المقالات

على هامش أعمال مؤتمر الحزب الحاكم في الصين – بقلم: علي بدوان

بدأت في العاصمة الصينية بكين، أعمال المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني ، في بلد بات فيه الحزب هناك، أكبر حزب شيوعي في العالم على الاطلاق من حيث عدد الأعضاء ومن حيث قيادته للدولة والمجتمع (كما يُعرّف نفسه) منذ انهيار منظومة حلف فرصوفيا عام 1990 حيث تلاشى الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان يضم في صفوفه نحو خمسة وعشرين مليوناً من الأعضاء، ومعهم عدد مضاعف من أعضاء الشبيبة (الكومسمول) ومن عموم المنظمات الشعبية الملحقة بالحزب.
المؤتمر بدأ أعماله في احتفال طغت عليه بشكل أو بأخر أنفاس وروائح التحولات الدولية الهائلة التي جرت وتجري في الخريطة السياسية الدولية، بما فيها خريطة الوجود الفكري لمنظومة الأحزاب والقوى السياسية التي تدين بالولاء للفكر الماركسي اللينيني، وقد اشتقت غالبية تلك الأحزاب رؤى جديدة لها علاقة بالعواصف الهائلة التي طرأت على مسار الأفكار والمنظومات لتخرج من قوالبها الجامدة التي وضعت نفسها فيها طوال عقود متتالية من الزمن.
مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني يَعقد أعماله هذه المرة والوضع الدولي، وعلى مستوياته المختلفة، يغلي ويمور بأزمات هائلة في أكثر من مكان، وتجاه أكثر من عنوان يثير اهتمام الصين انطلاقاً من وزنها ودورها الدولي بعد أن باتت منذ أكثر من عقدين من الزمن قوة مقررة في ميدان السياسات العالمية، خصوصاً في الميدان الجانب الاقتصادي.
ان الحديث الآن، والكتابة عن المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني لايتأتيا انطلاقاً من رؤية أيديولوجية بحتة ومحضة، بل من منطلق دراسة ظاهرة التَحوّل الجارية في الصين الشعبية منذ العام 1976، والتي بدأ معها الخفوت التدريجي لظاهرة التزمت الأيديولوجي التي رافقت قوى وأحزاب ومنظومات سياسية على امتداد المعمورة خلال العقود التي تلت انتهاء الحرب الكونية الثانية عام 1945 حيث سقطت نظريات وأفكار وأنهارت عصبيات (فاشية ونازية على سبيل المثال) وحل مكانها نظريات وأفكار أحادية الحامل والاتجاه، وصولاً لانهيار منظومة حلف وارسو، ومحاولة الولايات المتحدة من بعدها تشكيل القطب الابتلاعي الجديد في العالم تحت عنوان العولمة (لكنها العولمة الأحادية الوجهة).
اذاً، يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره هذا، وقد باتت القضايا الرئيسية الثلاث المطروحة على جدول أعماله تتمحور حول ملفات مترابطة، كان أولها الملف الاقتصادي وببعده ومنعكساته والذي يُمثل الهم الرئيسي. وكان ثانيها الملف السياسي ومستقبل علاقات الصين ودوها في الساحة الدولية. وكان ثالثها الملف المتعلق بالوضع الداخلي في الصين بما في ذلك وضع الحزب ودوره، ومكافحة غول الفساد، والسعي لتحقيق نقلة نوعية جديدة في سياسات الانفتاح على مستوييه الخارجي والداخلي.
ففي الجانب الاقتصادي، يمكن القول بأن الصين نجحت وبحدود جيدة في شق دروبها الصعبة في التحول والبناء الاقتصادي منذ اقرارا عملية الانفتاح التي قادها الزعيم الصيني الأسبق (دنغ سياو بينغ) الذي كان جزءاً من الحلقة القيادية الأساسية التي كانت تتحلق حول الثلاثي القيادي المؤسس لجمهوية الصين الشعبية (ماوتسي تونغ، شو ان لاي، ليو تشاو تشي)، حيث اختارت الصين الاصلاح والانفتاح المتدرج منذ العام 1976 على العكس من الاتحاد السوفياتي السابق الذي اختار (العلاج بالصدمات) أواخر عهد الرئيس ميخائيل غورباتشوف نهاية العام 1990، ما أدى الى الانهيار المنظومة بأكملها.
فالصين انتهجت طريق الاعتدال والتدرج في هذا الميدان، وركزت على تلبية احتياجات الشعب الصيني الأكثر الحاحاً وأعطت من البداية أولوية للاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية على السياسية وعلى دورها في الميدان السياسي الدولي، وبما يناسب الظروف الوطنية للصين، عبر الحفاظ على مايسميه فلاسفة ومنظري الدولة الصينية بـ «خصائص الاشتراكية الصينية»، ومواصلة التنمية بطريقة علمية وتشجيع الانسجام الاجتماعي وتحسين حياة الناس في بلد بات يضم بين ثناياه نحو ثلث سكان المعمورة.
المارد الصيني
فقد تبنت الصين سياسات أكثر مساواة وشعبية، حيث ألغت الضرائب الزراعية، وقدمت الدعم للرعاية الصحية، ووسعت شبكة التأمين الاجتماعي. وأضافت لها التعديلات التي أجريت على السياسات الاقتصادية منذ عام 2002 والتي تبنت نمط تنمية أكثر استدامة وصداقة للبيئة، وقد حزمة تحفيز قيمتها أربعة تريليونات يوان (640 مليار دولار) عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، وانتقلت ببراعة من الاعتماد على التصدير الى تنمية السوق المحلية على خلفية التراجع العالمي فى الطلب على السلع الصينية في عموم الأسواق العالمية خصوصاً منها الأسواق الأوروبية.
وعليه، عادت الصين الى دورها التاريخي العميق في قدمه، لتصبح من جديد الدولة صاحبة الاقتصاد الأكثر ديناميكية على مستوى العالم منذ بدأت عملية التحول الى اقتصاد السوق في عام 1979، ومنذ أن طرقت أبواب الابداع التكنولوجي والتنمية الاقتصادية فحققت دفعة كبرى في بناء صناعات متقدمة ومتطورة، حيث باتت تحتل المرتبة الأولى بين أكبر الدول المصدرة على مستوى العالم، والمرتبة الثانية بين الدول الأضخم اقتصاداً، فضلاً عن نجاحها في انتشال أكثر من (600) مليون شخص من براثن الفقر. فالصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، تحوز على احتياطي ضخم من النقد الأجنبي يقدر بـ (3,2) تريليون دولار، فيما يشير أخرون من رجال المال والأعمال بأن الأموال السائلة المتاحة لبكين سنويا تناهز مائة مليار دولار، وهو رقم ضخم جداً بكل المقاييس.
ان فورة الصين، وانطلاق المارد الصيني من قمقمه، اتخذت نهجاً عملياً مزدوج المسار، بدلاً من صيغة الخصخصة السريعة وتحرير التجارة. حيث عملت الحكومة على توفير الحماية الانتقالية للشركات في القطاعات ذات الأولوية. كما عملت على السماح بدخول الشركات الخاصة والاستثمار المباشر الأجنبي الى القطاعات الكثيفة العمالة، وبفضل هذا النهج حققت الصين نقلات نوعية وثورية في نهوضها وقيامها الجديد، وقد يصل متوسط نموها القومي خلال العقود الثلاثة المتتالية الى نحو (9,9%)، ونمو تجاري على المتوسط (16,3%).
ومع العام 2012، فان المؤشرات والمعطيات الرقمية المستقاة من مصادرها الموثوقة، تشير بأن مؤشرات النمو العام في الصين حافظت على وتيرتها خلال العام المنصرم 2011، وان اعترتها حالة من التذبذب بين الصعود والهبوط وفق قيم غير متسعة الفوارق. أما في الملف السياسي، فان بكين الى جانب تعاملها مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية تواجه مشاكل حقيقية على الجبهتين الجيوبوليتكية والاستراتيجية، في سعيها للمساهمة في ولادة عالم متعدد الأقطاب والمشاركة بشكل أكبر وأفعّل فى الساحة السياسية الدولية وادارة الأزمات العالمية.

صحيفة الوطن القطرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى