قصص وعبر

يوم من تاريخ طرابلس يومَ قتل صديقي “محمد”\ كتب: عمار صالح

كان ذلك اليوم دراماتيكيا ، سريعا ، تعاقبت فيه الأحداث كالبرق ، أومضت في فترة من الزمن ،ثم اختفت وراء ستار الأيام ، يوم من أيام طرابلس كانت له تداعيات وتداعيات ..
كنا نسير معا في ساحة النجمة .. التفت إلي وقال لي سأذهب إلى الحلاق لأقوم بتهذيب شعري ، قلت له سأسبقك إلى مركزنا المعهود ، كانت هذه آخر كلمات تشافهنا بها ، وقد بسط القدر رداءه ، ليخطف صاحب مسيرة صحبة قريبة العهد لكنها عميقة المعاني ..
ابتسمت له ، وتركته متوجها ناحية صف البلاط، توجه هو بدوره نحو ساحة النجمة، متجها قاصدا ساحة التل ليحظى بحلّاقه المعهود وبحلاقة ترضيه ،
كان التربص ب “محمد” الثائر من قبل شباب عارضوه بالفكر والتوجه على مداه .. عهد قريب ، جمعنا جميعا في ثانوية واحدة ، وملعب واحد ، وإدارة واحدة ، وصف واحد ، ولكن اختلفت رؤانا ، فكان ذلك نذيرا بخصام أبدي فرضته استراتيجيات وأحزاب وأفكار وايديولوجيات ، لتزرع الشقاق في الأهل وأبناء البلد الواحد ..
نظر إليه مستفزا إياه مدعيا أنه يرميه بنظرة حاقدة ، اجتمع عليه أصدقاؤه وزبانيته .. والسبب خلاف في الفكر والعقيدة .. جرّوه إلى مركزهم بالقوّة ، بعدما ضربوه .. ولكنّ غليلهم لم يشف ..فبيّتوا في أنفسهم أمرا ..
تسارع المسؤولون لحلّ الإشكال خوف تطور الأمور .. وتفاهموا على ضرورة إخلاء سبيل “محمد “فالأمور هنا خطيرة وقد تُحدث انفجارا أمنيا كبيرا لا يحمد عقباه..
كنت أتابع الأحداث من المركز والتي تسارعت بشكل هستيري ..
اتصلنا بهم .. لقد أخلوا سبيله ..وهو قادم إلينا ..
خمس دقائق فاصلة .. جاء اتصال آخر . لكنه من نوع آخر .. اتصال حوّل مجرى الحدث إلى منحى مأساوي .. وصل إليّ تهدّج الصوت وكأنّه حشرجة زلزال .. وتراءت لي ينابيع الدموع في العيون .. كأنّها الطوفان .. ثم وصلت إليّ الكلمات كأنّها القيامة .. لقد قُتل محمد ..
كانت صدمة لم أعهدها من قبل .. نصف ساعة فصلتني عن آخر حديث بيننا .. لم أحرّك ساكنا .. بل كان الصمت سيّد الموقف في نفس خفيّة طريّة لم تعهد هذه المواقف من قبل .. نوع من الذهول المخفيّ قادني لحالة من توقف الفكر وانحباس الدمع ..لقد سيطر على نفسي الصمت وغابت عنها ردّة الفعل المناسبة ، فكنت كالمنقاد ..
تسارعت الأحداث ، تبلبل الوضع ، اقفلت المتاجر ، استنفرت العناصر بسلاحها ، وانزوى الناس في منازلهم ترقبا للآتي .. وكان الترقب سيد المواقف ..
كانت الحركة متسارعة .. ركبت بالسيارة مع بعض الشباب دون وعي ، والوجهة كانت مقهى التل العليا حيث يمضي والد محمد وقته ..
نرجو منك أن تخبر الوالد أن ابنه محمد في المستشفى ..
لم أكن أدرك أبعاد فعلي هذا .. وبصورة لا واعية .. قابلته .. كلمته .. لم يصدق ..انفجر في وجهي صارخا .. سمعنا أن هناك شخصا قتل في ساحة النجمة هل هو ابني ؟
نعم .. كلمة واحدة لخصت الموقف .. وكان الانفجار في نفس المكلوم كبيرا ..
توجهنا بعدها الى المستشفى لأرى صديقا لي مسجى وقد غدرت رصاصات رأسه الهادئ وشعره المجعد لتنقله من عالم إلى آخر .. كانت الصدمة تخرسني وتمنعني من أي ردة فعل .. أوصلوني إلى منزل أهلي .. صعدت إلى الطابق التاسع دون مصعد .. قابلني أبي الذي كان يتابع الحدث وهو لا يدري ما حل بي .. أخذه الانفعال إلى أن يصفعني على وجهي صفعة لا يزال أثرها في نفسي حتى الآن ..أدركت فيما بعد دون مجال للشك أنها صفعة محبة .. حاولت الخروج من البيت ..أمسكني ابن عمي مهدئا ومؤنبا والدي على تسرعه .. بت ليلتي دون شعور .. في صباح اليوم التالي .. كان الناعي يجوب الشوارع ليعلن للناس الحدث الأبرز .. سمعته يتلفظ باسمه ..هنا استفاقت كل أحاسيسي .. وكانت ردة فعل لا أنساها .. بقيت بعدها أسبوعا كاملا أعاني من فرط البكاء .. دموع تترافق مع صوت المنشد يقول : أماه لا تبكي علي إذا سقطت ممددا فالموت ليس يخيفني ومناي أن أستشهدا ..
وكانت للشهيد جنازة لم تحصل من قبل .. حمله فيها رفاقه إلى مثواه ..وحملتني بعدها الأيام لأدون في ذاكرتي أول حدث مختلف وموقف غريب حول مجرى حياتي ، ولتسجل طرابلس يوما من أيامها في ذاكرة أحداثها المختلفة .. ليبقى اسم محمد “أبا ثائر ” فصلا من أيام طرابلس التي لاتنسى .

منقول عن صفحة عمار صالح على الفايسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى