المقالات

رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دو فيلبان والتغريد خارج السرب \ أ. د. محمد أمين الميداني*

نشرت صحيفة اللوموند الفرنسية، وبتاريخ 25/2/2024، مقالا لأثنين من محرريها تناول بالتحليل المواقف والتصريحات الأخيرة للسياسي الفرنسي دومنيك دو فيلبان، والذي سبق له أن شغل عدة مناصب سياسية وحكومية في عهد الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، حيث كان الأمين العام للرئاسة الفرنسية ما بين أعوام 1995-2002، ثم وزيرا للخارجية ما بين أعوام 2002-2004، ثم وزيرا للداخلية والأمن الداخلي والحريات المحلية عامي 2004-2005، وأخيرا رئيسا للوزراء عامي 2005-2007.

ولكن قبل الحديث عن مواقف دوفيلبان وتصريحاته الأخيرة بخصوص ما يحدث في قطاع غزة، نذكّر القارئ الكريم بالخطاب الشهير الذي ألقاه في مجلس الأمن بتاريخ 14/2/2002، والذي وصفه عدد من المراقبين بأن له نكهة ديغولية، وكان أن صفق له من كان حاضرا وقتها في مجلس الأمن، وهو نادرا ما يحدث في هذه الهيئة السياسية الدولية. لقد تحدى دو فيلبان الرغبة الأمريكية بالتدخل في العراق، وأكد على معارضة فرنسا للقبول بالحرب ضد العراق والتي كان يتم الإعداد لها، واعتبر دوفيلبان حينها بأن الحرب على الإرهاب التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق بوش الأبن، غير مفيدة وسـتؤدي إلى نتائج عكسية. ونعرف جميعا بأن مجلس الأمن لم يتخذ قرارا بالحرب على العراق، وأن الولايات المتحدة بالتعاون مع المملكة المتحدة شنت، وبالتعاون مع منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، حربا مدمرة على هذا البلد العربي، وقد اعتبر لاحقا الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة كوفي عنان هذه الحرب عملا مخالفا للقواعد القانون الدولي.

لم تكن الحياة السياسية لدوفيلبان، وحسب المقال المنشور في اللوموند، سهلة أو سلسة، بل واجهته عدة تحديات وصعوبات، وبخاصة منذ أن غادر منصبه كرئيس للوزراء في بداية سنوات العقد الثاني من هذا القرن. وكانت أولى الصدمات عدم حصوله بداية عام 2012 على خمسمائة توقيع من قبل أعضاء منتخبين في مختلف المجالس المحلية والإقليمية والوطنية الفرنسية. ويُعّد الحصول على هذا العدد شرطا لقبول ترشيح أي مواطن فرنسي وإدراج أسمه على لائحة المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية التي تجري كل خمس سنوات، ولا يعاد انتخاب الرئيس إلا لمرة واحدة فقط. لم يحصل دوفيلبان على أصوات كافية ليدخل في تنافس مع الرئيس نيكولا ساركوزي الذي ترشح لولاية ثانية، وكان أن خسر هذا الأخير المعركة الانتخابية ليفوز حينها فرانسوا هولاند بمنصب رئيس الجمهورية عام 2012.

ما لفت النظر مجددا إلى دوفيلبان بعد سنوات من اختفائه على المسرح السياسي الفرنسي، ولو أنه لم ينقطع عن نشر عدد من الكتب، وهو ما سنتطرق إليه لاحقا، ما لفت إليه الأنظار هو تصريحاته بعد العملية التي قامت بها (حماس)، في قطاع غزة بتاريخ 7/10/2023. وجاءت تصريحاته ومداخلاته من خلال البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي دعي إليها لإعطاء رأيه حول ما يحدث في غزة، ولعل أهم هذه التصريحات والمداخلات قد جاءت في تواريخ متقاربة: 27/10، و7/11، و14/11. ومما قاله في هذه التصريحات: بأنه تفاجئ بحجم الهجوم الذي قامت به حماس وما تم ارتكابه، ولكنه تفاجئ أيضا بالكراهية التي تشعر بها حماس - ونضيف أيضا ما يشعر به الشعب الفلسطيني وشعوب العالم العربي والعديد من شعوب دول العالم - نتيجة وجود سكان قطاع غزة في سجن سماؤه مفتوحة. كما أنه نبه الحكومة الإسرائيلية بأن حق الدفاع عن النفس لا يعني الحق في الانتقام العشوائي الذي يمكن أن ينتج عنه حماما من الدم. وكانت تطلق في المقابل تصريحات من قبل قادة اليمين الفرنسي - ولا نقصد هنا اليمين الفرنسي المتطرف - ينكر أن ما يحدث في قطاع غزة هو "خلاف على الحدود" ولكن يتم وصفه أيضا بأنه "حرب حضارات" في الوقت الذي يظهر فيه دوفيلبان وفيا للإرث الديغولي المتعلق بالسياسة الفرنسية التي رسمها الجنرال ديغول - وحاول أن يتبعها بعده الرئيس جاك شيراك - والمتعلقة بالسياسية "العربية الفرنسية"، حسب ما جاء في المقال. وهذا ما دفعنا لأن نكتب أن دوفيلبان يغرد خارج سرب تصريحات غالبية الساسة الفرنسيين فيما يتعلق بأحداث غزة، وما توضحه هذه التصريحات من قلة التعاطف والدعم للشعب الفلسطيني مقابل الدعم غير المشروط للاحتلال الإسرائيلي. ودفعت تصريحات دوفيلبان بعض الدبلوماسيين الفرنسيين لإبداء الرضى على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن من دون التصريح بهويتهم، وكما جاء في المقال، عن هذه التصريحات ورأت بأنه مع السلام ولكن من دون أن ترى فيه مناصرا للفلسطينيين بشكل خاص. يضاف إلى ذلك، أن الساحة الدبلوماسية الفرنسية تكاد تكون مقفرة حاليا بكبار الدبلوماسيين السياسيين، وهو ما يعزز مكانة دوفيلبان كما يفهم ذلك من تصريحات بعض السياسيين الفرنسيين، وذهب الأمر ببعض المحللين العرب للقول بأن مواقف دوفيلبان تنقذ شرف النخبة السياسية الفرنسية، كما صرحت الكاتبة والروائية اللبنانية دومنيك إده حسب ما جاء في مقال اللوموند، وأضافت بأن دوفيلبان فهم بأن حرب إسرائيل في غزة هي حرب انتقام ستنتهي بمذبحة. ولكن لا يجب أن تشكك هذه التصريحات والمواقف بطبيعة دوفيلبان فهو، وكما صرح وزير الاقتصاد الفرنسي الحالي برونو لوميير، والذي تعاون معه وكان مستشارة ورئيس مكتبة أعوام 2005-2007، ليس صوتا من الجنوب، ولكن صوتا غربيا لا يزال يتحدث مع الجنوب. ولعل ما قاله رئيس وزراء سابق في عهد شيراك، يصف بدقة شخصية دوفيلبان، حيث وصفه بأنه فنان الحياة السياسية، وأنه ليس رجل سياسي تقليدي.

ألتفتت الأنظار مجددا حول دوفيلبان بعد تصريحاته الجريئة والمتميزة عن الأوضاع في غزة منذ الحرب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي عليها، بل تعالت بعض الأصوات طالبة منه أن يترشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة عام 2027 في الوقت الذي يقول فيه بأنه لا يفكر بها، ولكن من يدري؟

ولعلنا سنختم بالتذكير بأنه دومنيك دوفيلبان من مواليد العاصمة المغربية الرباط عام 1953، والجدير بالذكر أيضا بأنه يُعّد من الكّتاب المعروفين في الأواسط الثقافية الفرنسية، حيث نشر قرابة 19 كتابا في مواضيع متنوعة: تاريخية، وسياسية، وثقافية، وفكرية.
  • أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى