المقالات

علي حرب:”الأممية الشيعية إلى أين”أنطولوجيا التضحية والشهادة والثأر \ د. قصي الحسين

” هناك كلمات صنعت مأساة لبنان وإنهياره الحضاري، كالوحدة والإشتراكية والشهادة والقضية المركزية…
ولا شك أن مفردة المقاومة تأتي على رأس القائمة. فما من بلد كلبنان قد علق على صليب المقاومة الدائمة، عملا بالشعار القائل كل أرض كربلاء…
ولا غرابة والحالة هذة أن يصل لبنان، تحت عنوان المقاومة والممانعة، إلى دماره الذاتي بعد ربع قرن من الإحتفاء بالنصر…”

عقب الحرب الجسيمة التي شنتها إسرائيل على غزة ولبنان، بعيد عملية طوفان الأقصى- 7 أوكتوبر 2023، إنبرى كثير من المفكرين والدارسين، لقراءة آثار هذة الحرب المدمرة على حياة الناس، بوصفها حربا عميقة. وكان في طليعة هؤلاء، الأستاذ علي حرب الذي أنهى كتابه الأخير تحت عنوان:
الأممية الشيعية إلى أين؟. الدار العربية للعلوم- ناشرون. بيروت-2025: 107 ص. تقريبا”.

حرر علي حرب تساؤلاته الشخصية، التي كانت تدور في خلده، وفي أعماق نفسه، عن الحرب التي وقعت على لبنان، وخصوصا على البيئة الشيعية فيه، مثل الصواعق. بحيث ألزمته الوجوم لهول ما كان يرى ويسمع ويشاهد بأم عينيه، والأعمال الإسرائيلية الحربية، أشبه بأعمال إنتقامية من أمة الشيعة أينما كان: في الجنوب وفي الضاحية وفي البقاع، وفي أماكن النزوح أيضا. كان يلاحقهم غضب الدولة العنصرية، لتأخذهم إلى المحرقة، بعدما إنقادوا إلى الحرب طوعا، تحت راية ما أسماه “الأمم الشيعية”.

“لا مبالغة في القول بأن لبنان هو فريسة مأزق وجودي لا يحسن أهله الخروج منه، منذ إنخراطهم في قضية تحرير فلسطين، بوصفها قشية العرب الأولى.
ومعنى المأزق أن الأحوال تزداد ترديا. وأن المشكلات تزداد تعقيدا وإستعصاء. كما تصدمنا الوقائع وتفضحنا المفاجآت: من نكبة 1948 إلى نكسة عام1967، ومن هزيمة عام 1982 إلى الكارثة عام2025.”

يقدم علي حرب في هذة المراجعات السريعة والموجزة، أوجاعه وأوجاع الأمة في صيغة مونولوغ أنطولوجي. يعري الحقائق ويسمي الأشياء بأسمائها ويتجرأ في النقد، إلى حيث يتحفظ الآخرون. فالهزيمة التي ألحقت بالأمة الشيعية، في لبنان، إعتبرها هزيمة للأممية الشيعية التي أنشأتها طهران، ضمن حزام ناري بعيد عنها. تقاتل به وتناور، وتماكس وتبتز، ليس فقط الدولة الصهيونية الرعناء، بل من خلالها الدولة الأميركية نفسها، والتي تعتبرها رأسها المتقدم في منطقة الشرق الأوسط.

“وكان الخميني يرسل الفتيان القصر والمغرر بهم، لكي يفجروا الألغام أمام الجيش النظامي، فيكونوا شهداء سعداء برؤيتهم الإمام الحسين في جنة الفردوس.”

يحاول الأستاذ علي حرب في كتابه الأخير، الذي أعقب به الحرب الأخيرة، ليكون أكثر من إضاءات على الغشوش التي لحقت بالأمة الشيعية، من خلال تحولها إلى أممية، لها عقيدتها المتمحورة حولها. تذكر إذ يريد لها أن تذكر، بالعقيدة البلشفية وبالأممية الشيوعية والعمالية.

” ولا تعسف في القول بأن النموذج النضالي التقدمي والتحرري، قد أفضى إلى نشوء أنظمة شمولية وأحزاب فاشية، كما ترجم مع ستالين وماوتسي تونغ. أو مع كاسترو وشافيز، وأشباههم في الدول العربية….
وهذا شاهد على أن الواحد من الناس، قد يتحول إلى حيوان وحشي، عندما يتعصب ويغضب. أو يحقد وينتقم.”

أباح المفكر حرب، في كتابه الأثير، بهزال القيادة ، من رأس الهرم حتى آخر الصف الذي يتموضع فيه المغدورون في الجبهات الأمامية أو الخلفية من العدو الصهيوني. فكان يؤكد دوما على الخداع والخدعة والخديعة، التي لحقت بالأمة الشيعية، من خلال إنهزام المشروع الأممي لولاية الفقيه وتساقطه تباعا في كل الجبهات، دون تسجيل أي حراك عسكري، يحول دون هذا التدهور الدراماتيكي، والذي آذى الشيعة عموما أينما كانوا، في أعماق نفوسهم.

” ومع أن حركة حماس هي ذات هوية إسلامية سنية لا شيعية، فإن تحالفها مع إيران وإندراجها في المحور الذي يقوده المرشد الإيراني، لم يخفف من الطابع الشيعي للنظام… ما زلنا كما كنا قبل أربعة عشر قرنا: نحن (الشيعة) حسينيون، فيما هم ( السنة) يزيديون.”

غاية الأمر لدى مفكرنا الحصيف، أن نعيد إلى المفردات معانيها الأصلية وكرامتها اللغوية. ولم لا. أليس للمفردات اللغوية كرامتها القاموسية التاريخية. فأين صار الجهاد، من معنى الجهاد. وأين صارت لفظة المقاومة من معنى المقاومة. وأين صارت الشهادة من معنى الشهادة. فبرأي الأستاذ علي حرب، أجرت حرب “المساندة” إنزياحا تاريخيا عن المعاني القاموسية، لكل المفردات التي إستخدمت في الخطابات فوق المنابر، وفوق الركام وفوق جثث المغدورين بآلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة، والتي لم تبق ولم تذر.

” نحن إزاء مشروع يستهدف خلع الطابع الشيعي على العالم، عبر النظر إلى الأحداث وتقييم التجارب والأعمال بعين كربلاء، ومن خلال ثنائية الحسين ويزيد، كما أكد المرشد الإيراني… لمن يصطفون في طابور محور المقاومة والممانعة.”

يمثل هذا الكتاب: “الأممية الشيعية إلى أين؟”، أكثر من مقدمة أنطولوجية، يراجع من خلالها الكاتب مجريات الحرب الضروس التي إستدعتها عملية طوفان الأقصى، ومن بعدها حرب الإسناد. وأكثر ما يسلط الضوء عليه، هو سياق الخطابات المنبرية، وسياق الحرب التدميرية. وكيف كانت هذة السياقات تجري على الشيعة، وتنهب من تحتهم الأرض والغرس والزرع والعمارة والحضارة والتاريخ. تزور كل شيء، في إرتداد على الإرتداد، بحيث تصنع النتائج المؤلمة. ثم ترمى على الناس، فينساقون للهجرة الطوعية، ومغادرة التاريخ إلى غير رجعة. وهذا أشد ما يؤلم مفكرنا ويدعوه للتساؤل عن جدوى السياقين في جريمة واحدة.

” ولهذا خططوا بعد خروج إسرائيل عام2000، وإستيلائهم على السلطة، لنسف مشروع النهوض والإعمار، بإستثمار ما سموه النصر الإلهي، لتغيير هوية لبنان ونظامه، عبر سلسلة من الإضطرابات والإغتيالات للشخصيات السياسية والثقافية.”

علي حرب في كتابه الأثير والأخير: “الأممية الشيعية إلى أين؟”، يرى بكل ألم إلى النهايات المنكسرة، بل إلى الكلمات الخادعة التي صنعت الإنهيار الحضاري. وصار على كل مواطن أن يرى الحقيقة، فلا يظل ملثما بالخطب المنبرية، التي ألحقت الغشوش، في كل مفرداتها القاموسية. فهذا الكتاب يمثل حقا، أنطولوجيا التضحية والشهادة والثأر، لما يراه في تحوير معانيها بعد إستجرار الحرب الضروس إلى الأمة. و ما كانت لتحسب أي حساب لنتائجها الكارثية المدمرة.

“والعبرة من ذلك هي قيام فارق تحويلي بين ما يدور في الأذهان، وما يجري في الأعيان، أي بين الأفكار والوقائع. بمعنى أن الأفكار ليست مجرد نظريات تسبق المعطيات لتنطبق على الوقائع، وإنما هي معالجات تمتحن في الميدان وتركب على أرض الحدث”.

أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

iPublish Development - Top Development Company in Lebanon
زر الذهاب إلى الأعلى