ثقافة

أفاعي إلياس أبو شبكة وأزهار بودلير \ نمر سعدي

إلياس أبو شبكة شاعِرٌ رومانسيٌّ مبدع وأَدِيبٌ ومترجم لبنانِي كبير، ولد في 3 مايو 1903 في بروفيدانس بالولايات المتحدة الأمريكية. واستقرَّ والداهُ في عام 1904 في بلدتهما الأصلية زوق مكايل في منطقة كسروان الحالية في جبل لبنان، وهي مدينة تطل على البحر الأبيض المتوسط وتشتهر بجمالها الطبيعي. وكان إلياس حينها لم يتجاوز السنة من عمره. وأصبح مهتمًا بالشعر في سن مبكرة. أسَّسَ في شبابه «عُصْبةَ العَشَرةَ» الأَدَبيَّةَ الَّتي ضَمَّتْ عَددًا مِنَ الكُتَّابِ والأُدَباءِ اللبنانيِّينَ الَّذِينَ ثَارُوا عَلى الأَسالِيبِ القَدِيمةِ للأَدَب، وعَمِلُوا عَلى كسْرِ الجُمودِ الفِكْريِّ الَّذِي كانَ فِي الحَياةِ الثَّقافِيَّةِ العَرَبيَّة. وأخذت شاعرية إلياس سبيلها إلى النضج الفني في مطلع العقد الرابع من القرن الفائت، بعدما أصدر ديوانه الشهير “أفاعي الفردوس” عام 1938، الذي أحدث ضجة في الأوساط الثقافية العربية، إذ رسم بمهارة فنية عالية لوحات نابضة بالحياة والحزن لحالته النفسية الثائرة في «أفاعي الفردوس» التي شدتها صلة تناظرية قوية ومتينة بديوان «أزهار الشر» للشاعر الفرنسي شارل بودلير، من حيث واقعية وقتامة التصوير الحسي والغموض والإبهام، وغرائبية الصور المُشَكَّلة بتراكيب لغوية جديدة.. شفافة ومبتكرة، كما وشدت «أفاعي الفردوس» صلات بـ«ليالي» ألفرد دي موسيه من حيث التمرد والانفعال والتوتر والقلق العاصف.

كان أبو شبكة شاعرا حالما مشدوداً للرمزية الفرنسية المشوبة بالرومانسية وبأطياف من السريالية محاولا بإبداعه الشعري إخراج القصيدة العربية من عباءتها التقليدية عبر كتابة قصائد جارحة الجمال ومنتفضة الجرح.. قصائد متمردة ثائرة تحمل قلقا وجوديا حقيقيا وبعض أنفاس البرناسيِّين الفرنسيِّين الحارقة، وأشواقهم العارية. ولكنها قصائد لم تخرج بصياغتها عن نطاق التراث الشعري العربي ولم تكسر قواعده الصارمة. وهي بنكهتها الرومانسية الجديدة تذكرني بالربيع.. بالخضرة أو بليالي نيسان، بقصاصات القصائد المنسيَّة، بعبق النوَّار والزنابق، تذكرني برغبات وأحلام تشعُّ في أقاصي الروح، بأشياء لا تحصى يصعب وصفها الآن، ولكنها تستحضر شيئا ما، عالما ما.. مناخات عذبة معذبَّة، نساء يتأنقن تأنقا فائضا عن الحاجة قبل الذهاب لسهرة رقص. أبو شبكة يذكرني بالصبا.. بالقصائد الأولى، بخضرة أمطار نيسان، بأقواس قزح سرابية. كأنَّ قصائده قنطرة من هواء وماء تمتدُّ إلى أيامٍ وأحلامٍ خلت. تستحضرها وتجعلني أعيشها حتى لو كنتُ في أوج الخريف أو الشتاء، تماما كقصائد شبيهه الشاعر الفرنسي الرجيم شارل بودلير، التي تقودني مراوغةً مراودةً إلى قبو الشتاء بأمطاره وعواصفهِ وأنوائه. كأن ربيع أبو شبكة لم يكن إلا ليتمِّم نقصان شتاء صاحب “سأم باريس” أو لنقل إن ربيع أبو شبكة ينبثق كزرِّ الوردة من كمِّ معطف الشريد الفرنسي الضائع والعبقري الممسوس بوهج الماورائيات والمختلج كحمامةٍ مذعورة في ريح ديسمبر. تحضر قصائد أبو شبكة ويحضر معها طيفهُ النحيل المعذَّب، الطائر المرتجف فوق حرائق الشعر. يقولُ فيه مارون عبُّود: “في خُلقه إباء حتى العنجيَّة. يريك نفرات هي بنت عم الجنون… في أحشائه آلام متقدَّة، آلام من الحبِّ، آلام من أعباء الحياة، حبٌّ مجنون يشخر كوقيد البلَّان. يتعالى حتى يدرك السقف ثم يهبط رويداً رويداً”. ينهض في زرقة الفجر ويكتب وسيجارته وفنجان قهوته لا يفارقان شفتيه. يوغل في سراب فراديسه الأرضيَّة حتى أبعد القصائد الضوئية. وهو في حضورهِ القلق دائما ما يستدعي صنوه وتوأم روحه بودلير صاحب أزهار الشر.. الديوان الذي غيَّر مجرى الشعر الفرنسي إلى الأبد وكان بداية ثورة شعرية عارمة على أسلوب الشعراء الكلاسيكيِّين الرومانسيِّين وعلى رأسهم فيكتور هوغو، وعلامة فارقة رئيسيَّة في مشهدية الشعر العالمي والحداثة الشعريَّة.

نجد ديوان أفاعي الفردوس يعانق ديوان أزهار الشر، يتناسل منه أو يتماهى معه ويلتقي في منعرجات ودوائر كثيرة ويشتبك اشتباكا حميميا به في مستويات وجماليات الخطاب الشعري، وفي مطارح وفضاءات جسدية، ولكن ديوان أفاعي الفردوس لم يخوِّض في طين الشهوة والقلق الروحي كما خوَّض ديوان أزهار الشر لبودلير مما جعله يصبُّ فيه كلَّ عذابات نفسه البوهيمية الباحثة عن الحرية والسعادة وإطفاء الرغبة.

عاش بودلير حياة التشرَّد والفقر والحرمان وأحب أكثر من امرأة ولكن قلبه لم يخفق بوله إلا لامرأة واحدة كانت واسطة العقد، وشكَّلت أبجديته العاشقة في معجم نسائه، ولم يجد الحب الحقيقي إلا مع سمرائه الفاتنة جان ديفال التي يخاطبها في قصيدته “الشرفة” محترقا بنار حبه الأزليَّة الخضراء، حيث نلمس في كل كلمة من كلماتها أثر اللوعة والشغف والحزن والشوق: “يا مصدر الذكريات وسيدة الخليلات يا أنت / يا كل ملاذي يا أنت يا كل واجباتي / سوف تذكرين روعة المداعبة / وحلاوة الموقد وسحر الأمسيات / يا مصدر الذكريات وسيدة الخليلات / في الأماسي المضاءة بأوار الموقد / والتي قضيناها في الشرفة المجللة بالضباب الوردي / كم كان صدرك حلواً وقلبك طيباً / فكثيراً ما تحدثنا بأشياء خالدة / في الأماسي المضاءة بأوار الموقد / والتي قضيناها في الشرفة / المجللة بالضباب الوردي / كم كان صدرك حلواً وقلبك طيباً / فكثيراً ما تحدثنا بأشياء خالدة / في الأماسي المضاءة بأوار الموقد / ما أجمل الشموس / في الأمسيات الدافئة / وأعمق الفضاء / وأجرأ القلوب / عندما كنت أنعطف نحوك يا ملكة المعبودين / كنت أخالني أشمّ رائحة دمك / ما أجمل الشموس في الأمسيات الدافئة / كان الليل يدلهمُّ كأنه الجدار الفاصل / ولكن عينيّ في حلكته كانتا تستشفان حدقتيك / وكنت أتجرع أنفاسك أيتها السمّ والحلاوة / وقدماك بين راحتيَّ الأخويتين / كانتا تستسلمان لنوم هادئ

عندما كان الليل يدلهمّ كأنه الجدار الفاصل / إني أعرف فنّ إثارة اللحظات السعيدة / وأعرف فنّ إحياء ماضيّ المتكور عند ركبتيك / ماذا يفيدني أن أفتش عن مفاتنك الناعسة / في مكان غير جسدك العزيز وقلبك الطيب / لأني أعرف فنَّ إثارة اللحظات السعيدة / هذه العهود والعطور والقبلات بلا عدد / هل ستصعد من هوة لا قرار له / كما ترتفع في السماء الشموس المشرقة / بعد أن اغتسلت في أعماق البحار السحيقة / أيتها العهود والعطور أيتها القبلات بلا عدد”.

وعاش إلياس أبو شبكة نرفانا الحب مع أربع نساء.. وربما أكثر، كنَّ حبه الأرضي وأفاعي فردوسه المبثوثة، قسَّم عليهن قصائده الكثيرة وأوجاعَ روحه وزفرات قلبه وسراب آلامهِ.. منهن من لم يصرِّح بأسمائهن الحقيقية في دواوينه. بدءاً بزوجته أولغا التي سمَّاها غلواء.. وحبيبته ليلى العضم المرأة المتزوجة التي عشقها وأخلص لحبها حتى آخر أيامهِ وكتب لها أجمل قصائدهِ وأكثر رسائله حميميةً وعشقا، الرسائل التي أطعمها للنار من ظنوا أنفسهم أوصياء على صاحبتها. مرورا بوردة واسمها الحقيقي روز، وأخيراً هادية وهي المغنية السمراء كما سمَّاها بعض من عاصر أبي شبكة. ولكن أغلب الظنِّ أنه كتبَ قصائد ديوانه الأجمل “أفاعي الفردوس” من وحي حبِّهِ المعذَّب الأبدي لغلواء: لا تَقنطي إِن رَأَيتِ الكَأسَ فارِغَة / يَوماً فَفي كلّ عامٍ يَنضُجُ العِنبُ / صُبّي الخُمورَ وَلا تُبقي عَلى مُهجٍ / مَوج الشَبابِ عَلى رِجليكِ يَصطخبُ / أَما أَنا وَلَو اِستَسلَمتُ أَمسِ إِلى / خَمرِ اللَيالي فَقَلبي لَيسَ يَنشَعِبُ / قَد أَشرَبُ الخَمرَ لكِن لا أُدنِّسُها / وَأَقرَبُ الإِثمَ لكِن لَستُ أَرتَكِبُ.

منذ أكثر من ربع قرن ما زلت أتذكَّر مرثية الشاعر السوداني الكبير المبدع محمد الفيتوري (عاشق بودلير) لأبي شبكة في ذكرى رحيله الخمسين يوم وقف مع شعراء عرب كبار منهم العراقي عبد الوهاب البياتي والسوري سليمان العيسى والمصري فاروق شوشة واللبناني سعيد عقل ليلقوا قصائدهم في هذه المناسبة، وكان ثمة حضور كبير يتقدمه رئيس الجمهورية اللبنانية حينذاك. وما زال صدى قصيدة الفيتوري “ترنيمة في قداس أبي شبكة” يهبُّ من أقاصي الخلود والأبدية ويتردَّدُ في السمع بعد ما يقارب الثلاثة عقود. ويتهادى مطلعُ هذه القصيدة الرائعة على أمواج موسيقى بحر البسيط العذبة: “برقٌ.. وفي مقلتيك الشعرُ يلتهبُ / وعاصفٌ ويداك النار والذهبُ / ما كان أبهاك لولا أنه قدرٌ / يقسو، ويلهو، ويسترضي وينتخبُ / ما كان أغناك بالأحلام لو صدقت / أحلامُ من سكنوا في الضوء واحتجبوا / يا غارسَ الزنبقاتِ الحمر في جسدٍ / توحَّشَ القهرُ في جنبيهِ والتعبُ / دعني أضيء شمعةً في راحتيكَ وقد / أبكي قليلا ويبكي في دمي الغضبُ / دعني أباغتكَ فالأطيافُ ناعسةٌ / خلفَ السياجِ ومسكُ الليلِ ينسكبُ”.

ويكتب الفيتوري في مقدمة أعماله الكاملة: ” لقد عثرت اليوم على شاعر فرنسي، اسمه شارل بودلير، يكاد يفقدني صوابي، إنه ذو طبيعة شعرية غير عادية، قادرة على خلق الصور وتجسيد المشاعر والأفكار وتكثيف الأوضاع النفسية والاجتماعية في حالات فقدان تناسقها وانسجامها فنيَّاً. إنَّ لدى بودلير بصيرة تنفذ إلى ما وراء الأشكال والمظاهر، إنني غارق هذه المرحلة حتى الغيبوبة والدوار في عالم بودلير المخيف والمعذَّب في أزهار الشر. الأروع من ذلك أن معبودته الأرضية جارية سوداء اسمها جان ديفال. بودلير الأرستقراطي الأبيض، يُحطم الفوارق الطبقية واللونية بطريقته الخاصة، سيَّان كان من أجل الجسد أو من أجل الشعر. إن شارل بودلير يقترب مني أكثر فأكثر، كلما تعمَّقت في تجاربه وتمزقاته الحسيَّة والوجدانية. ذلك الشاعر الملعون.. الجرح والسكين، الضحية والجلاد. إنني أنتمي إليه بصلة ما”.

وكما أن أفاعي فردوس أبو شبكة في لحظة جحيمية من لحظات تجلِّيه الشعري الصاخب لا تكفُّ عن نهش روحه القلقة المتوجسة كوردةٍ خائفة، كذلك نجد أن أزهار بودلير النارية قد تحوَّلت إلى أظفار ومخالب ظامئة لتعرية شكوكه ومخاوفه ومطاردة روحه الهائمة في بريَّةِ المجازات والأنوثة والقصائد حيث يلتقي الشاعران في مطرح ما.. أو تتشابك زفراتهما في ليل واحد مختلفين على تفسير دور المرأة أو وظيفتها الحيوية الضرورية في عالم كل منهما على حد رأي الكاتب والناقد اللبناني إبراهيم العريس “ثمة المرأة التي تختلف لدى أبو شبكة عنها لدى بودلير اختلافاً جذرياً. بل إن النظرة الى المرأة لدى الشاعر الرومانسي اللبناني تكاد في تناقضاتها وتناقض النظرة إليها تكون صنواً للحياة نفسها: فهي المرغوبة المخشية، الحنون والخائنة. ولعله في قصائده يحاول ان يدفعها الى اختيار ما بين المواصفات الكثيرة التي يعزوها اليها. وهو ما يفعله مثلاً في واحدة من أجمل قصائد المجموعة والتي يخاطب فيها حبيبة- متوهّمة!؟- هي «سليمى» قائلاً: «أسمعيني لحن الردى أسمعيني / فحياتي على شفار المنون / واذرفي دمعة عليّ/ فبعد الموت لا أستحق ان تبكيني / يا سليمى وقد أثار نحولي/ كامنات الردى على العشرين / ما تقولين عندما تنظرين / القوم جاءوا إليَّ كي يحملوني / وأنا جثة بدون حراك / وخيال الحمام فوق جبيني / يا سليمى أنا أموت ضحوكاً / ليس هذا الوجود غير مجون». والحقيقة ان نظرة الياس أبو شبكة الى الموت والمرأة، وهي نظرة تبدو مجتمعة في هذه القصيدة بالتحديد، إنما تنبع تماماً من تجربته الذاتية، ولا سيما تلك المرتبطة بالمرأة وإن لم توضح الأبيات السابقة ذلك. فعلى رغم أن المرأة تحضر في كل شعر أبو شبكة وصولاً الى حبيبة أيامه الأخيرة «غلواء» والتي خصّها بآخر مجموعة صدرت له في حياته (1945)، إلا أن حضورها مستقى مباشرة من امرأة الشعراء العذريين العرب الذين درسهم الشاعر في شكل خاص، لا من المرأة البودليرية… وذلكم أمر بات من الضروري التركيز عليه في اية قراءة لهذا الشاعر الذي من المؤسف أن «حداثة ما» خلال العقود الأخيرة غيّبته عن الساحة الشعرية العربية مغيّبة معه جانباً أساسياً من الصورة العامة للذهنية العربية كما تجلت خلال النصف الأول من القرن العشرين وكان أبو شبكة من خير المعبرين عنا بحياته كما بشعره”.

في مقدمة “أفاعي الفردوس” يحاول أبو شبكة أن يقارب فلسفة كتابة الشعر فيذكر مقولة فاليري “إنَّ الشاعر من يستطيع النظم ساعة يشاء، وليس الشاعر وقفًا للمصادفة، وإنه لمن الخطل القول بأن الشاعر منفعل لا فاعل، ومتسقط ما يُلْقى عليه”. ولا يؤمن بأي نظرية من نظريات الشعر الحديثة بل يبحث عبر كتابته الشعرية عن المجهول، كما لو أن الشاعر سندباد ضلِّيل يمخر بحارا من الظنون والعذابات لا آخر لها “فرأينا بودلير البرناسي يصدر عن نفسه ويلتقي فرلين الرمزي على صعيد واحد، ورأينا جميع الشعراء الحقيقيين من زعماء المدارس يتفلَّون في الأودية المظلمة، ويجتمعون أنقياء على قمة واحدة هي الشعر. فالمدارس الشعرية سجون ونظرياتها قيود، والشاعر لا يعيش في جو العبودية هذا، فالطبيعة هي جوُّه الفسيح تتكيف إحساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر من هذا الجو خرج من نفسه وكذب على نفسه.

شاعر فلسطيني يقيم في الجليل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى