المقالات

ذِكَرَيَاتٌ مَعَ أُمِّي (الْحَاجَّةِ أُمْ غَازِي)بقلمِ وَلدِها: غازِي مُنير قانْصُو

تَنْطَلِقُ ذِكْرَيَاتِي نَحْوَ عَالَمٍ آخَرَ، إلى عَالَمِ الْأُمُومَةِ الَّذِي لَا يُضَاهَى بِدِفْئِهِ وَرِعَايَتِهِ، فًمُذْ كُنْتُ صَغِيرًا ، وَوَعَيْتُ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي طَرَابُلُسَ شَمَالَ لُبْنَانَ، حَيْثُ كَانَ وَالِدِي فِي قُوَى الْأَمْنِ الدَّاخِلِيِّ يَعْمَلُ هُنَاكَ.
عُشْتُ مَعَ أمِّي فِي بَيْتنا الْجَمِيلِ، لَا زِلْتُ أذْكُرُ الْبَيْتَ، وَأذْكُرْ عِنْدَمَا كَانَتْ تَأْخُذُنِي إِلَى شَاطِئِ بَحْرِ طَرَابُلُسَ، وَإلى نَهْرِ “أبُو عَلِي”، لَا زِلْتُ أذْكُرُ أنّهَا كَانَتْ تُمْسِكُ بِيَدِي أنَا ولدُها الصَّغِيرُ الَّذِي كَانَ عُمْرُهُ آنَذَاكَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالسِّتِّ سَنَوَاتٍ، فَاشْعُرْ إِنَّهَا الْيَدُ الَّتِي فِيهَا الْأَمَانُ وَالِاطْمِئْنَانُ، تَأْخُذُنِي إِلَى السُّوقِ وَتَشْتَرِي لِي افْضَلَ الِاشْيَاءَ، كَمَا كَانَ أَبِي يُصِرُّ أَنْ يَشْتَرِيَ لَنَا نَحْنُ أَطْفَالهُ أَفْضَلَ الِاشْيَاءِ.

أَذْكُرُ شَكْلَ أمِّي؛ قَامَتَهَا الْبَهِيهُ، وَاهْتِمَامَهَا بِصِغَارِهَا، مِثْلَ أَفْضَلِ الْكَائِنَاتِ الإنسانيةِ الْحَيَّةِ الَّتِي تَرْعَى أَبْنَاءَهَا.

كَبُرَتُ وَتَحَوّلَتُ مِنْ وَلَدٍ صَغِيرٍ يَحْتَضِنُ حَافَّةَ ثَوْبِ أُمِّي لِشَابٍ يُعَبِّرُ الشَّوْرَاعَ، بِخُطُوَاتِهِ الْوَاثِقَةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَمَا انْتَقَلْنَا الَى الْجَنُوبِ وَكُنْتُ فِي حَوَالَيْ السَّادِسَةِ مِنْ الْعُمْرِ، فَتَحَوَّلَتْ الْخُطُوَاتُ مِنْ الشَّارِعِ الَى الْمَشْيِ، وَاللَّعِبِ، وَالْعَمَلِ، فِي بَرَارِي جَبَلِ عَامِلٍ فِي الْجَنُوبِ اللُّبْنَانِيِّ، وَكُنْتُ أُصَاحِبُ أُمِّي فِي رِعَايَتِهَا الْحُقُولَ الَّتِي تَخُصُّنَا كَأُسْرَةٍ، وَاعْمَلْ مَعَهَا، وَاتَنَاوَلُ الطَّعَامَ مَعَهَا فِي الْحَقْلِ، وَلَا زِلْتُ أَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَتْ تَمْنَحُنِي إِيَّاهُ بِالتَّرْحَالِ مَعَهَا فِي مَسَافَاتِ طويلةٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَفِي عَمَلِ الْحُقُولِ.

أُمِّي، كَيْفَ اسْتَطَعْتِ جَعْلِي أَثِقُ بِكَلِمَةٍ حَانِيَةٍ، بِحَنَانٍ لَا مَثِيلَ لَهُ، وَبِقَلْبٍ يَتَّسِعُ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ؟ لَقَدْ كُنْتِ أَكْثَرَ مِنْ وَالِدَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِي، كُنْتِ قَلْبًا وَرُوحًا وَحَيَاةً بِأَكْمَلِهَا. انِّي اسْتَغْفِرْ اللَّهَ رَبِّي لِكُلِّ ثِقَلٍ حَمَّلْتُكِ إيَاهُ عَلَى كَتِفَيْكِ يَوْمًاً مَا، أوْ جَعَلْتُهُ ألمًا فِي بَالِكِ، بينَما كَانَتْ أَيَادِيكِ النَّاعِمَةُ تُخَفِّفُ عَنِّي كُلَّ عِبْءٍ، وَتَمْنَحُنِي الشَّجَاعَةَ وَالْإِيمَانَ بِالنَّفْسِ، فِي حِينِ كُنْتُ أُشْكِلُ لَكِ أَعْبَاءً(خَوْفٍ، وَحَذَرٍ، وَذُعْرٌ، ..) فِي عِدَّةِ مَرَاحِلَ مِنْ عُمْرِي.

فِي كُلِّ “عِيدٍ أَم”، أَتَذَكَّرُ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الْجَمِيلَةَ الَّتِي قَضَيْتُهَا بِجَانِبِكِ، أتذكرُ تِلْكَ الضِّحْكَاتِ الصَّادِقَةَ وَالْحِضْنً الدَّافِئَ، وتِلْكَ النَّصَائِحَ الْحَكِيمَةَ الَّتِي كَوّنَتْ مِنِّي هَذَا الشَّخْصَ الَّذِي أعْرِفْهُ الَانَ، وَيَعْرِفُهُ النَّاسُ.

أُمِّي الْغَالِيَةُ، لَا تُزَالِينَّ رُوحًا تَسْكُنُنِي، وَمَنَارَةً تُسَاعِدُنِي عَلَى إِنَارَةِ حَيَاتِي. أمِّي اذْكُرُ جَيِّدًا اهْتِمَامَكِ بِالْوَرْدِ أمَامَ مَنْزِلِنَا الرِّيفِيِّ فِي قَرْيَتِنَا، فالْوَرْدُ وَالزَّرْعُ كَانَا طَوْعَ يَدَيْكِ بِأَجْمَلِ الْالْوَانِ، إِنَّهُ ذَوْقٌ جَمِيلٌ طَيِّبٌ مِنكِ، كَمُعْظَمِ نِسَائِنَا فِي هَذَا الْمَشْرِقِ، الَّذِي تَعْمَلُ فِيهِ النِّسَاءُ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ، بَلْ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ نِسَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَقُولُونَ عَنْهَا: إِنَّهُمْ يُحَرِمُونَهَا مِنْ الْعَمَلِ!

فِي هَذَا الْعِيدِ الْجَمِيلِ، أَقُولُ لَكِ بِكُلِّ حُبٍّ وَامْتِنَانٍ: شُكْرًا لَكِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَى الْعَدِيدِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُمْكِنُنِي حَتَّى التَعْبِيرَ عنهَا بِالْكَلِمَاتِ.

أُمي، لَمْ تَسْتَقِمِ لَكِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَثِيرًا يَا أُمِّي، يَا أُمَّ الشَّهِيدِ حُسَيْنٍ، الَّذِي مَضَى عَلَى تِلَالِ مِلِيتَا فِي وَجْهِ قُوَى الِاحتِلَالِ الصَّهْيُونِيِّ لِأرَضِنَا الْحَبِيبَة، وَكَانَ عُمْرُهُ تِسْعَة عَشَرَ رَبِيعًا وَنِصْفَ، شَابًّا، يَافِعًا، صَادِقًا، مُؤْمِنًا، لَمْ يَتَجَاوَزْ الْعِشْرِينَ مِنْ.عُمْرِهِ. ثُمَّ أمْضِيْتِ سَبْعَ سَنَوَاتٍ مَعَ مَرَضٍ عُضَالٍ، لَا يُفَارِقُكَ طِيفُ الْوَلَدِ الشَّهِيدِ، وَاطِيَافُ مَنْ فَقَدْتِ مِنْ الْأَهْلِ، مِنْ أبٍ وامْ وَارْبَعَةِ إخِوَةٍ، كَمَا لَمْ يُفَارِقْكَ الْمَرَضُ الْخَطِيرُ، الَى انْ جَاءَتْ سَاعَةُ الْوَفَاةِ، وَانْطَلَقَتْ الرُّوحُ بِلُطْفٍ الَى بَارِئِهَا اللهِ تَعَالَى، لِتَلْقَى رَحْمَتَهُ وَإِحْسَانَهُ.
أَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَنْ أَذْكُرَ أكثرَ مِن تِلْكَ الْمَطَارِحَ الْمُؤْلِمَةَ، إِلَّا إِنَّكِ تَسْتَحِقِّينَ الْحَيَاةَ الْجَمِيلَةَ السَّعِيدَةَ بِأَسْرِهَا، وَلَعَلَّكِ وَجَدْتِهَا عِنْدَ الرَّبِّ الرَّحِيمِ الْعَطُوفِ الْكَرِيمِ، وَرُبَّمَا وَجَدْتِ أَكْثَرَ مِمَّا أَتَخَيَّلُ بِكَثِيرٍ.

أَنْتِ أُمِّي، وَانْتِ مَلَاذِي فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ حَيَاتِي، فِي كُلِّ ألْمِ، فِي كُلِّ أزْمَةٍ، أُنَادِي، وَلَا زِلْتُ انَادِي: يَا أُمِّي.

عِيدٌ لِكُلِّ الْأُمَّهَاتِ الرَّائِعَاتِ فِي الْعَالَمِ. وَرَحِمَكِ اللهُ يَا أُمِّي وَأَسْكَنَكِ الْفَسِيحَ مِنْ جَنَّاتِهِ، وَالْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى، إِنَّهُ رَبُّنَا أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَجْوَدُ السَّائِلِينَ.
وَالْحَمْدُلِلَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

السَّلَامُ لَكِ وعليكِ يَا أُمِّي يا(حاجّة أم غازي)، لكِ أَطْيَبُ السَّلَامِ، وَالتَّحَايَا الْكِرَام.

وَلَدُكِ: غَازِي مُنِير قَانْصُو
الخميسُ فِي ٢١ آذَار ٢٠٢٤

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى