نعم ، إنتخبنا رئيساً و شكّلنا حكومة ، و لكن …كتب غسّان حلواني

على إفتراض أننا نحن داخليا ً أصحاب القرار في إنتخاب رئيس الجمهورية و في تسمية رئيس الحكومة ، لكن جرت العادة مع كل عهد رئاسي جديد وتشكيل حكومة جديدة في لبنان، تتجدد الآمال بحدوث تغيير يُنهي الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها البلد. إلا أن الواقع يُظهر أن أي عهد جديد يواجه تحديات متشعبة تتطلب حلولًا جذرية، لا مجرد وعود مؤقتة. فلبنان اليوم يقف على مفترق طرق خطير، حيث يُعاني من انهيار اقتصادي غير مسبوق، أزمات سياسية مستمرة، فساد متجذر، وانقسامات طائفية حادة، وكلها تحديات تُلقي بثقلها على أي حكومة جديدة تسعى لتحقيق النجاح.
في أسباب الأزمة، يعلم القاصي و الداني أنّ أزمة النظام السياسي هي بالدرجة الأولى الطائفية المتجذرة ، حيث تُشكّل الحكومات بناءً على التوازنات الطائفية والسياسية بدلًا من الكفاءة والإصلاح ، مما يُضعف عمل الحكومة، و يؤدي إلى الشلل الحكومي والمؤسساتي ، فتعجز السلطات عن اتخاذ قرارات حاسمة بسبب التجاذبات السياسية والخلافات الداخلية .
و هناك من يرى أنّ غياب الثقة الشعبية بالنظام السياسي نتيجة تراكم الفشل في معالجة الأزمات السابقة ، يمكن إعتباره سببا ً إضافيا ً من أسباب الأزمة . (غير أني شخصيا ً لا أعتبر أن كامل الشعب اللبناني لديه اليقظة و الحنكة و الثقافة السياسية لفهم ما يحدث ، و خاصة ً الطبقات الشعبية) .
هذا العهد على وجه التحديد لديه إضافة لما تقدّم و ما سوف يلي فواجع بإنتظاره من إنهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة معدلات الفقر والبطالة ، الى إفلاس القطاع المصرفي وعدم القدرة على استعادة أموال المودعين المحتجزة في البنوك ،وعجز الدولة عن تمويل مشاريعها الأساسية بسبب تراكم الدين العام وعدم وجود رؤية اقتصادية واضحة و رفض المجتمع الدولي تقديم أي مساعدات مالية أو استثمارات دون تنفيذ إصلاحات جذرية. و كما للخارج شروط ، فللداخل أيضا ً وجهة نظر في مواجهة شروط صندوق النقد الدولي والإصلاحات المطلوبة للحصول على المساعدات المالية الدولية، بسبب آثارها الاجتماعية المحتملة.
وكذلك انتشار الفساد وضعف القضاء ، فلبنان يحتل مراتب متأخرة عالميًا في مؤشرات الشفافية ومكافحة الفساد بسبب غياب المحاسبة واستغلال النفوذ السياسي ، و يعني قضاؤه من عدم الإستقلالية ، مما يمنع تحقيق العدالة ومحاسبة الفاسدين، ويعطّل تطبيق القوانين الإصلاحية.
إن تردّي الخدمات العامة والبنى التحتية و ما نتج عنها من أزمة الكهرباء المستمرة، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة في وضع خطة مستدامة لحل مشكلة الطاقة ، وانقطاع المياه و ضعف خدمات الاتصالات وغياب الاستثمارات في البنية التحتية ، يجعل المدن والقرى اللبنانية تعاني من تدهور الخدمات الأساسية. و لا ننسى حصة قطاعي الصحة و التعليم وانهيارهما نتيجة هجرة الأطباء والمعلمين بسبب تدني الرواتب من جهة و الإرتفاع المهول بسعر الخدمات الصحية و الإستشفائية بغياب الضمان العام أو التأمين العام ، و تحليق أكلاف التعليم الجامعي الخاص ، الذي كان يستوعب أكثر من سبعين بالمائة من طلاب الجامعات . وهذا غيض من فيض في الشأن الداخلي، وليس آخر الأمر الضغوط الدولية والتدخلات الخارجية كون لبنان ساحة لتجاذبات إقليمية ودولية.
و لا أغفل عن ذكر رأس الآفات المتمثلة بأزمة عدم القدرة على إتخاذ القرار السياسي الموحّد ( و هو موضوع مقالتي القادمة ) .
امّا عن خريطة الطريق الى الإصلاح و التعافي ، فإن تشكيل حكومة التكنوقراط الذي حصل ، لهو أمر مرحّب به . و لكن هل هذه الحكومة هي فعلا ً مستقلة عن المحاصصة ؟ لا يكفي ان يكون وزراء من أصحاب الخبرة والكفاءة بدلًا من التوزيع الطائفي والمحاصصة السياسية في هذه الحكومة ، بل يجب منح الحكومة صلاحيات استثنائية لتطبيق الإصلاحات الضرورية بسرعة وفعالية. كما يجب تحديد جدول زمني واضح لتنفيذ السياسات الإصلاحية وتقديم تقارير شفافة حول التقدم الحاصل .
لعل ابرز الإصلاحات العاجلة المطلوبة هو إعادة هيكلة القطاع المصرفي بطريقة تحفظ حقوق المودعين وتعيد الثقة بالقطاع المالي و لا بد من إيجاد حل ّ لإعادة الودائع لأصحابها ، و هذا إن حدث كفيل بحل نصف المشكلة في البلد. و ماليا ً أيضا ً مطلوب مكافحة التضخم عبر ضبط سوق الصرف واعتماد سياسات نقدية فعالة بالشراكة مع مصرف لبنان . كما إن تعزيز الشفافية في إدارة الأموال العامة أمر في غاية الأهمية و من الشفافية المتقدمة نشر ميزانيات الوزارات والمؤسسات الحكومية على منصات مفتوحة .
في القضاء ثم القضاء ثم القضاء ، فالملّح هو تعزيز استقلالية القضاء و تفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومنحها الصلاحيات الكاملة لمحاسبة المسؤولين عن الهدر المالي والفساد الإداري و كل ما من شأنه استعادة الأموال المنهوبة عبر ملاحقة المسؤولين عن الفساد داخليًا وخارجيًا . و لأجل ذلك يجب إقرار قانون استقلال القضاء لضمان نزاهة المحاكم وعدم خضوعها للتدخلات السياسية.
إن ّ ورشة تحسين الخدمات العامة والبنى التحتية ، لا بد أن تكون من مهام هذه الحكومة ، و أعتقد أن من الممكن إصلاح قطاع الكهرباء عبر خصخصة جزئية أو إشراك القطاع الخاص لحل الأزمة المزمنة ، و لا بأس بوضع خطة خمسية للنهوض بقطاع الكهرباء والمياه عبر الشراكة واستثمارات خاصة و وشركات دولية. و كذلك الأمر ينسحب على إصلاح القطاع الصحي والتعليمي عبر توفير تمويل مستدام وزيادة أجور العاملين فيهما لمنع استمرار الهجرة ووقف الجشع في القطاعين .
و من أبرز القضايا في السياسة و الأمن، تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية، والتمسك بسياسة النأي بالنفس لمنع انزلاق البلاد في أزمات إقليمية جديدة.
إن تعزيز دور الجيش اللبناني كمؤسسة وطنية موحدة بعيدًا عن التجاذبات السياسية ، و إعداده و تسليحه و حصر السلاح بيد الشرعية هو مطلب وطني ملحّ .
و في السياسة الخارجية فلبنان بحاجة لحملة علاقات عامة جديدة من شأنها تحسين العلاقات مع الدول العربية والدولية و تجاوز هفوات الأشخاص و الجهات و زلات الألسن الصادرة عن عمد أو شبه عمد ،لإعادة كسب الثقة و لجذب الاستثمارات والمساعدات التنموية. و كما إستعادة الثقة مطلوبة دوليا ً ، الأجدر ثم الأجدر إستعادة إكتسابها داخليا ً بين الشعب و الدولة .
و عن إنشاء مشاريع تنموية في المناطق المهمّشة لتحقيق إنماء متوازن والحدّ من الهجرة الداخلية والخارجية ،
أرى أنها جميعها مرتبطة بأزمة القرار السياسي الموحد الذي هو عنوان المقال القادم .
نجاح العهد الجديد والحكومة القادمة في لبنان يعتمد على الإرادة السياسية الحقيقية لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، والقدرة على تجاوز المصالح الضيقة للطوائف والأحزاب. لا شك أن الطريق مليء بالعقبات، لكن الحلول متاحة إذا توفرت الجرأة والشفافية والإدارة الحكيمة.
يبقى السؤال: هل ستتمكن الحكومة الجديدة من كسر حلقة الفشل السابقة، أم سيبقى لبنان رهينة أزماته المزمنة ؟
Best Development Company in Lebanon
iPublish Development offers top-notch web development, social media marketing, and Instagram management services to grow your brand.
Explore iPublish Development