كي لا ننسى

الطريق إلى عتليت مذابح الأسرى العرب في حربي 56 و 67 – الحلقة 24

كاديما” يا مصري

“كل ما في أرض مصر وسمائها جريح: البيت، الحقل، المصنع، أوراق الشجر، نسمات الهواء، والكلمة واللحن”..
هكذا يقدم الإذاعي الكبير المقرب من دوائر النفوذ في الستينات، جلال معوض، المرثية التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي وغناها عبد الحليم حافظ غداة ما عرفنا بعد ذلك من محمد حسنين هيكل أنه “نكسة” الخامس من يونيو/حزيران عام 1967:
“عدى النهار، والمغربية جيه تتخفىى ورا ضهر الشجر،
وعشان نتوه فـ السكة شالت من ليالينا القمر،
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار ما قدرش يدفع مهرها
يا هل ترى الليل الحزين
أبو النجوم الدبلانين، أبو الغناوي المجروحين
يقدر ينسيها الصدى، أبو شمس بترش الحنين؟”
شل طيران مصر في غضون ساعات قليلة وهو على بطنه ولم تعرف مصر. لأيام ظلت الرسالة الإعلامية من صاحب “صوت العرب”، أحمد سعيد، ومن غيره، خداعًا في خداع. خدعوا الشعب المصري وخدعوا الشعب العربي كله وهم يعلمون. وفي سياق ذلك لم يكونوا يعلمون أنهم هم بأيديهم الذين ألقوا بجانب من جنود مصر إلى التهلكة. إحساس بالاشمئزاز يتملكني وأنا أستطيع إلى أحد ضباط مصر المكسورين وهو يقص لي كيف أنه، وقد انقطع الاتصال بين وحدته في شرقي سيناء وقيادته في غربيها، اعتمد ومجموعته على “صوت العرب”. في ثاني أيام الهزيمة كان العطش قد بلغ بهم مبلغه وهم يهيمون على وجوههم في الصحراء عندما أعلنت الإذاعة ذائعة الصيت أن فيالق مصر حاصرت الإسرائيليين في القطاع الأوسط من سيناء. تهلل الجنود فرحًا وعدلوا عن خطة الهرب عن طريق القطاع الجنوبي واتجهوا بدلاً من ذلك نحو القطاع الأوسط. حين بدأت ملامح المكان تختلط بسراب الصحراء الممتدة أمام عيونهم لم تكن هناك رائحة للفيالق المصرية. فجأة وجدوا الإسرائيليين فوق رؤوسهم من كل اتجاه. ثأر شخصي يجمع هذا الضابط المصري بعلم الإعلام المصري، أحمد سعيد، الذي كان السبب المباشر في وقوعه مع جنوده في أيدي اليهود.
هذه قصة وقوع جنود مصر كالذباب بعد رشة واحدة في الأسر، يحكيها أربعة من جنود مصر يمثلون الهرم التنظيمي للجيش المصري آنذاك، علمًا بأن أحدًا من هؤلاء الأربعة لم يلتق بأي من الثلاثة الآخرين ولا يعلم عنهم شيئًا:
الفريق سعد الدين الشاذلي (س.ش): كان وقتها برتبة لواء وكان مسؤولاً عن “المجموعة الخفيفة رقم 1 أو ما عرف بـ “مجموعة الشاذلي” المكونة من قطاعات مختلفة من الجيش المصري وعدد أفرادها حوالي 1500 جندي وضابط، وكانت تتمركز حينها في جنوب شرقي سيناء. كانت مهمة الشاذلي حراسة المنطقة الواقعة بين المحورين الأوسط والجنوبي الفلسطينية. استدعي إلى هذه المهمة قبل أسبوعين فقط من بداية الهجوم الإسرائيلي، وفي أثناء هذين الأسبوعين تغيرت المهمة الموكلة إليه ثلاث مرات.
النقيب محمد حسين يونس (ح.ي): تخرج من كلية الهندسية جامعة عين شمس والتحق بالخدمة العسكرية ضابطًا ضمن سلاح المهندسين. كان وقتها من ناحية التدرج القيادي في الصف الثاني بعد قائد وحدته المتمركزة في منطقة الحسنة الواقعة إلى الجنوب من العريش شرقي سيناء. كان ضمن مجموعة الضباط الذين اجتمع بهم قائد الجيش المصري، المشير عبد الحكيم عامر، يوم 16 مايو/أيار 1967، أي قبل الهجوم الإسرائيلي بتسعة عشر يومًا. في ذلك الاجتماع أعلن عامر أن لدينا “أقوى سلاح طيران في الشرق الأوسط” وقال قائد السلاح، صدقي سليمان: “آمين”.
صف الضابط أمين عبد الرحمن (أ.ع): جيء به من اليمن مع مجموعة الضباط والجنود الذين تم سحبهم من هناك في أعقاب التصعيد السياسي والإعلامي بين مصر وإسرائيل تحسبًا من نشوب معركة. كان ضمن وحدات خاصة من سلاح المشاة الذين وصلوا إلى السويس ومن ثم إلى شرقي سيناء قبيل بدء الهجوم الإسرائيلي.
في اليوم السابق، الرابع من يونيو/ حزيران، فوجئ الشاذلي بزيارة قام بها إليه ضابط اتصال من قيادة سيناء. كان الرسالة أن طائرة هليكوبتر ستهبط الساعة السادسة من صباح اليوم التالي، الخامس من يونيو/حزيران، كي تقله إلى مؤتمر عسكري عاجل مع المشير عبد الحكيم عامر في مدينة فايد بالقرب من الإسماعيلية. وصلته أنباء الهجوم الإسرائيلي وهو هناك فكيف يعود وقد أصبحت سماء سيناء كلها إسرائيلية؟ رغم ذلك صمم على العودة بسيارة “جيب” خفيفة من أقصى الغرب إلى وحدته في أقصى الشرق فوصل إليها قبل المغرب بحوالي ساعتين.
س.ش: قمت على الفور بتنظيم صفوف المجموعة وتقدمت بهم عشرين كيلومترًا نحو الشرق واخترقت الحدود الفلسطينية لمسافة خمسمة كليومترات أخرى حيث كنت أعلم أن هناك بئرًا يمكن أن نشرب منها تقع بين جبلين يمكن أن نحتمي بينهما. اطمأن مقام المجموعة في هذه المنطقة قبيل حلول الظلام، ورغم أن الطائرات الإسرائيلية اكتشفت وجودنا فإنها لم تستطع أن توجه ضرباتها إلينا؛ وذلك لأن الطيار يحتاج إلى أن يكون الهدف واضحًا أمامه على بعد عشرة كيلومترات قبل أن يوجه ضربته إليه، وهو ما لم يتمكن الإسرائيليون منه بسبب تمركزنا بين الجبلين.
ر.ع: ليلة المعركة، 4 يونيو، طلعت مع ضابط استطلاع إلى منطقة بني سلامة على الحدود الفلسطينية فتأكدنا من أن الإسرائيليين سيهجمون علينا صباح الغد. اتصل الضابط بالقيادة العامة وأبلغهم بالأمر. نمنا مطمئنين وأفقنا على الهجوم الإسرائيلي. في خلال لحظات انتهى الموقت بالنسبة لنا. أخذ الجنود والضباط يفرون في كل اتجاه بينما كانت الدبابات الإسرائيلية تغلق المجال أمامنا. لم تكن هناك حماية، لا جوية ولا أرضية. أصبحنا كأننا وقعنا في مصيدة فئران. انسحبت مع أحد زملائي عن طريق الجبل الموازي لطريق رفح/ العريش، وبالقرب من العريش رأينا دبابة كنا نحسبها مصرية. تقدم زميلي نحوها فأطلقوا عليه النار فخلعوا إحدى رجليه، “كاديما يا مصري”، هكذا صاحوا بي، فهمت بعد ذلك أنها تعني “تعال يا مصري”. أخذوني وتركوا زميلي يلفظ أنفاسه الأخيرة في الصحراء.
أ.ع: أول شيء فعلوا بنا أنهم أجبرونا على خلع ستراتنا والوقوف تحت نار الشمس. وبعد حوالي ثلاث ساعات بدأ بعضنا يتأوه من العطش. جاءوا بشاحنة مياه وقفت أمامنا ثم تقدم جندي إسرائيلي وفتح صنبورها أمام أنوفنا. لم نكد نهرول نحولها حتى أشهروا أسلحتهم في وجوهنا كي نتراجع. بعد قليل جاء ضابط إسرائيلي وصرخ فينا باللغة العربية: “أليس لديكم احترام للتقاليد العسكرية؟ الضباط أولاً”. نظر بعضنا إلى البعض الآخر قليلاً وسرعان ما تقدم الضباط لإرواء عطشهم، وما كادوا يفعلوان حتى أطلق الإسرائيليون نيران مدافعهم الثنائية والرباعية (ذ.ح) عليهم وهم يرشفون آخر قطرة ماء في حياتهم. التهبت حماستنا فنسينا العطش وقفز بعضنا، مكتوفي الأيدي، فوق الإسرائيليين، فأمسك هؤلاء بهم وأجبروهم على خلع ألبستهم كلها وربطوا كلاً منهم بسلك من رقبته وثبتوهم في جذوع الأشجار قبل أن يحملوا من تبقى منا في شاحناتهم.
ح.ي: يوم 6 يونيو/ حزيران عرفت من قيادة الجيش أن العريش وقعت وأبو عجيلة وقعت وأنهم في طريقهم إلى الكيلو 161. عندما استيقظنا بحثنا عن رئيس العمليات وقائد الكتيبة فلم نعثر لأي منهما على أثر. هربوا، “طفشوا”، هكذا دون حتى أن ينصحونا بالهرب على مسؤوليتنا الشخصية.
س.ش: هذا الكلام في غاية الخطورة، وإذا كان هذا الضابط قد صرح به فينبغي على وزارة الدفاع أن تحقق في شأنه وأن تعرف من كان قائد الوحدة ومن كان رئيس العمليات ولماذا اختفيا هكذا فجأة.
ح.ي: قائد الوحدة اسمه الرائد رفعت حنور، ورئيس العمليات اسمه الرائد خلف الله إمام خلف، وعندي مزيد من المعلومات إذا أردت.
ر.ع: ربطوا ذراعي خلف ظهري ودفعوني بأقدامهم كي أمشي وحدي لمسافة كيلومتر واحد من العريش حيث نقطة تجميع الأسرى. هناك وجدت الأسرى المصريين منبطحين على وجوههم، وفي تلك اللحظة تذكرت كلمة قالها لي يومًا ما ابن عمتي الذي كان شارك في رد العدوان الثلاثي سنة 56. قال لي وقتها إنهم كانوا يطرحون الأسرى المصريين على وجوههم ثم يدوسون عليهم بالدبابات.
أ.ع: والدبابة تدوس على سطر. تدوس على بشر وتكشر عظامهم وهم أحياء ينظرون.
رأيت ذلك بعيني في منطقة الحسنة. كانوا يطرحون الأسرى على بطونهم في كل صف 15 بني آدم والدبابة تمشي على ظهورهم. وإذا تحرك أحدهم كي يتجنب جنازير الدبابة يأتون به ويضعونه على صدره ثم تأتي دبابة أخرى تضربة وهو في هذا الوضع. دبابة تدخل في دبابة كي “تفرقع” بين آدم.
ر.ع: رأيت هذا المنظر فأدركت مصيري. دفعني أحدهم نحو الأرض صارخًا: “نم هنا بجوار أصحابك”. كان هناك حوالي أربعة أو خمسة صفوف من الأسرى المنبطحين على بطونهم وفي كل صف حوالي خمسين، وكثير منهم كان غارقًا في دمائه. وتلتف حول الصفوف أربع دبابات، واحدة من كل اتجاه. إعدام إعدام. قرأت الفاتحة على روحي وشهدت أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ح.ي: خرجنا من الحسنة على طريق القسيمة. طلعنا فوق جبل. الشمس حامية في عز الصيف ولم يعد معنا ماء. استوقنا الأعراب وأعطونا ماء وأكلاً وقالوا لنا: “لماذا تخافون؟ كونوا رجالاً وابقوا في طريق الجبل. لن يستطيع اليهود أن يمسكوا بكم هنا، وستجدون ماعزًا في طريقكم، كلما جعتم أو عطشتم اذبحوا وكلوا واشربوا. وفعلاً، بعد قليل وجدنا قطيعًا من الماعز هرولنا وراءه في منظر مضحك حتى أمسكنا ببعضه. لا أستطيع أن أنسى هذا المنظر: منظر عين المعزاة وهي تنظر إليك، في البداية تقاومك ثم حين تضع ضرعها بين شفتيك تمتلئ نظرتها حنانًا كأنها تعتبرك ابنها.
س.ش: أقول الحمد لله الذي لم يكتب لأي من جنودي أن يقع في الأسر. لقد نشرت ابنة موشي ديان بعد ذلك كتابًا قالت فيه إن أباها، الذي كان وقتها وزيرًا للدفاع، كان يصرخ في جنرالاته: “خلوا بالكم من مجموعة الشاذلي فقد تظهر أمامكم في أي لحظة”. وذلك لأنهم فجأة لم يعثروا لي على أثر، ثم فجأة وجدوني عند بطن جبل فلم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا فاكتفوا بـ “زيارتي” بطلعات جوية يوم 6 ويوم 7، ثم فجأة لم يعثروا لي على أثر بعد ذلك.
أ.ع: وحدتنا سلمت لأنها لم تكن تملك إمكانت المقاومة. وبمجرد استسلامنا قتلوا قائد الكتيبة ثروت عازر خيل، ثم قتلوا قائد سريتي، محمد ممدوح عبد الحميد، وقائد سرية المدفعية، محمد أحمد البطة، ورقيب أول السرية عبد اللطيف أحمد العايدي، صديقي من المنوفية الذي رفض أن يخضع لأوامرهم. كانت الشرائط على الأكتاف تبين الرتبة. وكان بعضنا يخلع هذه الشرائط لكن الإسرائيليين كانوا يعرفون رتب الجنود والضباط من الأثر الذي تتركه الشرائط المخلوعة على الأكتاف وكذلك من ملابسنا الداخلية. قالوا سنأتي لكم بدفتر وقلم كي يكتب كل منكم اسمه قبل أن نسلمكم للصليب الأحمر. ومن هنا فرقوا بين المتعلم والأمي وتأكدوا من الرتب. كل من قام لتسجيل اسمه ضربوه بالنار على الفور حتى أنه لم يبق سوى مجموعة من الجنود العاديين منكسرين “حالهم يصعب على الكافر”.
ح.ي: الراديو بيقول: “خلاص حاصرناهم في الطريق الأوسط”. كلام أحمد سعيد في “صوت العرب”، أشياء غريبة كان يقولها. وبالطبع هذا ضللنا؛ لأننا كنا على الطريق الجنوبي واتجهنا بناءً على ذلك إلى الطريق الأوسط. قبيل المغرب وجدنا سيارة مدرعة مصرية مهجورة ركبناها، وما أن بدأنا نسير بها حتى وجدنا طائرة تحوم فوقنا على ارتفاع منخفض جاء على أثرها طابوران من الدبابات والمدرعات التفت حولنا: “سلم يا مصري، سلم يا مصري”.
س.ش: يوم 7 حصل اتصال مع القيادة العامة، ليس مع قيادة سيناء التي انقطع اتصالنا بها تمامًا. قالوا لي: “لماذا تقبع حتى الآن بين هذين الجبلين؟ انسحب فورًا فقد انسحب الجيش كله”. كانت هذه أول مرة أعرف فيها مستوى الهزيمة. تملكني القلق على سلامة 1500 روح في ذمتي. كيف أنسحب من داخل الحدود الفلسطينية وأعبر بهم سيناء كلها ثم أعبر بهم قناة السويس إلى الشاطئ الغربي دون غطاء جوي ولا حماية أرضية ولا حتى مؤونة من الطعام والشراب تكفيهم جميعًا؟ استخرت الله حتى اتخذت قرار الانسحاب بعد غروب شمس يوم 7. قطعنا مسافة تزيد على مئة كيلومترات طوال الليل، لكن الطائرات الإسرائيلية لحقت بنا مع بزوغ شمس يوم 8.
ح.ي: قام أقدم ضابط بيننا، كان مثلي برتبة نقيب، ورفع منديلاً أبيض. لمونا تحت أسلحتهم وسألونا: “أين الضباط وأين الجنود؟” اختبأ بعض الضباط بين الجنود وانتحيبت أنا مع البعض الآخر وأعلنا عن أنفسنا. تقدم الإسرائيليون نحو الجنود وبدأوا يجهزون رشاشاتهم لقتلهم، وهنا نهض الضباط المختبئون بينهم وقالوا: “نحن ضباط”. أتوا بهم إلي فقلت: “نعم، هذا ضابط، وهذا ضابط”. اتجه الإسرائيليون مرة أخرى نحو الجنود ووجهوا رشاشاتهم، فصرخت بهم: “ماذا ستفعلوا؟ أرجوكم لا تقتلوهم”. وبينما كنت أتوسل إليهم وصلت سيارة “جيب” خفيفة نزل منها ضابط إسرائيلي تحدث إلى جنوده بالعبرية. بعدها أمرونا بالنهوض والتوجه نحو شاحنات النقل. ونحن في الطريق اقترت مني جندي إسرائيلي وحملق في وجهي وسألني باللهجة المصرية: “هل أنت من منطقة الضاهر؟”. صعقني السؤال فنظرت إليه وأجبت: “نعم” وأنا ما زلت مندهشًا. أدرك هو دهشتي فقال: “أنا كنت زميلك في المدرسة”. سألته: “ماذا ستفعلون بنا؟” قال وهو يطمئنني: “أنتم محظوظون؛ فقبل حضور هذا الضابط كانت الأوامر أن نقتل الأسرى ولا نأخذ إلا عددًا قليلاً جدًا. الأوامر الجديدة هي أن نأسر كل من يقع في أيدينا”.
ر.ع: اقتادوني بعد ذلك مع حوالي 300 أسير إلى مطار العريش. وضعنا في دار تيبت فيها الطائرات مساحتها حوالي 30 مترًا في 30 مترًا. عندما دخلنا وجدنا مدنيين من كافة الطوائف العمرية وأيضًا من النساء. ولكنهم قبل أن يسمحوا لنا بالجلوس أتوا بأجولة مليئة بالأسمنت. أمرونا بفتحها في جميع الأرجاء حتى امتلأت الدار عن آخرها بهذا الأسمنت، ثم قالوا لنا: “اجلسوا داخل الأسمنت”.
س.ش: ارجع إلى التوارة. تقول لهم التوراة في الإصحاح رقم 20 من سفر التثنية ما يلي: إذا تقدمتم لتحاربوا مدينة فاعرض عليها الصلح، فإن قبلت فلك أن تعتبر كل سكانها عبيدًا لك. أما إذا رفضت فحاصرها، فإن استسلمت وكانت من المدن القريبة (وحددها في ست مدن تمثل الآن منطقة الشرق الأوسط) فاقتل سكانها جميعًا ولا تبق على وجه الأرض نسمة منهم، وإن كانت من المدن البعيدة فاقتل الرجال واغتنم نساءهم وأطفالهم. هذه طبيعتهم وهذا هو دستورهم الذي يحدد لهم علاقتهم بالأسير الذي استسلم ولا حول له ولا قوة. عليك إذًا أن تتوقع من إسرائيل كل شيء سيئ، كل شيء سيئ.
أ.ع: أهناك أكثر من أنه كان يأمرني بخلع ملابسي كلها والانبطاح أمام دبابة عاريًا إلا أحيانًا من “الشورت”؟ كيف أقاوم وأنا هكذا والدبابة أمامي وهو فوق رأسي بالرشاش والعربات المجنزرة حولنا من كل اتجاه؟ أنطح الدبابة؟! بالطبع كان واضحًا لهم من البداية أننا استسلمنا على أن أن يعاملونا باحترام الآسر للمأسور، لكنهم كانوا يتلذذون بتعذيب الأسرى، كانوا يتلذذون.
ح.ي: نعم لقد عاملوا الجنود وصف الضباط معاملة في منتهى السوء. عاملوهم معاملة الماشية، وعندما كانوا يقتلونهم قتلوهم كما تقتل الكلاب. أما الضباط فقد صنفوهم إلى فئات مختلفة كما بان لي فيما بعد.
ر.ع: “بدك ميه؟” إذا رد الأسير: “نعم” يقولون له: “تعال”. يأخذونه ويفرغون في رأسه ثلاث طلقات. يموت في الحال، مع السلامة.
ح.ي: نحن كنا 100 جندي وضابط لم ينهض منا سوى حوالي 50. الباقون تركوهم هكذا بين قتيل وجريح. القتلى لم يدفنوهم، والجرحى تركوهم ينزفون تحت لهيب الشمس في الصحراء.
ر.ع: أنا رأيت بعيني حوالي ستة أو سبعة كادوا أن يموتوا من العطش، وحين تجرأوا على طلب “شربة” ماء قتلوهم بالطريقة نفسها أمام أعيننا وأمام أعين المدنيين الذين كانوا يبكون من الحسرة وقلة الحيلة.
س.ش: لم أفكر إطلاقًا في الاستسلام. كان كل همي أن أتعامل أثناء انسحابي مع الطيران الإسرائيلي بحكمة في حدود ما كان متاحًا لي من إمكانات، وقد كانت هذه بالغة التواضع في ظل ظروف بالغة القسوة. مع بزوغ شمس يوم 8 يونيو/حزيران كان الله قد وفقنا في قطع الجانب الأكبر من المسافة ولم يتبق على الإسماعيلية سوى حوالي 90 كيلومترًا. ولكن الطائرات الإسرائيلية أدركتنا وبدأت توجه ضرباتهم إلينا. كنت أتوقع ذلك، فقمت بتنظيم قواتي بصورة لا تتيح لهم إيقاع خسائر كبيرة بنا في الطلعة الواحدة بالإضافة إلى احتفاظنا بذخيرة مضادة للطائرات مكنتنا من الوصول بإذن الله إلى بر الأمان ولم تتعد خسائرنا في النهاية أكثر من عشرة بالمئة من الشهداء والمعدات، ولا أسير.
أ.ع: في أثناء نقلنا من الحسنة استطعت الفرار من الأسر واختبأت بين الجبال في طريق العودة غربًا. ولكنني لم أكد أن أصل إلى خط القناة حتى اكتشفتني مدرعة إسرائيلية يوم 15 يونيو/حزيران. عندها تبخر أملي تمامًا في العودة. حمل جندي يهودي بندقيته وسددها نحوي، لكن الله كتب لي عمرًا جديدًا حين أتى من خلفه ضابط أشقر السحنة أنقذ حياتي. شحنوني مع بقية الأسرى إلى مكان خارج سيناء عرفت فيما بعد أنه “بئر سبع”.
ح.ي: سلمت ما كان معي من نقود إلى الضابط الإسرائيلي المسؤول، فبدأ يتحدث معي.
سألني أولاً: “ما رأيك في ما حدث؟” فلم أرد. سألني ثانيًا في تهكم: “أما زلت تحب عبد الناصر؟” وهنا لم أستطع السكوت رغم أنني لم أكن قط من عشاق عبد الناصر. قلت له: “نعم، ما زلنا نحب عبد الناصر، وسنبقى نحبه ونحترمه؛ لأنه فعل لنا الكثير”. اقترب أحدهم مني وخطف من على عيني نظارة شمسية كنت أعتز بها ورمى بها إلى أحد زملائه. كانت هذه النظارة الشيء الشخصي الوحيد الذي سرق مني وكلما تذكرتها يتملكني حزن عميق.
احمر وجه الضابط المصري وهو يقص لي حكايته مع تلك النظارة. سألته: “لماذا؟” فتراجع قليلاً وأشار إلى صدره وقال: “هذه ملكيتي الشخصية. أحدهم اغتصبها منك رغمًا عن أنفك ولم تستطع الدفاع عنها ولم تستطع أن تنطق كلمة واحدة”. وهنا ألقيت عليه بقنبلة أصابته في عمق الجرح الذي لم يهدأ بعد. سألته: “إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للنظارة، فما بالك بالأرض؟”. لكنه لم يفكر في الرد بل عاجلني بسؤال آخر وهو يتحاشى النظر في عيني: “فما بالك بالوطن كله؟ لكن النظارة على الأقل تخصني أنا شخصيًا، أما الوطن فيسأل عنه آخرون هم الذين أضاعوه”.
بأي وجه تقابل اليوم هذه الأرض؟ بوجه الرابع من يونيو/ حزيران وكلك أنفة؟ أو بوجه الخامس من يونيو / حزيران وكلك انكسار؟ أم ترى تقابلها اليوم بوجه اليوم وأنت لا تدري اليوم إلى أين أنت ذاهب. أثر الأصابع بصمة في وجه من عرف الكرامة. هكذا كان إحساسي وقد ألقيت بجيل “النكسة” داخلي في طريقي إلى مسارح الأحداث في سيناء التي “يقولون” إنها عادت إلينا. في كل زاوية جمجمة وفي كل اتجاه بقايا هيكل عظمي. يحوطني الأعراب وأنا أنبش رمال سيناء فتشتبك أصابعي بعظام شهداء الكرامة، لكن أذني كانت لا تزال لدى أفواه قتلة آبائنا، إخوتنا، أبنائنا، ولدى شهودهم.
من تحدي المعركة إلى تحدي السلام إلى هذا التحدي الغريب السخيف المؤسف الوقح في آن معًا: قاتل أبيك يتبجح بجرمة أمام أنفك وأنت، من بعد ذلك، في انتظار أن يتعاون معك على إدانة نفسه. ما أرخص الدم العربي، وما أشبه اليوم بالبارحة!
في ذلك المكان، بالقرب من مطار العريش، يقول لنا الذي رفض التصوير، غابرييل برون من سلاح الإشارة الإسرائيلي عام 1967:
“… صباح السابع من يونيو/ حزيران رأيت في مطار العريش بين مئة وعشرين ومئة وخمسين جنديًا مصريًا مطروحين أرضًا مكبلين من الخلف.
بين الحين والآخر يدفع واحد منهم للاستجواب أمام طاولة يجلس إليها رجلان ملثمان.
بعد استجواب أحد الأسرى رأيت جنديين إسرائيليين يقتادانه لمسافة مئتي متر نحو الصحراء.
أعطاه أحدهما جاروفًا، فبدأ الأسير المصري في الحفر.
بعد خمس عشرة دقيقة أطلق الإسرائيليان رصاصتين داخل الحفرة. جيئ بأسير آخر أفرغت في رأسه رصاصتان أخريان في الحفرة نفسها، ثم جيء بأسير ثالث وأمر بردم الحفرة. رأيت خمسة أسرى يفعل بهم الشيء نفسه.
قبل ذلك بقليل كنت قد سمعت عشر طلقات نارية، فهمت منها أن خمسة آخرين قتلوا بالطريقة نفسها”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى