المقالات

وعود المرشحين وأوهامهم المتلاشية- كتب :د. سابا قيصر زريق في جريدة البيان الطرابلسية

بعد أن عمّت النوائب المتعددة الألوان والأضرار كافة أرجاء الوطن، دون استثناء، أصبح من اليسير على المرشحين إلى الإستحقاق النيابي القادم إعداد صفحات كثيرة من البرامج الانتخابية التي تتناول كل نائبة على حدى، وتقترح لها حلولاً من قوائم جاهزة لا تعدّ ولا تحصى. ينهمك كل مرشح بإعداد برنامجه الإنتخابي، مستلهماً إياه من واقع معاش مأزوم، يشاركه به الحلفاء والخصوم. لذلك، تأتي اجتراحاته نسخة طبق الأصل عن اقتراحات حلول غيره من المرشحين، وعوداً بحصرم رآه الشعب في حلب. والطامة الأكبر هي أن غير مرشح، وفيّاً لعادات دأب على احترامها، يحاول إيهام الناخبين بأنه هو صاحب البرنامج الفريد والمتعهد الاوحد لتنفيذه بالكامل، وهو على يقين بأنه سوف ينكث لا محال بما يكون قد قطعه من وعود.

غير أن الواقع السياسي الجديد في البلد ونضوج الناخبين المقهورين، الملوّعين من تجاربهم السابقة التي أصابتهم بخيبات تلو الخيبات، لا بد، والأمل كبير بذلك، ان يحملهم على الاستدراك أن الدواء الشافي لمشاكلهم ليس ولا بأي حال من الأحوال بيد المرشحين من الذين أكل الدهر على وعودهم الفضفاضة وشرب. ولا يجوز ان نتوخَ من الآن فصاعداً حلولاً لمشاكلنا على يد رؤيوي من هنا وآخر من هناك، أو على يد مرشح جدّي وفاعل ورصين وصادق وذي خلفية لا تشوبها شائبة، لأننا بتنا نعي أن أصل علتنا مجموعة لاعبين ممسكين بقرار الفصل في كافة الأمور، اعتمدوا بأغلبيتهم الساحقة قانون انتخاب أعوج، فصّل على قياس من منهم كان يخشى الرسوب. وإن هدف هذا القانون إلى شيء، فهو يهدف إلى تأبيد أركان الطغمة الحاكمة على كراسيهم المتآكلة. فليمسك المرشحون إذاً عن نثر الأوهام في أذهان الناخبين وليمسك الناخبون عن اعتبار تلك الأوهام وكأنها آمالٌ برسم التحقيق.

لذلك، ولما كانت الانتخابات العامة على الأبواب، وإن كان البعض يشكك في إجرائها في موعدها، ينبغي علينا جميعاً عدم الإعتكاف والإمتناع عن الإدلاء بأصواتنا بحجة أن نتيجتها معروفة سلفاً؛ وإن كان متوقعاً أن نتائج الإنتخابات النيابية المقبلة لن تقلب الطاولة رأساً على عقب، إلى درجة تسمح بانتقال الأكثرية الحالية إلى أكثرية وازنة جديدة بمقدورها تغيير الأوضاع جذرياً. غير أن الانزواء في زاوية اليأس إنما يتيح لمن لم يكتف بالاستيلاء على ماضينا وحاضرنا، بل حمله جشعه الى القضاء على مستقبل أولادنا كذلك، أن يحقق انتصارات له ولأولاده من بعده. وقد لا يحصل انقلاب دستوري حقيقي إلا بعد الانتخابات التي سوف تليها عام 2026، والأمل كبير بأن يصار تمهيداً لها إلى تعديل قانون الإنتخاب الحالي، بحيث يكرّس النسبية الحقيقية التي تؤمّن العدالة الشاملة.

وبالطبع، لا يكفي أن ندلي بأصواتنا في الصناديق ملتزمين واجب الإقتراع. إن الأهم هو أن ندلي بتلك الأصوات في مكانها الصحيح. فعلينا، إن شئنا اعتماد مبدأ الثواب والعقاب ومحاسبة من دفعنا إلى حضيض الدركات الذي نتخبط فيه، أن نحسن الاختيار، فلا نتكل على الوعود الفارغة التي يطلقها معظم المرشحين. ولنمتنع عن التصويت للمرشح الذي كان سخياً بالمال أو بالعين، مكافأة لسخائه أو فقط لذلك المرشح الذي لبىّ يوماً طلبنا بخدمة من هنا أو بنقل موظف أو بتوظيف أحد من هناك؛ فيجب ألا يعدّ كل ذلك من مآثر سيرته الذاتية. المطلوب أن يكون المرشح قد أثبت من خلال تلك السيرة أنه أهل لتبوّء منصب نيابي يفرض عليه كامل الإلمام بموجباته الدستورية في التشريع والرقابة والمحاسبة وهذا ينطبق كذلك على المرشح للمرة الاولى الذي يفقه هذه الموجبات. وكذلك الأمر، على المرشّح الذي ننتخبه ألا يكون قد دخل في بازارات محاصصية ولم يمتثل لتعليمات داخلية أو خارجية. وعليه أن يتحلى بالشجاعة الكافية، في حال كان محازباً أو عضواً في تكتل نيابي ما، لينفث في حزبه أو في تكتله ما يضمن اتخاذ هذا الأخير لقرارات وطنية ليس للخارج من مصلحة فيها؛ وأن يُؤْثِر في كل ما يرمي إليه مصلحة وطنه ورفاهية مواطنيه قبل كل شيء. فلنحتكم، وإن متأخرين، إلى ضمائرنا الحية نعمل على استرجاع أنفسنا وعزة نفسنا وكرامتنا.

ولا بد قبل أن أختم من التطرّق إلى ما يسمى بـ “الحراك المدني” أو “المجتمع المدني” أو “المجتمع الأهلي” أو “الثوار” أو… أو، إلى ما هنالك من تسميات اعتمدتها مجموعات لتتمايز عن مجموعات أخرى، كلها تنادي بوجوب تغيير الأوضاع القاتمة والقائمة في البلاد، دون أن يخطوا الخطوات الآيلة إلى تحقيق ذلك. فيتشرذمون أو يسمحوا للغير أن يشرذمهم. يتداول البعض، كما وسائل الإعلام على أنواعها، أن الحراك الشعبي الثائر منذ 17 تشرين 2019 لم يتوصل إلى إنشاء تحالفات جامعة لكل المنتفضين من كل المناطق اللبنانية. غير أنه من غير الإنصاف بمكان اعتبار عدم وجود لوائح انتخابية مشتركة لمرشحين من قوى التغيير على مدى الوطن بمثابة وصفة لإفشال مساعي هذه القوى. إن لكل منطقة خصوصيتها التي قد لا تسمح لخصوصيات قوىً خارجة عنها، وإن التقت تطلعاتها، بأن تلتحم بها من أجل تحقيق أهداف على المدى الطويل. فلتتواضع إذاً هذه القوى وتتوحّد ضمن إطار دائرتها الإنتخابية وتختار من عداد أعضائها الأوفر حظاً بالفوز لكي تتضافر أصواتهم التفضيلية في لائحة انتخابية واحدة بهدف تأمين أكبر عدد ممكن من الحواصل الإنتخابية، حتى ولو اقتصرت على حاصل واحد فقط. يفضي هذا التعاضد والتكافل المناطقي إلى تعزيز فرص خرق اللوائح التقليدية، وبالنتيجة تطعيم المجلس النيابي بعناصر من شأنها زرع الأمل في نفوس المواطنين، إيذاناً باستحداث دينامية جديدة مبنية على الحق والعدالة والمساواة، تكون كفيلة بزلزلة المعادلات السياسية الراهنة.

إن الصبر جميل والآتي لناظره قريب.

د. سابا قيصر زريق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى