانيين جميعا أن يقفوا صفاً واحداً في المطالبة بصور الأقمار الصناعية من الدول التي تمتنع عن تزويد لبنان بها والذي يضع ألف علامة استفهام حولها.
إنّنا إذ نجدد تعازينا لأهالي الشهداء في انفجار المرفأ، فإننا نشاركهم آلامهم والوقوف إلى جانبهم حتى الوصول إلى الحقيقة.

كما نجدّد التعبير عن أسفنا لما يحصل من اقتتال في مخيم عين الحلوة الذي يزيد من معاناة الشعبين الفلسطيني واللبناني وظُلامتهم ويُعبِّر عن عدم المسؤولية والاستهانة بالدماء البريئة الذي لا يستفيد منها سوى العدو الصهيوني الغاصب ويزيد ألم الشعب الفلسطيني المقاوم في الداخل الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى