المقالات

الوسطيّة: فعلُ إرادة- بقلم: الرئيس نجيب ميقاتي

الوسطيّة: فعلُ إرادة – بقلم: الرئيس نجيب ميقاتي

“أن يستحيل على إنسان أن يرى الجبل من نافذته، فذلك لا يعني حتما أن الجبل غير موجود(…)”
حكمة مستوحاة من عالم النفس
بيار جانيه

يستسيغ بعض السياسيين والاكاديميين ان يصنفوا “الموقع الوسطي” كما لو انه انكفاء او هروب من الالتزام او مساومة، ان لم نقل تسوية. وذلك حتما تعميم خاطئ لانه خروج جوهري عن الموضوعية وتشويه للحقيقة.

فالوسطية، وليس “الكتلة الوسطية” في اللغة السياسية السائدة اليوم، هي في واجب وجودها كما في ابعادها المتوازنة فعل ارادة طوعية وليست مناورة لتجنب الاصطفاف او الانزلاق في موقع اللالون واللاقرار. انها عمليا وواقعيا نهج الغالبية التي تطلق عليها تسمية “الاكثرية الصامتة” لانها لا تتطرف ولا تدعو الى التطرف، ولا تميل الى الاصطفاف والغاء الرأي الآخر، ولا تقبل بأدبيات من يرفض ان يكون للآخر رأيه… انها اذن فاعلة ومتفاعلة وحية وهي ركيزة كل المجتمعات المتطورة والمسالمة بكل اطيافها، والداعية دوما الى احترام الاقتناعات والخيارات ومناقشتها بالحجج والمنطق والموضوعية.

واذا كنا نفهم ونتفهم مصدر التصنيف الخاطئ والشائع للوسطية الفاعلة وغير المنفعلة، فلأن البعض غالبا ما يقع ضحية التعميم والتسطيح، ويجنح غالبا الى الاستسهال حينا والى العدائية احيانا تجاه من لا يجاريه في مغالاته، وهذا ما يجعل الوسطية في موقع سياسي دقيق ومستهدف في آن.

واذا كان البعض الآخر يرى في الوسطية وسطا بين طرفين، الا اننا نرى ان الوسطية هي نهج تفكير وسلوك يقومان على اقتناع نهائي بخاصية لبنان ووحدته وتنوعه. وهذه الخاصية التي تشكل فرادة لبنانية متجذرة، لا يمكن ادراكها الا اذا نظرنا الى قضايا وطننا بعينين اثنتين لتكون الرؤية مكتملة وموحدة. ذلك ان النظر بعين واحدة يفقد الناظر صوابية الرؤية وشموليتها، ويكون حكمه تاليا ناقصا، وقد تتغلب العاطفة في مساره، ويتراجع تأثير العقل والمنطق مسافات.
ولا بد من الاقرار بأن الظروف التي يعيشها لبنان منذ سنوات طويلة تجعل مهمة الساعي الى رؤية متكاملة، مهمة صعبة وخيارا دقيقا من غير الجائز وصفهما بالمهادنة او تجنب المواجهة، لان الوسطية تصبح امام هذا الواقع، ابرة الميزان ومركز الثقل والتوازن التام المرادف للعدالة والاعتدال والموضوعية والواقعية.

لا يختلف اثنان على ان المناخ السياسي الراهن في لبنان اسير تطرفين مما جعل امكان التحاور معقدا ولاسيما انه ليس من المنطق ان تكون الحقيقة ملكا لطرف دون الآخر.
واذا ما نظرنا الى ما يجري في العالم نرى ان مجتمعاته المسالمة والديموقراطية عمادها الوسطية. فبين الرأسمالية العشوائية والشيوعية والتوتاليتارية تطور مفهوم الرأسمالية الاجتماعية (Capitalisme Social) القائم على مبدأ ضمان الحرية الاقتصادية المطلقة لأي فرد مع توفير المتطلبات الاساسية كالسكن والتعليم والاستشفاء لمن هم في حاجة اليها ويعجزون عن تأمينها.

كذلك فان بين التطرف الديني والالحاد هناك التدين، وهو الايمان المطلق بالله مع احترام خصوصيات الآخر في ممارسة دينه وقبولها.

وبين المعاداة للمحاور او التموضع فيها، هناك علاقة تفاعل مع الجميع من دون مساومة على المبادئ او مسايرة على حساب الثوابت التي تحفظ كيان الوطن وديمومته.

لقد اثبتت التجارب ان لبنان لا يقوم ولا ترتكز الديموقراطية فيه على ازدواجية حصرية لخيارين او نهجين لا ثالث لهما، لان الديموقراطية متعددة من دون حصر في اسسها الجوهرية، كما تهدف الى تكوين الرأي بالتراكم لا بالاصطفاف حصرا. فكما ان لا يمين ولا يسار يختصران الحقيقة او يملكانها، كذلك فان لا 8 آذار ولا 14 آذار يمكن ان يحتكرا وحدهما “الوطنية الصرفة”. وكما ان لا شريك وشريك آخر يختزلان بقية شركاء الوطن، فان القاعدة الوطنية الصلبة تقوم على ان الكل في الكل وفي تراكم الاجزاء: ذاك هو لبنان، وذاك هو منطق الفئة الاكبر والاقرب الى مبرر وجود لبنان. ذاك ما “علمني لبنان”.

وانطلاقا من هذه الحقائق الراسخة التي لا يمكن المكابرة في نكرانها وتجاهلها، فان الوسطية التي ننادي بها ليست حيادا، كما حاول البعض تحديدها، وهي قطعا ليست على مسافة واحدة بين الفساد والاصلاح، او بين العمالة والمقاومة، او بين الوصاية والسيادة، بل هي نهج التوازن في انتقاء الصواب من الخطأ، هي الوحدة بين الاجزاء ضمن الوطن الواحد والموحد.

وبالنسبة الينا، فان الوسطية هي خيار نضال نسعى من خلاله الى تحسين مجتمعنا والبيئة التي نعيش فيها، لاننا على يقين بأن الوسطية في ابعادها النبيلة والسامية راسخة في الاسلام كما في المسيحية، ومدونة في الكتب السموية ومجسدة في الانسانية التائقة الى تخطي ضعفها وصولا الى قوة العدالة والصواب. وعلى نقيض ما يظن: لا نريد للموقع الوسطي ان “يتشخصن” ولا ان “يستقيل”، بل هو مستقل فاعل، له عزمه وارادته، وهو كان قبل الاشخاص والتيارات والمصالح والمواقع وسيبقى من بعدهم. اما استقلاله، فهو ناجز بالارادة والاقتناع والايمان بضرورة السعي الدائم الى العمل لولادة الوطن المتجدد والمستمر على مدى الاجيال.

وفي يقيننا انه كلما قويت المغالاة واحتدم الاصطفاف، وهذا هو واقعنا اللبناني الراهن ويا للأسف، كلما بدت الحاجة حتمية الى النهج الوسطي الفاعل والمتفاعل والارادي المرتكز على الاعتدال وعلى الخيارات التي يجب ان تكون وليدة اقتناع.
ان الوسطية هي صوت “الاكثرية الصامتة” التي تخرج اليوم من صمتها لتعبر عن ذاتها فتجد في
“الوسطية” النهج الذي يجعل لصوتها صدى… فاعلا ومدويا.

بقلم الرئيس نجيب ميقاتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى