إجتماعيات

الشيخ احمد بشير الرفاعي عالم، قاض، خيِّر ومصلح للدكتور محمد علي ضناوي رئيس بيت الزكاة والخيرات – لبنان

إنْ قُلنا إن أحمد بشير الرفاعي شابٌ نشأ في طاعة الله، درس العلم الشرعي في كلية التربية والتعليم في طرابلس وتخرَّج من جامعة الأزهر، ومارس العمل في المحاكم الشرعية في عكار وطرابلس، كاتباً ثم قاضياً ودرس مادتي التفسير والأحوال الشخصية في جامعة طرابلس، ثم عِلْمَ المواريث، وأصدر كتاباً جامعاً فيه. وإنه كان في بيت الزكاة والخيرات عضواً في هيئاته العليا ورئيساً للجنته الشرعية، وانه كان نِعْمَ الراعي لبلدته «القرقف»، مسقط رأسه، وعمومَ عكار، وقد شهدتْ له منابرُ المساجد والدعوةُ، وأيضاً مجالسُ الصُّلْحِ المتعددة الوجوه… إن قلنا هذا كله لم نوفِّه حقَّه.


(أحمد بشير الرفاعي) كلمات تحمل معانٍ غزيرة وتجسد شخصية رائدة ولئن كان مَعْنَيَا (أحمد وبشير) مفهومين متداولين، فإن معنى (الرفاعي) قد يحتاج إلى تحقيق واستكمال. فالكلمة مشتقة من مفردها (رفأ) بمعنى أصلح. (رفأ الثوب أصلحه). فأُطلقَ على صاحب “المهنة” (رفاعي) . ولما كانت الهمزةُ لفظاً قريبة من (العين) غلبت عليها فكانت (رفاعي) . وهكذا فإن اسم «أحمد بشير الرفاعي» يدل على الحمد والبشرى والإصلاح، وهو ما كان عليه صاحبُنا رحمه الله، حامداً مصلحاً ومبشراً والله تعالى أعلم وأحكم.


(أحمد بشير الرفاعي) عالمٌ رباني إذا تحدث وزن الكلمة وحدَّد العبارة. فما إنْ تسمعه القلوب حتى تصغي إليه، فقد قبلته العقول. بينما النفوس راحت تَنْشدُّ لتلتقط العبارة فتنغرس توجهاتٌ تؤتي أكلها بإذن ربها.
عَمِلَ في المحكمة الشرعية في بدء عمله الوظيفي، كاتباً في «محكمة» القاضي الشرعي سماحة الشيخ مفيد شلق رحمه الله، وكان «القاضيان» منسجمين فكراً ومنهاجاً، وكل منهما شديدٌ في الحق، ليِّنٌ مع المتداعيين الفقراء و”المظلومين”، وكل منهما كان يَرْغَبُ ويُرَغُِّّب بالصلح وإصلاحِ ذات البين، خاصةً وأنَّ الشرع الشريف يحضُّ على ذلك، كما أن القضايا والدعاوى أمور بين زوجين أو هي عائلية تخصُّ نفقةَ الأولاد أو الأبوين، أو هي خلاف حول إرث أو تركة، وما يتفرع عن ذلك أو يتصل.
وإذ كان جديراً أن يكون الشيخ أحمد قاضياً إلا أن القضاء تأخر عنه، ولم ينصفْه إلا في زمن متأخر، فأثبتَ جدارته الرائدة في محكمتي عكار وطرابلس الشرعيتين، مُصْدِراً أحكاماً في غاية الدقة والإحكام. فقد كان مُدْرِكاً خطورةَ عمله ومدى تأثيره على المتداعيين يظهر ذلك جلياً في فيديو له يقول: (… إذا جار الأمير وحاجباه، وقاضي الارض أسرف في القضاء فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لقاضي الأرض من قاضي السماء)!!.


لم يكتفِ الشيخ أحمد بعمله القضائي، فهو، قبله وبعده، فقيهٌ يحب أن يستفيدَ من معارفه وعلومه، أجيالُ الأمة. فكان أنْ دعته جامعة طرابلس، وقبلها معهد طرابلس الجامعي، للتدريس، ثم غدا عضواً في مجلسها. الأهمُّ من ذلك قبولُه بتدريس فقه «الإرث» وتعليمه، وهو من أصعب المواد، لأسسه الدقيقة ولتفرعاته الكثيرة، تبعاً لظروف كل حالة إرثية، وما فيها من خلاف بين الفقهاء واختلاف، حتى في المذهب الواحد. وفقه الإرث علمٌ يفرُّ من تعليمه كثيرٌ من الأساتذة العلماء، إلا إن الشيخ أحمد رحمه الله كان البطل المغوار فيه، فـ “بشَّرَ” به (وهو بشير) مادةً مبسطة واضحة متفرعةً كالشجرة في أغصانها، وكل غصن يحمل ثمراته في تسلسل إرثي سلس دقيق. ثم قام بيت الزكاة والخيرات ــ لبنان بطباعة الكتاب وتقديمه هدية طيبة لطلبة العلم وللعلماء والمحامين والقضاة والمهتمين.
في مقدمة الكتاب كتب رحمه الله: (هناك الكثير ممن اشتغل بهذا العلم، فألفوا فيه الكتب ووضعوا له المسائل والحلول. وقد وفقني الله تعالى فاقتبست من معارفهم، ونهلت من مواردهم ما أعانني على كتابة أبحاث ومذكرات وضعتها بين يدي إخواني الطلاب، تسهيلاً لهم في الفهم، وتشجيعاً على المتابعة. ثم بدا لي أن أجمع ذلك كله في كتاب سميته: «فقه المواريث في الشريعة الإسلامية»، راجياً من خلاله تعميم الفائدة والأجر من الله تعالى).


لم يكن القاضي الشيخ أحمد بشير الرفاعي رحمه الله، إلا فاعلاً موجهاً مقرراً في بيت الزكاة والخيرات، فقد انضم إلى هيئته العليا، بعد أن اطلع على حجة وقف البيت، وقد أصدرها وثيقة شرعية كونه قاضيَ المحكمة التي قُدِّم اليها نص الحجة لإثباتها في سجلات المحكمة وإصدارها وثيقة رسمية.
أذكرُ عندما قدَّمتُ له حُجَّةَ الوقف لتسجيلها في المحكمة ليتمكن كلُّ راغبٍ أو مهتم الاطلاع عليها، قال لي: (إنها حجة جامعة، بل هي نظام جديد للعمل الوقفي الخيري. أتمنى أن أكون من بين القائمين عليه المسؤولين عنه متابعاً، ومتحملاً المسؤولية في فريضة الزكاة خدمةً للفقراء والمساكين وأصحاب الحقوق. كان هذا الموقف من القاضي الشيخ أحمد بشير رائداً ورائعاً، بقدر ما كان نموذجاً على الخدمة العامة، تقرباً إلى الله سبحانه. فهذا النبي يوسف عليه السلام قال لملك مصر : (اجْعَلْنِي على خزائن الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) سورة يوسف آية 55. وقد كان تنظيمه نعم القائد الذي دعا إلى الله وحمى مصر من الجوع. كان القاضي الشيخ أحمد عضواً قائداً في مسيرة بيت الزكاة والخيرات يسدد ويقارب وينصح يعارض ويوافق. لا عجب بعد ذلك، أنْ نرى القاضي الشيخ احمد يركب سيارته، منتقلاً من «عكار» إلى «طرابلس» منضماً إلى اجتماع الهيئة العليا قائماً بواجبه الشرعي في التسديد والتقريب، تمهيداً لاتخاذ القرار، لما فيه خدمة أهداف البيت وخدمة مستحقي الزكاة والصدقات والتبرعات المشروطة، ثم يعود أدراجه إلى بلدته «القرقف» في عكار مساءً أو ليلاً وهو فرِحٌ أنّه قام بخدمة شرعية رائدة.


في صيف عام 2018 رغب رحمه الله، أنْ يتفرغ إلى العبادة والتأمل والدراسة والكتابة، فاختار منطقة «القموعة»، وهي سهل متسع في أقاصي جبال عكار معتكفاً. فأقام في فندق صغير بُنِيَ حديثاً هناك، متفرغاً للعبادة والمطالعة والكتابة. أذكر أنه حدثني هاتفياً من هناك واصفاً مشاعره، مؤكداً دعوته للإنضمام إليه، في خلوته الجميلة بين أحضان طبيعة خلابة، سبق لي أن عشقتها وزرتها مرات ومرات. فهي بقعة رائعة بحق لكنها لا تزال للأسف (مهمشة) من مسؤولي لبنان، لا أقول اليوم، ولبنان يعاني سكرات الموت أو صرخات الحياة من جديد…لكن منذ أنْ تأسس لبنان وقد قارب عمره القرن من الزمان. اعتذرتُ بسبب انشغالي الشديد في عملٍ دؤوب طالباً منه الدعاءَ، لعلَّ الله يقبلُ من كلانا: دعاءً عريضاً وعملاً مباركاً!!.


لعل أبرز ما عاناه فقيدنا رحمه الله مرضهُ في عينيه، حبيبتَيْهِ وحَبيبَتَيْ كلِّ حي!! فراح يعاني من المرض وسلبياته فلما عرفتُ نصحتُه بطبيب جراح هو الدكتور «أحمد منصور» في بيروت (كان قد أجرى لي عملية في عيني ونجحتْ بفضل الله)، اتصلت بالطبيب فلاقاه بالتقدير الواجب، ثم ليشكرني على إيفادي له عالماً زاهداً وصاحبَ روح هادئة، هكذا أصبح الشيخ أحمد المريضَ المدلل لدى الدكتور منصور. فقد كان يحدد له موعد استقباله في عيادته في بيروت في الوقت الذي يختاره الشيخ الآتي من عكار حتى ولو كان الموعد يوم عطلة!! فكان الدكتور منصور يسرع بفتح عيادته حتى في يوم عطلة،منتظراً قدوم الشيخ الرفاعي .


كنتُ والشيخ أحمد رحمه الله، في شبه اتصال دائم، في ظل جائحة كورونا وظروف لبنان المعقدة، وانقطاع السير على الطرق… كان يهاتفني وأهاتفه، وكثيراً ما ختم حديثه: (الفرج الفرج يا الله اللهم ارفعْ البلاء عنا وعن الناس). أذكرُ في آخر اتصال لي معه، سألني عن عيني وسألتُه عن عينيه فقال: نعمةُ العينين لا تقدَّرُ بثمن، ثم راح يقصُّ عليَّ بعضَ عذاباته ليختم بقوله: (الحمد لله أعطانا الكثير وما أخذ منا إلا القليل ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)…
بعد أيام تدهورت صحتُه فنُقِلَ إلى مستشفى الشفاء في طرابلس للعلاج. كان يوم وفاته، السبت في 26/6/1443 = 29/1/2022، في صحة جيدة، كما حدثني ولده بلال. فقد تناول طعامه بنفسه دون أية واسطة بشرية أو آلية، ثم حمد الله على نعمه، ليفارق الحياة بعد ساعة أو أكثر ملبياً دعوة ربه إلى حياة أخرى، طالما حدَّثَ نفسه بها راغباً بها، على أمل نعيم دائم سمردي لا نهاية له!!.


من جميل ما علمتُ ما حدثني به ولده «بلال»، من أنه قبل مرضه الأخير وقبل انتقاله إلى المستشفى، كتبَ رحمه الله أبياتاً من الشعر كمسودة أولى لم يتسنَّ له مراجعتها واعتمادها، إلا انها تعكس خلجاته وأمنياته في اللحظات الأخيرة. ترك (القصيدة) على مكتبه في بيته في القرقف ومشى:
إن في جسدي كبدا مجروحة قد أضرَّ بها الألمِ
سألتُ الله في عليائه أن يعافيني وان يرفع السقمِ
فإنني امرؤ فقير عاجز قد تشاغلت عنه الأممِ
فيا رب إن أوجاعي كثيرة وأنت الله الرحمن الأعلمِ
سامحْ عبداً مذنباً أبداً وخذه إليك وهو سالم مكرمِ
فرضاكَ يا رب خيرُ أنيس وعندك للخائفين خير النّعَمِ
فكيف يخشى جريح الفؤاد من جرحه والجرح من المنْعِمِ


رحم الله القاضي الشيخ المحاضر المؤلِّف، الزاهد، الخطيب، المتحدث، الداعي إلى الخير والفاعل فيه وله، المصلح بين الناس، العامل في سبيل الله: أحمد بشير الرفاعي. هو بإذن الله أحمدٌ عند ربه، “يُبَشَّرُ” بجنات الخلد له فيها “الرفعة”، نلقاه فيها هناك بإذن مولانا ومولاه، فهو رب كريم غفور رحيم وصدق النبي صلى الله عليه وسلم القائل:
(عش ما شئت فإنك ميت وأحببْ من شئت فإنك مفارقه واعملْ ما شئت فإنك مجزى به…) رواه الحاكم في المستدرك وقال الذهبي: صحيح. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى