المقالات

نَسِيت أن تَرُدَ الطوابَع l المحامي عبدالله الحموي

“عَرجَت عليكَ في مَكتَبكِ دون أن اجدك. اردتُ أن اشكُركَ علي مَعروف تزويدي بالطوابِع خلال وقتٍ حَرج. وإعطاءَك طوابِع مماثِلَة” “

صدمَه الكلام. هو الذي فَرحَ بِخَبرَ قدومِها, ظاناَ أنها اشتاقت اليه. كم ازعَجَه في شَخصِها صراحَة مُنفِرَة. ليتها تَتَحلي بشيءٍ من الكَذِب يبثُ سروراً في نفَس المُخاطَب. لكن هيهات, فهذا السلوك حِكرٌ علي العُشاق. تبادِلُهُ هِي وِدُاً وإحتراماً دون إعجابٍ رَسمَت لَه الزمالَةُ خطاً . مُعجَبَةٌ هِي بِقصائِدِه وكلاهِما يعلَم أنها مُلهِمَة شِعرِهِ. هَو وَضعٌ يروق لها شرط أن يظَل ضِمن هذه الحدود.

كِيفَ السبيل للخروجِ مِن “سِجنٍ” قُضبانَهُ تَنَقُلُ حَسناء بين اقواس العدالَة حتي شَغلتها الأخيرَة عن أنوثَة صار هُوَ في حَجبِها أكبر المُتَضَرِرين؟ لا مفَر إذن مِن بعض المَكر. يا لَها مِن مَثَقَفَةٍ غَبِية. ينتَظِرُ مُجالَسَتِها بِفارغ الصَبر ليكون باعث زيارَتِها سَبَبٌ تافِه كهذا؟ أي طوابِعٌ تِلك التي ينثُرُها رَجل القانون ذات اليمين وذات الشمال دون إحصاء ودون أن يلقي لها بال؟ لا جَدوى مِن التعاطي معها بوضوح بعد ما بَدَر مِنها مِن كلام . يجب التعامُل معها كَطفلٍ لا تَنفعُ معهُ النَدِّية.
تمالكَ اعصابَهُ وأمسَك غضَبَه قبل إجابَتِه علي اتصالِها بنبرَة لؤم مصطَنَعة :” حَسناً فعلتِ إذ أتيت لِرَد الطوابِع. كنت اريد أن أتصل بِكِ لنفس السَبب. فكما تعلمين صارت الطوابع في أيامِنا عُملَةً نادِرَة . وفي مِهنَتِنا هِي هواءٌ عِندَ البَشر وماءٌ عند السَمَكَ. يا حبذا لو تمرين اليوم قبل الغَد لِرد الطوابع فأنا أحتاجُها بِشِدَة”.

صَدَمَتها نبرتُهُ والكلامُ. لم تعهَدُ فِيهِ لؤماً. كل ما فَعَلَهُ أنهُ أعارَها طوابِعاً قَليلَة التَداوُل لزوم تسديد رسوم دَعوَى وهو سلوك أكثر مِن عادي ضِمن ميدان الزمالة. فما باله يخاطِبُها بِتعالٍ وكأن لَهُ في ذِمَتِها دَين؟ ما بالُهُ ينَسي صداقَة جَمعَت بينهما عبر بوابة الزمالة؟ يا لِقِلَةِ ذَوقِه.سوف تَذهب اليه غداً لترمي الطوابِعَ في وَجهِه. لا بُدَّ أن يعتَذِر وإلا .. : “هذا فُراقٌ بيني وبينَه”.
اجابتهُ بنبرَةٍ غاضِبَة قبل أن تُقفِل الخط دون تَحية: ” غداً تكون طوابِعَكَ في حوذَتِك”.
نَجحًت الخُطَة.استَفَزَتها وقاحَتُه. ويظَلُ الإستفزاز في وَجهِ حواء سلاحٌ ناجِح. هُو سلاحٌ يقَربُ المسافات بل يجعلُ حواء تَهرَعُ اليك أو تَهرُبُ مِنك دون تفكير أو حسابٍ للعواقِب. كان لا بُد أن يقوم بما قام بِهِ. فقد طال شَوقُه اليها. هُو يحتاج الي رؤيتها وتجاذُب اطراف الحديث أقَلَهُ كي يبعِدِ عن نفسِهِ شَبَح الكآبَةِ والمَلل عَبر دَغدَغَةِ عواطِفها . عسي أن تَخلَعُ عن نَفسِها ثوبَ محاماةٍ مُستَعار لِينضَحَ بَدَنُها أنوثَةً أصيلة.

جاءت اليه يسبقُها غَضَبُها والطوابِع. دَخلت عاقِدَة العَزم علي تأنيبِه وإسماعِه كلاماً قاسياً. لكن استقبالَه لها بابتسامِةٍ هادئَة لَجَمَ لِسانِها. جَلسَت صامِتَةً فوقَع بَصرُها علي فنجان قهوَةِ إيطالي ينتَظِر شَفتَيها مَع قطعَة حلوى فرنسية . كان المكانُ عابِقاً برائَحِة بخور خالَطَت موسيقى شرقية لِتَبُثَ في النفس مشاعِر الارتياح. حتي إذا قَدَم لها زَهرَة “التوليب” انطفأ بُركان الغَضبِ لُتَحُل مَحلَه ابتسامَة رِضي. هنا حدثتها نفسها قائلة: ” لا داعي للتأتيب, قليل مِن العتاب يكفي. وإن كان هذا ليس وقتَهُ “.
سألتُه: ” ما كَتبتَ مِن جَديد”؟
قال: ” قَصيدة مِن وحي اللقاء؟ ما رأيكُ لو اتلوها عليك”؟
قال: ” لا مانِع , شَرطَ أن نَظَلَ أصدقاء.”
كَذب عليها فقال: ” ما تُريدُه الأميرةُ يكون”
عبارَةٌ وَقعت علي أسماعِها برداً وسلاماً . شَعرت حينها أنها ” شهرزاد” مع فارق أنها ليست صاحبة الكلام . بل يفعلها شاعر وزميل اعتاد مخاطَبَتِها بِوَصف كَم طالَبَتُه بالكَف عنهُ دون جدوى الى أن : غَلَب لُحَيح مُطيل ” . إذ حَلَّ الوَصف مَحل الإسم لِيثبِت مِن جَديد صِحة مَقولَة ” السكوت علامَة الرِضى”.

بدأ بِتلاوَة القصيدة مُتعَمِداً فى قِراءَتِهِ الإبطاء. يستَريح ثُمَ يعاوِدُ القراءة. فَطِنَت الى فِعلِتِهِ فتغاضَت. جلست تنصُت الى أدائِه بإمعان سَعياً لإكتشاف ذاتِها اكثر مِن خلالِ أبياتِهِ الشِعرية. فقصائدُه كانت لها المَعُ مرآة. وفي هذه الجلسة التي انتقى لأجلِها أدق التفاصيل, شعرت أنها انتقَلت الي عالم الخيال. لم يبقَ مِن المَشهَد إلا أن يطلب مراقَصتِها. لكنها تَعلَم يقينا أنها , إن وافَقت, فَهو لن يفعل. لأنَّه إنسان ملتزم دينيا . صفة أزعَجَتها مِراراً لكنها ظَلت في الوقتِ عِينِه, مَبعَثَ اطمئنان. تعترفُ ضِمناً أنه يتقن رسم الكلمات والألوان. وتَتساءَل إن كان مبعثُ الأمر صِدقُ مشاعِر أم قريحَةَ شاعِر وأنامِل رسام؟؟

مِن جانِبِه استَمِع الى ملاحظاتِها فقط ليسمَع صوتُها والكلام . أما مضمون الكلام, فلا يرى فيه شيئاً مُهم . حسبُهُ أن يري تَقلُبَ شفتيها ويغوص في بَحر عينين ينبضان مشاعِراً تَرفُدُ بحور الشِعر. لا بُد للزَمَنِ أن يتَوَقَف عن الدوران. فَجلسَة كهذه, مهما طالت وتَكرَرت, يبقى زمنُها قصير وقصير. لذا, كُلما هَمَت بالانصراف قال لها: ” علام العَجلَة, ولا جلسات في الغد. أنسِيتِ بأن القٌضاةَ ما زالوا مُضربين”؟

وكما لِكلِ شيء نِهاية , آن أوان الإنصراف. مجالَسَةٌ تُشعِرُ بالراحة دون أن تشفي غليلَ عاشِقٍ يطمَع بالمزيد. لكن مُناهُ يحتاجُ صبراً عسى أن ينيلَهُ الصَبر المُراد. لَم يوَدِعُها عند المِصعَد بل أصر أن يرافِقَها الى بابِ السيارَة وكأنه ينتَزُعُ مِنها زوادَة تعينُه على صَبرِ الفُراق الى حين.

في طَريقِ عَودَتِها, عَلَقَت في زحمة السير كالمُعتاد. وخلال الانتظار صارت تستعيد تفاصيل اللقاء. اكتَشَفت أن جلستِها مَعه أخذت من الوَقت ” اكثر مما كانت تُريد” فساءَلَت نفسُها أن مَتى يكُف عن تَوَدَداتِهِ الصبيانِية ويتعامَل معها كَزميلَة أو حتى مجرد صديقة, مَع أنه لا يؤمِن بصداقَة الرجل والمرأة ؟ولماذا كَلما ارادت أن تَلجم اهتمامَه ينجَحُ باستدراجِها الى ملعَبِه : ميدان الغزل؟؟ ولماذا كلما قَررَت أن ترسُم لَهُ حدوداً تَذهَب خُطَطَها أدراج الرياح. أهو الحب؟ لا, هُوَ أمرٌ لن يكون : ” أنا لست امرأة ضعيفة”. “

يا لِزيارَة كانت كأنها لَم تَكن. ومع هذا, فهي لم تَذهَب سُدى. ارادت أن تؤَنِبُه وتسمَع مِنه اعتذاراً. لكن لا بأس, فقد اعتذر دون أن يتَفَوَه بكلمة اعتذار. بل اغنى استقباله وحفاوته عن كل اعتذار. كَما أن شِعرَهُ يتَحَسَن قصيدَةً تِلوَ الأخرى. أرادت أن تعيد لَه طوابِعَهُ لكن .. : ” … يا له مِن شَخصٍ ماكِر. لقد اسكرني كلامُهُ حتى نسيتُ سَبَبَ الزِيارَة. نسِيتُ أن أرُدَ لَه الطوابِع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى