المقالات

إزالة آثار العدوان – د. قصي الحسين

مساء يوم 28 ديسمبر، أغار الطيران الإسرائيلي على مطار بيروت، وأحرق أسطوله من الطائرات المدنية بالكامل، على الأرصفة والمدرجات. كانت حقا نكبة عمياء. عظمت الخسائر، وعظمت الدروس. وفي اليوم التالي، نشرت إحدى الصحف اللبنانية، رسما كاريكاتوريا لمشهد الطائرات المحترقة و المدمرة على الأرض، ورسما آخر لعامل النظافة. بيده مكنسته. وبتعليق درامي: “إزالة آثار العدوان”!

تكرر المشهد الكارثي، مرة أخرى في صيدا، أثناء الإجتياح الإسرائيلي للبنان صيف1982. روى لي شاهد عيان، قال: كانت الدبابات الإسرائيلية تتقدم. تهدم كل ما تجد أمامها من مبان. وخلفها كانت الجرافات، تزيل آثار العدوان.

كنت في 12 تموز العام2006، في طريقي إلى وزارة التربية، في الشياح. دخلت الوزارة صباحا، لطلب إفادة ثانوية. وجدت الوزارة، مستعجلة، في توضيب الملفات. سألت عن السبب، فما رد علي أحد من الناس. خرجت من المبنى مذعورا مثل غيري. ثم جاءت الغارات الإسرائيلية، لهدم الضاحية. وفي اليوم الرابع والثلاثين من حرب تموز التدميرية العدوانية الغاشمة، من الحروب الإسرائيلية على لبنان، عدت إلى الضاحية للإطمئنان على “دار الهلال” للطباعة والنشر، وعلى أهلها من آل مغنية، فوجدت الناس، وقد إنصرفوا جميعا لإزالة آثار العدوان.

كان المسؤولون اللبنانيون، يكتفون، بالمكنسة، لإزالة آثار العدوان. ما فكروا مرة، بإزالة آثار العدوان من جذوره. كانوا يستعملون البدائل السهلة: المكنسة، لكنس آثار الردميات جراء الجريمة. والقطن والمطهرات و”الدوا الأحمر”، لتضميد الجروح. وكانوا يسارعون لملاقاة الإجتماعات الخارجية بطلب التعويضات المالية عن الخسائر المادية. فتسارع الدول، للتبرع والدعم بلا شروط. فتهدأ الخواطر، وتقع الغارات المحلية على الصناديق، فتنهبها، وتؤجل البت بموضوع إستهداف لبنان بالحروب.

أمضى لبنان عمره كله في ساحات الحروب، متنقلا من حرب إلى أخرى. كان المستفيدون منها، في الداخل والخارج، يقطعون وقتهم، في إيجاد التبريرات المملة والتافهة، والتي لا تقنع “عقل ذبابة”. وكانت الأموال تنصب في الصناديق وفي الجيوب، تعويضا للمسهلين للحروب وللمروجين لها، وللمبررين لوقائعها، وللعاملين على كنس آثار مخلفاتها، دون المبادرة للنظر فيها، وإيجاد المخرج الصالح، للخروج منها، ووقفها، بصورة نهائية. لا كما يفعل طبيب العيون، بنقل الشوكة من” العين إلى أختها”.

منذ”ثورة17ت1 – 2018″، بدأ اللبنانيون يدفعون ثمن حروب الإقليم والجوار الإقليمي. وإتسع الخرق على الراقع. فلم تعد كل الخزانات المالية، تكفي لإشباع نهم تجار الحروب إلى المال. كانوا يمدون أيديهم إلى صناديق دعم الشعب اللبناني، وينهبونها. كانوا يوزعون الشيكات والحسابات والقروض، على الأنساب والأصحاب بلا حساب. فنضبت الخزائن. وجفت الأموال. وإنهار الإقتصاد على رؤوس اللبنانيين دفعة واحدة.

صار المسؤولون، يتقاذفون التهم، في أسباب الإنهيار. بل في أسباب الإنهيارات المادية والمعنوية للبلاد. فإستنفدوا جميع الحجج. كانت كلها واهية. أما السبب الرئيس للإنهيارات، فمعروف لكل الباحثين والدارسين. ولكل من عاش لبنان، بكافة حروبه جيلا بعد جيل.

مسؤولية الإنهيارات في البلاد، ليست في خارج البلاد. وإنما هي في داخلها. ولو أنها لا تعفي الخارج من مسؤوليته، عن جميع الحروب التي إستهدفت لبنان. والمسؤولون هم فريق واحد. ولو كان أهل هذا الفريق، تعسكروا في خندقين. إذ من الطبيعي، أن كل حرب تحتاج إلى فريقين متقاتلين. وأن الشعب اللبناني كله، يدفع ثمن الخسائر التي تقع له جراء إستمرار وإستجرار الحروب إلى لبنان.

خسائر اللبنانيين، في بلادهم، لا تعوض. وهي تحتاج إلى عقود من الزمان، حتى تنهض على رجليها مثل سائر بلاد العالم.

إن الأزمة الأخيرة التي نالت من لبنان مقتلا، لم تنته بعد. وليس هناك من يهب لنجدة الوطن، وإنقاذه من الهوة السحيقة، المادية والمعنوية، التي سقط فيها، ولو إستقال “الوزير القرداحي”.

أزاح كتاب الإستقالة، الستارة عن الشروط لنجدة لبنان. أوضحت “ورقة جدة” خارطة الطريق لإنقاذه . حملت شروطا سياسية وشروطا دبلوماسية وشروطا إصلاحية. جعلتها ورقة جدة، كلها في كتاب واحد. طالبت المسؤوليين اللبنانيين، بالعمل على الأخذ بها بصورة جدية. رهنت المساعدات والعمل على فكاك لبنان من العزلة العربية والدولية، بتطبيق بنود “ورقة جدة”، الخليجية- الفرنسية.

الإصلاح السياسي، ومعه الإصلاح المالي،ومضافا إليهما، التصحيح الدبلوماسي؛ لمما يضع لبنان على خارطة الطريق، للوصول إلى الإنقاذ.

إن تجمل لبنان بتنفيذ هذة الورقة، لا يحمل إليه “المن والسلوى”. ولا يعيده إلى شهر العسل السابق، مع الأسرة الدولية، ومع العرب. فدون ذلك حروب تؤدي إلى حروب. فتنفيذها ليس من السهولة بمكان: ونفوس منقسمة عليها. ونفوس داعية إليها. و أهل الخارج، في حرب على موضوع آخر، له عند أهل الداخل، أذرع طويلة.

اللبنانيون مطالبون بمراجعة نقدية لكل تاريخ الحروب عندهم. مطالبون بأخذ الدروس والعبر، بعد أن توقف الدعم المالي عنهم، وسدت منافذه.

ليس أمام اللبنانيين إلا الطريق المستقيمة. إلا الصراط المستقيم. أن يجتمعوا وأن يجمعوا على بناء الدولة، تماما كما يفعل اليابانيون في الكوارث، بدون الإستعانة من أحد. يحفزهم على ذلك حافز واحد: كلهم أخوة في الوطن. وإذا ما إنهار سقفه، فسينهار على رؤوس الجميع. وأن أهل الخارج، لا تتملكهم عقدة الخوف، على غياب لبنان، أو على إنهياره.. فهم في شغل شاغل عن هذا الأمر.

إن “إزالة آثار العدوان” على لبنان، هو بأيدي اللبنانيين أنفسهم. أن تستحثهم ورقة جدة وتحفزهم، على الوحدة والإجتماع، وعلى بناء الدولة، بشروط ومواصفات عالمية. وتحصيل “ورقة جدة” ووعودها، إنما هو بإزالة آثار العدوان، من بعض على بعض. حتى تستوي الأمور بين جميع اللبنانيين. دون إفتئات فئة على فئة. ودون إستقواء فريق من اللبنانيين على آخر، مهما كانت الأسباب، ومهما تنوعت الدوافع، ومهما ثقلت الأثمان، ومعها أيضا الموازين الداخلية والخارجية.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى