إجتماعيات

أداب الحديث والتكنولوجيا

د.أمل الأسدي

جُبل الإنسان علی التواصل مع الآخر،والتحدث إليه، والتعرف عليه، فقد قال تعالی :((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) سورة الحجرات، الآية ١٣، فلابد من التواصل بين بني البشر، وعلی هذا كانت اللغة وسيلة ً للتواصل ولاسيما وهي ثابتة نسبيا لدی الجميع، وقد فرّق( دي سوسير) بينها وبين الكلام، إذ جعلها ثابتة، وجعل منطقة الكلام متحركة، مختلفة من شخص الی آخر، بالشكل الذي يجعل لكل فرد منا أسلوبا خاصا به، ومعجما خاصا به، وطرائق تعبيرية خاصة به.
لقد كان التواصل قبل انفتاح الناس علی التكنولوجيا فعلا حيا عميقا، يستغرق مدةً زمنية نابضة، سواء كنا نقصد التواصل عبر اللغة المنطوقة أم اللغة المكتوبة، ففي كلا الأمرين هناك عمق ودقة، وهناك آداب وسمات للفعل التواصلي، أما الآن ولاسيما في ظل جائحة كورونا شهدنا تحولا جذريا في عملية التواصل، فكلّ كلامنا وتعاطينا مع الأحداث ألكترونيا، نعبر عن أحزاننا وأفراحنا وغضبنا وامتعاضنا ألكترونيا!!
وهذا أدی الی ظهور سلبيات كثيرة متعلقة بأسلوب الفرد، وسلوكه التواصلي إذا ما قارناه بأيام ما قبل التكنولوجيا!!
لقد تعودنا علی الحوار عبر الواتس اب أو الفايبر أو الماسنجر أو غيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، تعودنا حتی أصبح ذلك طبعا ملازما للأغلب، فقد يستغني عن إجراء الاتصال ويلجأ الی الكتابة السريعة أو إرسال بصمة صوتية، وقد يترك زيارة الأهل والأقارب ويلجأ الی الاتصال عبر وسيلة من هذه الوسائل!! هكذا تحولت اللقاءات وتحول الفعل التواصلي الی السطحية الجامدة، لقاءات تخلو من آثار التفاعل وتخلو من تقسيمات الوجه وتعبيراته عن الاشتياق أو المحبة أو الإعجاب أو الدهشة، هكذا أصبح كلامنا ميتا- إن صح التعبير- وهنا أود التوقف عند آداب الحديث التي يجب أن نتحلی بها حين نتحاور وحين نتواصل مع الآخرين، ومن ذلك:
🔴 إلقاء السلام: إن إلقاء التحية والسلام أمر مهم ذوقيا وتواصليا، فلابد أن تلقي السلام قبل أن تشرع ببث رسالتك إلی الآخر، ولابد للآخر أن يجيبك ويرد التحية بمثلها أو أحسن منها،إلا أن وسائل التواصل جعلت الناس لاتهتم إلی هذا الأمر رغم أهميته ورغم آثاره الإيجابية في إشاعة روح المحبة والألفة بين الناس، فما أكثر الرسائل التي تصلنا يوميا علی الواتس اب من غير تحية!!! وقد يكون المرسِل رجل دين، أو أكاديميا أو إعلاميا!! وهذه عادة سيئة يجب التخلص منها، ومعالجتها، والإلتفات إليها!! ولعلني أذكر لكم شيئا متعلقا بذلك فقبل شهر تقريبا، وجدت أحد الأصدقاء الإعلاميين يترك لي رسالة يستفهم فيها عن أمر ما، رسالة من غير تحية، فبادرت أنا بالتحية، تحية الإسلام، فوجدته يواصل حديثه من دون رد التحية، ثم ذكرته بوجوب رد التحية” فإذا لم تبدأ بالسلام، فعليك رد التحية ، وهذا أمر واجب” فوجدته يواصل حديثه محاولا التغاضي!! وهنا شعرت بالندم ، فالأولی لي أن أتبع قول الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله) وهو :
((من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه))
وكذلك قول الإمام الحسين (عليه السلام) :((لا تأذنوا لأحد حتى يسلم)) وبالفعل يا أحبة، يجب علينا التنبيه ويجب علينا محاربة هذه الظواهر التي من شأنها أن تحجم التسامح والمحبة، فقد قال رسولنا الأعظم :((إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام )).
🔴 إكمال الحديث:
من آداب التحدث إلی الآخرين، ومن آداب المجالسة ، حسن الاستماع والإصغاء الی المتكلم، وإمهاله حتی ينتهي، وعدم مقاطعته وقد لخص ابن المقفع ذلك في كتابه (الأدب الكبير ) قائلا:
“ومن حسن الاستماع :

  • إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه.
  • وقلة التلفت إلى الجواب.
  • والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم.
  • والوعى لما يقول”
    وبما أننا نعيش عصر التقنيات والبرامج الألكترونية فقد اختلف الفعل التواصلي باختلاف قنواته ولوازمه، فنحن وعلی مدار اليوم نتحاور مع أصدقائنا وأهلينا عبر المحادثات المكتوبة، وهذا لا يعني أننا نضحي بآداب الحوار والحديث، بل يجب علينا أن نرتقي وأن نواكب التطور الألكتروني، ولانسمح بأن يكون هذا التطور علی حساب تدهور الذوق الإنساني،وتراجع المنظومة الأخلاقية للفرد ثم للمجتمع.
    ومن أكثر الأفعال المستهجَنة المصاحبة للتواصل الألكتروني هو أنك وأثناء تحدثك إلی شخص معين( إعلامي، أكاديمي، رجل دين، مثقف، أديب) تجده يتركك ويذهب للرد أو التحاور في محادثة أخری، ثم يعود إليك بعد دقيقة، وهكذا يجعل من رسالتك كلمات متقطعة ، فجة، جافة، فلا هو فهم ما أردته، ولا أنت أوصلت ما تريده، بل تنهي المحادثة وأنت مليء بالطاقة السلبية،وربما تجلس لتفكر في السبب الذي عكر مزاجك محاولا الوقوف عليه!!
    هذه ظاهرة تزعجنا يوميا، فالأجدر بالمتلقي أن ينتظر المرسِل أن يكمل ما يريد قوله، أو أن يعتذر منه ويقترح عليه التواصل في وقت آخر، فآداب الحديث والحوار واحدة وإن اختلفت وسائل التواصل وتغيرت، وهذه السلبيات ستصبح بتكرارها طبعا متجذرا في الشخص، فتحوله إلی متلق مضطرب مشوش الذهن، لايبالي بالآخرين، ولايكترث بصورته في أذهانهم، ومن ثم تسهم هذه الظواهر في مزيد من الفوضی الحياتية المهدمة للذات.
    🔴 عبارات التخاطب:
    لكل مقام مقال، بحسب الزمان والمكان والمرسِل والمرسَل إليه والرسالة، فهناك فن للتخاطب وأساليب للتحدث ، فأسلوب الحديث الرسمي يختلف عن الأسلوب الإعلامي، والأسلوب الإعلامي يختلف عن الأسلوب العادي، والأسلوب العادي يختلف عن الأسلوب الحميمي وهكذا… كل شيء خاضغ للذوق والتنظيم، ولكل حديث سياق يحكمه، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي أطاحت بهذا النسق وبهذا التنسيق،وأشاعت الفوضی الخطابية بشكل ملفت، ولم يسلم منه أغلب الناس، فحشد الألفاظ وعبارات التملق وزج الألفاظ والرتب، بات ظاهرة مزعجة، يرتكبها جمع من المتحدثين، سواء كانوا أكاديمين أم إعلاميين أم مثقفين، ولاسيما حين يكون الحديث مع امرأة، فهي وغيرها الكثير: ( معالي السيدة، جناب الفاضلة، سيادة الأخت..) وكذا خطاب النساء إلی الرجال( معالي الدكتور، سيادة الأخ، جناب … فضيلة… سماحة)
    ناهيك عن عبارات التملق المزعجة التي أسهمت في تضخيم (أنا) بعض الشخصيات، فقد يكتب إعلامي ما مقالا مشوها من حيث الفكرة والأسلوب واللغة، فيُجاملونه بعبارات كبيرة جدا ( دام قلمك المبدع، دامت بلاغتك، دمت سيفا للحق…الخ)
    ياأحبة، هذه فوضی تنعكس علی الكل، وتؤدي الی مزيد من الاضطراب والتراجع، فبإمكاننا التعبير والرد والمجاملة بحدود، وبعيدا عن هذه الفوضی التي ستترك أثرها علی أسلوبنا في الحياة، أسلوبنا الواقعي أو الافتراضي!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى