الأخبار اللبنانية

استشهاد صدام حسين…. وثقافة الانصاف

نص كلمة الاستاذ معن بشور
في الندوة الفكرية التي دعا اليها حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي
في الذكرى الثالثة لاستشهاد الرئيس صدام حسين

فندق ميريديان كومودور

قلما لخصت لحظة عمراً كما لخصته اللحظة التي استشهد فيها الرئيس صدام حسين..

وقلما فسّرت كلمات قليلة سيرة حياة طويلة، كما فسرتها آخر الكلمات التي قالها الرئيس الشهيد على منصة الاعدام…
وقلما جسدت وقفة واحدة شمائل عدة، كما جسدتها وقفة ابي عدي الشجاعة التاريخية امام جلاديه….
لقد انصفت تلك اللحظة، كما الكلمات، كما الوقفة، الرجل الكبير امام الجميع، لا سيّما من خاصمه منهم لسنوات طويلة، ومن عاداه منهم، ومن انزلق الى اتهامه بأقسى التهم.. إلا قلة  قليلة لم تستطع ان تترفع عن احقاد مستأصلة، وعن حزازات متجذرة في نفوسها، فعزلت نفسها عن غالبية العراقيين اولاً، ثم عن احرار الامة وشرفاء العالم الذين أيّاً كان رأيهم في تجربة حكم الرئيس الراحل لكنهم انحنوا جميعاً امام رهبة الموت ثم امام بسالة القائد واستهزائه بجلاديه.
لقد عززت تلك اللحظة الاليمة من صبيحة اول ايام عيد الاضحى المبارك، وآخر ايام العام 2006، مما يمكن ان نسميه “ثقافة الانصاف” في العمل السياسي وفي التقييم التاريخي، وهي الثقافة التي تجتمع فيها الموضوعية والاخلاق معاً، فالموضوعية بما فيها من تجرد دعوة لنا ان ننظر الى الامور بعينين لا بعين واحدة، فتكون الرؤية شاملة واضحة ومتجردة، اما الاخلاق فدعوة  لنا الى الترفع عن الصغائر، وتجاوز الرواسب والعصبيات المريضة.
وثقافة الانصاف هي كذلك المدخل لثقافة المصالحة، كما هي الابنة الشرعية لثقافة المراجعة، كما هي الطريق لتعميق ثقافة الوحدة، التي بدورها درع المقاومة وثقافتها، واطار المشاركة وحصنها، والطريق اليوم لتحرير كل ارض  محتلة، ولتوحيد كل الطاقات المهدورة واستنهاض كل القدرات المعطلة انما يمر عبر ميمات اربع، رفعناها بعد اسابيع على احتلال العراق 2003، وهي مقاومة، مراجعة، مصالحة، مشاركة….
ثقافة الانصاف تجعلنا يتذكر ان العام 2006 هو العام نفسه الذي بدأ بحصار وعدوان على غزة، وانتصف في شهر تموز بالعدوان على لبنان، لينتهي باغتيال الرئيس الشهيد، مما يؤكد على طبيعة الاستهداف الذي لا يميز بين بلد وآخر، بين مقاومة ومقاومة، مما يجعلنا جميعا نرفع شعار ” مقاومة واحدة لامة واحدة”.
فثقافة الانصاف  تقتضي الاعتزاز برجل اتهموه بالهرب من بلاده في صفقة دولية فاذا به يظهر مقاوماً في كل بغداد وكل العراق، واتهموه بالسفر عبر طائرة روسية من مطار بغداد فإذ بزيارته الاخيرة للمطار كانت ليشارك بنفسه مع ابناء العراق البواسل والمتطوعين العرب في معركة شهيرة اوقعت خسائر كبرى بقوات الاحتلال، واتهموه يوم اسره بأنه كان منكسراً محبطاً منهاراً، فاذ به ينبري مساء اليوم ذاته في وجه من زاره في زنزانته للتشفي من رجال الاحتلال، باعترافهم انفسهم ليوجه لهم كلمات تؤكد انه الحر بينهم وهم الاسرى، وان زنزانته الضيقة هي اوسع بكثير من فضاء المنطقة الخضراء التي بها يحتمون…
وثقافة الانصاف تقتضي الاقرار ان حزب البعث الذي ارتبط به صدام حسين فتى، وناضل في صفوفه شاباً، وحكم بأسمه رجلاً، ليس حزباً عابراً في حياة العراق حتى يمكن استئصاله من خلال حرب عالمية شنت على البلد العظيم، وليس حزباً طارئاً على نسيج العراق حتى يمكن اجتثاثه بقانون صادر عن سلطة احتلال، وليس تجمعاً لمنتفعين او انتهازيين حتى يمكن الغاءه بابعاده عن الحكم، بل ان هذا الحزب بات جزءاً من حقيقة العراق ورمزاً لوحدته وعروبته وكرامته ترتعد فرائص المحتل وادواته أمام مناضليه الاشاوس، وتهتز سطوة الاحتلال امام وقفة قادته في المحاكم، وصمودهم في بوادي العراق ووديانه ودساكره، فلا الاغتيال اسكتهم، ولا الاعتقال اضعف من عزيمتهم، ولا الملاحقات والمطاردات والتشرد والمنافي أوهنت من ارادتهم، وغيرت من وجهة مقاومتهم..
وفي هذا الاطار لا بد من توجيه التحية لجبهة الجهاد والتحرير والخلاص الوطني التي يقودها امين عام حزب البعث المجاهد عزت ابراهيم الدوري على قرارها بتحريم قتل العراقيين او قتالهم سواء كانوا في الشرطة او الجيش او المؤسسات الحكومية وتركيز المقاومة ضد المحتل الامريكي فقط، هو تعبير عن ادراك لتفويت الفرصة امام الراغبين في اثارة الفتن بين العراقيين من جهة كما هو تأكيد  عن الذي يقف وراء المجازر في العراق هو المحتل الامريكي وعملاؤه والموساد الصهيوني وشبكاته وذلك بهدف الانتقام من الشعب العراقي الذي افشل بمقاومته الباسلة، العسكرية والسياسية والشعبية، مخطط الهيمنة الاستعماري الصهيوني على العراق وعلى المنطقة.
وثقافة الانصاف تقتضي الاقراربالفارق الكبير على كل صعيد بين احوال عراق ما بعد الاحتلال، عن عراق ما قبل الاحتلال، وان ما ارتكبه الاحتلال واعوانه في كل مجال من فظائع وجرائم وافساد وتدمير يبقى اضعاف اضعاف ما كانوا ينسبونه هم، أي اعداء العراق، الى حال العراق قبل الاحتلال، وهو فارق بدأ يحس به الغالبية الساحقة من ابناء العراق الذي تقاطرت منهم اعداد ضخمة الى ضريح الرئيس الشهيد في العوجة في ذكرى استشهاده، اعداد تمثل العراق بكل مكوناته، ويكفي ان نذكر كيف صدر مرسوم حكومي قبل اشهر يمنع زيارة طلاب المدارس الى الضريح…
ان ثلث العراقيين اليوم فقراء، كما تقول دراسة نشرتها بالامس جامعة بابل، وان نصف ابنائه عاطلون عن العمل، وان هناك مليون ارملة وخمسة ملايين يتيم، بالاضافة طبعاً الى اكثر من مليون ونصف مليون شهيد، واربعة ملايين عراقي مهجر داخل بلده او خارجه، وهي جردة حساب كافية لكي ننصف العراق ما قبل الاحتلال، حيث لم يكن هناك فيه أميّة بعد حملات مكافحتها، وحيث كان فيه واحد من افضل انظمة الرعاية الصحية في العالم، وحيث كانت ثروة علمية ضخمة ما زال اعداء العراق حتى الساعة يحاولون النيل منها، وحيث كانت مشاريع صناعية وزراعية يمتلأ بها العراق، وحيث كانت جامعات ومعاهد ومراكز ابحاث وجيش من أكفأ العلماء وقد اغتيل منهم الكثير، وحيث كان هناك امن واستقرار ووحدة وكرامة ودور للعراق بين ابناء امته والعالم، فاين عراق ما بعد الاحتلال من كل هذا.
وثقافة الانصاف ايضا هي الضمانة لنا بوجه اسلوب “الشيطنة” (Demonization) التي يسخر لها اعداؤنا وسائل ضخمة وامكانيات كبيرة لكي “يشيطنوا” صورة أي رجل او حزب او دولة تتصدى لمخططاتهم ومطامعهم، والكثير مما وقع بالامس اسير هذا الاسلوب ضد الرئيس صدام اصبح اليوم هدفاً لاسلوب الشيطنة نفسه، فالمقاوم يصبح ارهابياً، والمدافع عن حقوقه متطرفاً، والمتمسك  بالمبادئ عميلاً لهذا النظام او ذاك، حتى اذا فشلت “الشيطنة” باسقاط من يريدون اسقاطه كانت الحرب، وكان الحصار وكان الاغتيال…
وثقافة الانصاف تقتضي منا الاقرار بان اول المعارك التي شهدها العالم مع نهايات القرن الماضي وبدايات هذا القرن ضد ما يسمى النظام العالمي الجديد، انما كانت المعارك التي خاضها العراق بقيادة حزب البعث، ودفع اثماناً باهظة فيها وصلت الى حد احتلاله وتدمير مقومات دولته ومجتمعه، بل تلك المعارك التي انكشفت بها حقيقة ذاك النظام الذي اعلنه جورج بوش الاب من قلب مخاض الالام  العراقية عام 1991، كما اعلنته كذلك كونداليسا رايس يوم تحدثت عن ولادة  نظام شرق اوسطي جديد من آلام المخاض اللبناني، فلقد كشفت الحروب والحصارات على العراق ازدواجية المعايير لدى نظام دولي يشن حرباً على بلد مؤسس في الامم المتحدة بازعومة وجود سلاح دمار شامل فيما يحمي هذا النظام ترسانة كاملة من هذا السلاح لدى الكيان الصهيوني، بل نظام دولي يعلن ان رسالته هي نشر الديمقراطية وحقوق الانسان فاذ هي تعبر عن نفسها في مجازر الفلوجة والنجف والموصل والبصرة وكل انحاء العراق كما في جامعات  ” ابو غريب” و “بوكا” للتعذيب وفي انظمة المحاصصة الطائفية والمذهبية التي هي نسف لجوهر الديمقراطية..
وثقافة الانصاف تقتضي منا الاقرار ايضاً ان الكثير من الرموز والقوى والهيئات العربية والاسلامية والعالمية التي ناصرت العراق ضد الحصار والعدوان والاحتلال فتعرضت بسبب ذلك لكل محاولات التشويه، ولكل انواع الاتهام، هي اليوم، كما دائماً، على رأس المدافعين عن حق المقاومة في فلسطين ولبنان وصولاً الى العراق في تأكيد لوحدة المقاومة التي هي البعد الحقيقي لوحدة الامة. وما حكاية جورج غالاواي  الذي يقود اليوم قوافل الامداد الى غزة، كما قادها الى بغداد، الا الدليل الاسطع ان الموقف السليم وحدة لا تتجزأ، وان لا ازدواجية معايير في الموقف من المقاومة، وان كل الاتهامات والشتائم وحملات التخويف والارهاب لن تثني مناضلاً عن السير في طريق اختاره…
ايها الاخوات والاخوة…
في الذكرى الثالثة لاستشهاد الرئيس صدام حسين يمكننا ان نقول ان دائرة انصافه ورفاقه وتجربته تتسع يوماً بعد يوم، فانصاف المحبين المتحمسين له والمدافعين عنه هو دعوة لمراجعة التجربة بما لها وعليها، بهدف تحصينها وتعميقها وتنقيتها مما علق بها من شوائب، اما إنصاف من كان مختلفاً مع الرجل او معترضاً على حكمه او حتى متحاملاً على تجربته فهي دعوة له لأن يمتلك الجرأة لاعادة النظر بموقفه السابق، وان يكون اكثر توازناً في النظر الى السلبيات والايجابيات، بل ان يكون اكثر تحرراً من الحساسيات والعصبيات والرواسب القديمة…
في ذكرى استشهادك نقول لك، نم قرير العين يا ابا عدي فشعبك في العراق يهزم المشروع الامريكي، كما وعدته ووعدك يوماً، وشعبك في فلسطين يصمد في وجه الحصار والعدوان كما صمدت، وشعبك في لبنان يقاوم وينتصر مدركاً ان المؤامرة لتمزيقه قد حاولت ان تستمد لها من عراق ما بعد الاحتلال مدداً ووقوداً..
في ذكرى استشهادك نقول لك، ان المشروع الطائفي والمذهبي في العراق الى اندحار بإذن الله، وان المشروع الفدرالي قد سقط بوعي العراقيين ووحدتهم وان العراق العربي المستقل الموحد المتحرر الديمقراطي عائد بأقوى مما كان بإذن الله.. وان الله على كل شيء قدير…

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى