ثقافة

رمزية الّلون الأخضر في الشّعر العربيّ الحديث \ بحث: الدكتور محمد حبلص

المقدّمة
استخدم الشّعراء العرب المحدثون رمزيّة الّلون الأخضر بكثرة في شعرهم، فأدّت وظائف تعبيريّة متنوّعة، وقد ألمحنا في مقدّمة بحثنا هذا إلى التنوّع الوظيفيّ التعبيريّ الّذي اتّصفت به، وبيّنا أنّ سبب تنوّعها الوظيفيّ التعبيريّ هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لتنوّع الموضوعات الشعريّة المطروقة، ولتنوّع أمزجة الشعراء، وأفكارهم، وعقائدهم، وتجاربهم الحياتيّة والإجتماعيّة. ونحن، في هذا الفصل في بحثنا سندرس رمزيّة الّلون الأخضر عند عدد من الشعراء العرب المحدثين بغية إظهار التّنوّع المضمونيّ والبنيويّ الذي أحدثته، وكانت سببًا رئيساً لوجوده في القصيدة العربيّة الحديثة.
إنّ اعتمادنا عدداً متنوِّعًا من الشعراء والنّصوص يُغني الدراسة، ويفتح أمامنا نافذةً واسعة على الإشارات والدلالات الرمزيّة، والمعاني المكثّفة الّتي حملها الّلون الأخضر في السّياقات الشعريّة.
ومن أبرز الشعراء الّذين سندرس نماذج من قصائدهم في هذا المجال: عبد الوهّاب البياتيّ، أدونيس، بدر شاكر السيّاب، وربّما ندرس عند الشاعر الواحد منهم أكثر من قصيدة إن اقتضت الحاجة. فدراسة الرّمز الشّعريّ عند شاعر واحد تُظهر جانبًا من وظيفته الدّلاليّة والتّعبيريّة. أمّا دراستُه عند أكثر من شاعر فتظهر جوانب أخرى من دلالته، وتنوّعه التّعبيريّ وحيويّته الوظيفيّة. ودراسة الرّمز الشعريّ الّتي توصلنا إلى هذا الهدف، لا بدّ أن تتمّ على المستوى الّلغوي السّياقيّ والمستوى المضمونيّ. فالرّمز لا يحمل إشارة أو دلالة مضمونيّة بدون سياق، والسّياق يعني اللّغة.
(وطبيعة الرّمز طبيعة غنيّة ومثيرة، تتفرّق دراستها في فروع شتّى من المعرفة، في علم الديانات والأنتروبولوجي وعلم النفس وعلم الإجتماع وعلم اللّغة نفسه)( ).
وهذا القول يؤكّد رأينا في أنّ الرمز هو متنوّع الدّلالات في التّعبير الشعريّ، ويوظّف في معالجة موضوعات كثيرة، وربّما تكون أحيانًا متناقضة.
إنّ الرّمز، حتّى يحمل دلالات متنوّعة، لا بدّ أن يندرج في سياق شعريّ رمزيّ جديد، أمّا إذا اندرج في سياق تقليديّ، فلا يحمل حينئذ سوى معناه، فإذا وصف الشاعر عيونًا خضراً، أو جنّة خضراء بلغة تقليديّة مباشرة، فإنّ اللّون الأخضر يأتي في السّياق حاملاً معناه المباشر، مجدّدا من أيّة دلالة رمزيّة، ويأتي الوصف تقليديًّا وعاديًّا يبيّن أنّ العيون لونها أخضر وكذلك الجنّة بدون أن يحمل أيّة إشارات رمزيّة، أمّا إذا استخدم الشاعر اللّون الأخضر واصفاً العيون والجنّة في سياق لغويّ جديد، فحينئذ يحمل الّلون الأخضر إشارات ودلالات رمزيّة، فيرمز إلى الخصبِ والنّماء والحياة، فتصبح العيون الخضر لدى المرأة الّتي يعشقها الشاعر رمزًا إشاريًّا إلى الحياة والخصوبة. فالمرأة ذات العيون الخضراء هي خضراء ذات خصوبة بالحمل والإنجاب، وهي بعينيها الخضراوين ترمز إلى اخضرار حياة الشاعر، ترمز إلى اخضرار كلماته وشعره وتجدّد عطائه ونتاجه، وتصبح الجنّة الخضراء رمزًا إشاريًّا إلى الخصب والنّماء في الأرض والمواسم ما يجعل الشاعر مطمئنًّا في حياته على المستوى الفرديّ والوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ. فاخضرار الجنّة يعني استمرار حياة الشاعر والوطن والأمّة والإنسان عامّة.
إذ إنّ الجنّة الخضراء تعطي الإنسان المواسم والثّمار، تعطيه مادّة الحياة والغذاء والإستمرار، وتجعله ذا أمل، لا يعرف اليأس ولا يخاف المستقبل، تجعله يشعر بأنّ الوجود كلّه ينبض حيًّا في قلبه، وروحه، وكلّ خليّة من خلايا جسده، وهكذا يتبيّن لنا الفرق الشّاسع بين معنى اللّون الأخضر في السياق التقليديّ ومعناه في السياق الحديث، ويتبيّن لنا أنّ الكلمات، رموزاً كانت أو مفردات عاديّة، تستمدّ طاقتها الشعريّة والإشاريّة من خلال اتّحادها وتواؤمها في سياقاتها النّصيّة والإبداعيّة. فطاقة الرّمز الشعريّة والإشاريّة ليست موجودة فيه منفرداً، بل هي موجودةٌ فيه مندرجاً في سياقه النّصّي الإبداعيّ، وما ينطبق على الرّمز ينطبق على الكلمة.
إنّنا في هذا الفصل لن ندرس رمزية اللّون الأخضر دراسة دلاليّة مضمونيّة وحسب، بل سندرسها دراسة سياقيّة أيضًا، لكي نظهر القوّة الإبداعيّة التي امتلكها الشعراء العرب المحدثون في كتابة قصائدهم، فهم طرقوا في شعرهم موضوعات وقضايا حديثة، وابتكروا لغة معاصرة، (اللّغة الرمزيّة) تواكب زمنهم، لا تشيخ ولا تهرم. وإظهار القوّة الإبداعيّة لدى الشعراء العرب المحدثين، يحتاج منّا جهداً تحليليًّا ونقديًّا كبيراً، كي نستطيع فَهْمَ وظيفة الرمز دلاليًّا ومضمونيًّا، وفهم محتواه السياقيّ.
إنّ شعرائنا الجدد اكتملت في كتاباتهم الشعريّة العمليّة الإبداعية، فهم مبدعون في المعنى والمبنى، ولم يؤثروا أحدهما على الآخر.
الموضوع عندهم واللّغة متساويان في صناعة الحداثة الشعريّة، فالموضوع الحديث يوجب على الشاعر استخدام لغة حديثة، واللّغة الحديثة تمنحه القدرة الإبداعيّة على الوصف والتّعبير.

الفصل الأول: رمزيّة اللون الأخضر
لا جرَم أنَّ رمزيّة الّلون الأخضر في الشِّعر العربيّ الحديث، هي رمزيّة متنوّعة الدلالات، متعدّدة الوظائف، مكثَّفة المعاني، وتؤدي وظائفها في موضوعات كثيرة تتصل بحياتنا وقضايانا، وقد لجأ إليها الشعراء العرب المحدثون، ليعبّروا عن أفكارهم التي ترفض العُقم والجدب، وتؤمن بالحياة الخضراء التي تعني النّماء والتّجدّد والحيويّة والإستمرار، لجأ الشعراء العرب المحدثون إلى رمزيّة الّلون الأخضر، لأنّها تجعلهم يخرجون، بواسطة الكلمة الشعريّة، من واقعهم السياسيّ والإجتماعيّ الّذي اعتراه اليُبْس، تجعلهم يعبّرون عن حلمهم بمجيء الزمن الأخضر الّذي تخضرّ فيه العروبة في مجالات الحياة كافّة. إنّ رمزيّة الّلون الأخضر تعبّر عن تفاؤل الشعراء وإيمانهم القويّ بحتميّة اخضرار الحضارة والعلم، والثقافة في دنيا العرب بعد زمن من الإصفرار والذّبول طال أمده. فكما اخضرار الشّجرة يشير إلى ثمرها وعطائها المتجدِّد، كذلك الإخضرار في القضايا الأخرى يحمل هذه المعاني، فالعلم يعني اخضرارُه الإنتشار والتّسّع في ميادين متنوّعة، يعني التقدّم المستمر في الإكتشاف والإختراع، ثمّ أنّ اخضرار الثّقافة يعني الزيادة المستمرّة من الكتابة الإبداعيّة في الفكر والفلسفة والأدب، ووفق هذا المسار التحليليّ سوق ندرس رمزيّة اللون الأخضر عند شعرائنا، منتقين الموضوعات الّتي هي أكثر توافقًا مع مشكلاتنا، وأوثق اتصالاً بحياتنا، مبتدئين بالشاعر اللبنانيّ خليل حاوي الّذي يُعتبر رائداً من روّاد حركة الحداثة في الشِّعر العربيّ، ومن طليعة الشعراء الرمزيين الّذين استطاعوا بقوّتهم الإبداعيّة أن يصنعوا لغة رمزيّة إشاريّة تنسجم مع روح العصر الجديد، عصر التطوّر العلميّ والتكنولوجيا والحروب والأزمات، وبواسطة هذه الّلغة المستمدّة من رمزيّة الّلون الأخضر، يصف شاعرنا خليل حاوي نهضة داره من أنقاضها، وهي تشبه، عنده، انبعاث الفينيق من رماده، ونهضة الدّار في وصف خليل حاوي تمّت بقوّة الإخضرار التي بثّت الرّوح في الأخشاب، وجعلتها تلتمّ مؤديّيةً دورها في عملية بناء جديدة:
(داري التي تحطّمت تنهض من أنقاضها، تختلج الأخشاب تلتمُّ وتحيا قبةً خضراءَ في الربيع)( ). الدّار المحطّمة في هذا السياق الشعريّ تعني تحطّم الشاعر وطنيًّا، إنسانيًّا، حضاريًّا، ووجدانيًّا، ولكنّ اخضرار أخشابها اليابسة أعاد اليها الحياة، فصارت تعني نهضة الشاعر بعد تحطّمه وانهياره، واستقراره وطمأنينته بعد تشرّده وخوفه. إنّ الدّار هنا تعني الكيان الّذي ينتمي إليه الإنسان، فيشعر بوجودوه، وبقدرته على الإستمرار في تأدية رسالته الإنسانيّة، وإنّ تحطّمها يعني زوال الكيان والإنتماء، يعني الغربة والتّشرّد.
الّلون الأخضر يمثّل في هذه العبارة الشعريّة خلاص الشاعر وانبعاث كيانه العامّ من بين الحطام، اللون الأخضر بثّ الرّوح في الأخشاب اليابسة.
فاتحدت بقوة، وأعادت بناء الدّار مرّة أخرى. المعنى هنا يعني البعث والحياة الجديدة بعد الموت، فكما يحي الله العظام وهي رميم، كذلك تمّ إحياء الدّار وهي حطام، ولا بُدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الدّار المحطّمة عادت بعد بعثها وإحيائها أعظم من كينونتها قبل تحطّمها. فالأخشاب اليابسة الحضاري، تعني التطوّر والقوّة والمجد، والشاعر خليل حاوي أراد بهذه الصورة الرائعة أن يعبّر عن تفاؤله بمستقبل أمّته، فالدار- كما بيّنا آنفًا- تعني الكيان الوطنيّ والقوميّ، فهو يؤمن بأنّ أمته ستنبعث من حطامها، وستعود أعظم ممّأ كانت في ماضيها، أمّة الشاعر سوف تعيد بناء حضارتها القديمة.
بأسلوب جديد تتجلّى فيه أبهى مظاهر الفنّ والإبداع والرقيّ والحضارة. وننتقل من خليل حاوي إلى عبد الوهّاب البيّاني لنطلع على بعض الدلالات الرمزيّة التي يؤدّيها اللون الأخضر في عباراته الشعريّة ففي قصيدة مهداة إلى ولده (سعد) يقول البيّاتي:
الليلة أحبابي/ الواحد بعد الآخر/ طرقوا بابي/أحبابي
لكنّكَ يا ولدي كنت الأوحد/ في ليلي الأسود/ قمراً
أخضر.( ) يبدو عذاب الشاعر في هذا المقطع الشعريّ الوجيز عذابًا أليمًا، وتبدو غربته قاسيةً ومرّة، حيث يعيش بعيداً عن وطنه وأهله، ويعاني الوحدة والفراغ الوجدانيّ، ليل الشاعر في هذا المقطع ليلٌ أسود، ليلٌ مطبِقٌ على روحه، يسدّ أمامه الرؤية، ويبدّد شعاع الأمل، ويثبّط الكثيرين الذين طرقوا بابه الواحد بعد الآخر قاصدين مجالسته والحوار معه. فهم لم يستطيعوا أن يحملوا إليه السرور والسعادة، لم يستطيعوا مؤانسته، وجعله ينظر إلى الحياة بتفاؤل، لم يستطيعوا أن يبدّدوا سواد ليله، فوجود أحبابه قربه كعدمه، لقد تعطّل دورهم في حياته وفي التّخفيف من معاناته. إنّهم لم يستطيعوا أن يملأوا فراغه الوجدانيّ الّذي جعله مشتّت الفكر والشّعور والعاطفة. فالشاعر غير منسجم مع نفسه فكيف ينسجم مع الآخرين. إنّه ضائعٌ على المستوى الروحيّ أو بالأحرى أنّ روحه منفصلاً عن كيانه الإجتماعيّ في بلاد الغربة، لهذا السبب لم يعد لأحبابه الّذين يزورونه مؤانسين ومحاورين أيُّ دور في إخراجه من غربته الروحيّة، فهو مقيمٌ في مجتمع الغربة جسداً، ولكنّ روحه مقيمةٌ في العراق بين الأحبّة الحقيقيين، حيث شعورها بالإنتماء الوطنيّ والإجتماعيّ والحضاريّ، حيث تستطيع معانقة روح (سعد) الولد الأصغر لشاعرنا البيّاتي، الولد الأصغر الّذي هو عند أبيه بمثابة القمر الأخضر، وهكذا يتبيّن لنا أنّ الشاعر قد أقام في هذا المقطع الشعريّ الوجيز مقابلة بين الحياة في الغربة والحياة في الوطن، مقابلة بين الّليل الأسود الّذي يمثّل الغربة والضياع، والقمر الأخضر الّذي يمثّل الولد والطمأنينة على أرض العراق، وانطلاقًا من هذه المقابلة يمكننا أن نقف عند رمزيّة اللون الأخضر لإظهار دورها الدلاليّ في التّعبير عن الحال التفاؤليّة الّتي يعيشها الشاعر رغم الليل الأسود الّذي يكتنف حياته في الغربة، القمر بصورته التّقليديّة يزيّن الّليل ويؤنس الإنسان، أمّا القمر الأخضر فهو، بالإضافة إلى المعنى التقليديّ، يعني الحياة الخضراء، يعني الغد المشرق الزاهي الّذي ينتظره الشاعر متفائلاً بقدوم زمن اللقاء، يعني الولد الّذي سوف يؤنس أباه ويخرجه من ليل غربته، ويجعله يعيش الحياة المشرقة. الشاعر البيّاتي في هذا المقطع الشعريّ يبدو صامداً في ليل غربته أمام وحشته ومرارة عيشه، لا يعتريه الضّعف والإنكسار، وتبدو نفسه قويّةً مسلحةً بالثّقة والإيمان بوجود قمره الأخضر (ولده الأصغر سعد).
ووفق هذا السياق التحليليّ يبدو لنا الدور الدلالي الفاعل الّذي تؤدّيه رمزية اللّون الأخضر عند البياتيّ، هي رمزيّة مثقلة بمعاني الأمل والتفاؤل بمعاني الحياة والإشراق. فالولد الّذي بدا في المقطع الشعريّ السّابق شبيهاً بالقمر الأخضر سيبدّد ليل أبيه، وسيجعل حياته مليئةً فرحًا وسروراً ونجاحاً وإشراقًا سيجعل الحياة السوداء الّتي يعيشها أبوه في الغربة حياة خضراء. إنّ اللون الأخضر في المقطع الشعريّ السّابق يرمز إلى خصوبة الحياة الّتي طالما اعتراها اليُبْس، ويرمز إلى الأمل في الإنتصار على العقم والموت.
إنَّ الشاعر حين أضفى على القمر صفة الإخضرار أراد أن يشير إلى أنّ حياته ستخضّر بعد عُقمها ويُبسها. أراد أن يشير إلى أنّ الخصوبة ستعمّ الوجود، وستحدث تحولاً عامّاً في طبيعته، ما يؤدّي إلى تحوّل في رؤية الشاعر، فيرى اسوداد الليل اخضراراً. وهكذا يبدو لنا أنّ اللون الأخضر هو رمزٌ إلى التحوّل العامّ من اليُبس إلى الإخضرار من الموت إلى الحياة، من التشاؤم إلى التفاؤل. إنّ اللون الأخضر في هذه الصورة الشّعر ليس رمزاً إلى اخضرار النّفس المعذّبة الّتي اعتراها اليُبس في غربتها وحسب، بل هو رمزٌ إلى اخضرار الوجود، والتّفاؤل بالإخضرار ليس تفاؤلاً وجدانيًّا ذاتيًّا، لا يتجاوز كيان الشّاعر النّفسيّ الخاصّ، بل تفاؤلٌ شموليٌّ عامٌّ، تفاؤلٌ بالتحوّل العامّ. إنّ الولد الّذي يرمز عند أبيه إلى الإخضرار على المستوى الوجدانيّ الذاتيّ هو يرمز أيضاً إلى الإخضرار على المستوى الوجوديّ، وقادرٌ على أن يحدث تحولاً عامًّا في مظاهر الوجود وكينونته. فلولا الولد لما رأى الشاعر القمر أخضر الشعاع، ومن البديهيّ أن يؤثّر اخضرار الشعاع في سواد الليل، فيتحوّل الّليل إلى ربيع ومشهد جميل ينعكس على النّفس تفاؤلاً واستبشاراً بالغد، ويجعلها في سعادة غامرة وفرح دائم. ونستمرّ في حديثنا عن الدّلالة الرمزيّة الّتي يؤدّيها اللون الأخضر في كتابة البيّاتي الشعريّة، ولكنّنا ننتقل إلى قصيدة أخرى تهدف إلى غايات فكريّة وتعبيريّة وإبداعيّة، إذْ منح الشاعر فيها حروف شعره صفة الإخضرار، ليشير إلى أنّ كلمته الشعريّة الخضراء تُثمر ثقافةً وشعراً وفنًّا وإبداعًا، وتُسهم في إخصاب الحياة الثقافيّة والأدبيّة الّتي أصابها العقم واليُبس، لأنّ الإنسان ما عاد يولي أهميـّه للكلمة، بل أسرته التّكنولوجيا وصار عبداً للمال والبذخ والتّرف، صار يعمل جاهداً في ليله ونهاره لأجل الزيادة من الرّبح والملك، صار الإنسان المعاصر غير مهتّم بالكلمة وخصوصًا الكلمة الشعريّة، وإحجامُه عن الأدب والشعر والإبداع وانشغاله بالحياة الماديّة وزخرفها ومتاعها قد جعلا الحياة الثّقافيّة صفراء ذابلة تخلو من المواسم والغلال، فأصبحت بحاجّة ماسّة إلى الإخصاب والإخضرار والنّماء، والحروف الخضر وحدها تؤدّي الوظيفة الإخصابيّة الّتي تنتج المواسم المتنوِّعة والغلال الكثيرة في حقول الفكر والأدب والإبداع. وللوصول إلى هذه الغاية الإنتاجيّة الثقافيّة أضفى البياتيّ على الحروف صفة الإخضرار، لكي تستطيع أن تُزهر وتثمر وتنتج الغلال:
(يا قلبُ لا تهرمْ!/ فإنّ أمامنا حبًّا عظيم/ حبّي لأطفالي، لشعبي للحروف الخضر لا تهرمّ! فإن أمامنا حبًّا عظيم)( ) البياتيّ في هذا القول الشعريّ يوازي في حبّه أطفاله وشعبه والحروف الخضر، وهو في هذه الموازاة يشير إلى أنّ الأطفال الذين يرمزون إلى المستقبل يفقدون قوّتهم الرمزيّة إن لم يتسلّحوا بالكلمة التي تحمل رسالة العلم والمعرفة والتقدّم والحضارة. فالأطفال الّذين لا يُحملون الكلمة الفاعلة لا يمكن أن يصيروا في المستقبل شباباً فاعلاً، وهكذا لا يكون خروج المجتمع العراقيّ من مستنقع الجهل والتّخلّف بغير الحروف الخضر الّتي ترمز إلى الإخضرار في حقول العلم والإبداع. الأطفال في هذا السياق الشعريّ هم أساس الشّعب فلا يمكن أن يكون الشّعب أو يستمرّ في البقاء بدون الأطفال، ولكنّ عناصر البقاء لا تكتمل عند البياتيّ بهذا الثنائيّ (الأطفال- الشعب)، بل هي تحتاج إلى العنصر الثّالث البارز والفاعل، وهو الحروف الخضر الّتي تُخضب عقول الأطفال، وتجعلها عقولاً مفكرِّة ومبتكرة ومبدعة ومنتجة، لقد انتبه البياتي إلى ضرورة وجود هذه العناصر الثلاثة (الأطفال، الشّعب، الحروف الخضر) فهذه العناصر مجتمعةً ومشتركةً تؤلّف مجتمعًا إنسانيًّا راقيًا، وتبني وطنًا قويًّا على أسس علميّة وحضاريّة، ووفق هذا التّحليل يتبيّن لنا أنّ البيّاتي يرى الكلمة/ الرسالة ضرورة واجبة لا يمكن إغفالها في عمليّة تأسيس الأطفال وبنائهم ليصيروا شعبًا واعيًا متعلِّمًا قادراً على بناء الوطن المنيع.
فالأطفال والشّعب والحروف الخضر عناصر ثلاثة تجمعها إلى بعضها غاية عظيمة في بناء المجتمع والوطن، وتضعها في حركة إنتاجيّة ناشطة ومستمرّة علاقةٌ عضويّة وحيويّة أوجبتها الحاجة والضرورة، ولهذا ساوى البيّاتي في حبّه بين هذه العناصر الثلاثة، فكلّ عنصر منها يتساوى مع الآخر في الأهميّة والدور:
(يا قلبُ لا تهرمْ! فإنَّ أمامنا حبًّا عظيمْ/ حبّي لأطفالي، لشعبي للحروف الخضر لا تهرمْ! فإنَّ أمامنا حبًّا عظيمْ)( ).
يبدو حبُّ البيّاتي من خلال هذا الشاهد الشعريّ حبًّا أخضر، حبًّا دائم الخضرة، حبًّا مستمرًّا لا يشيخ ولا يموت، وكأنّ خضرة الحروف لديه قد أثّرت في حبّه فأخصبته، وجعلته أخضر لا يعتريه اليُبس، أو الموت، ولهذا نادى قلبه، فهو موضعُ الحبّ ونبعهُ، طالبًا منه بصيغة النّهي ألاّ يهرم: (يا قلبُ لا تهرمْ). وصيغة النّهي هنا تأتي في سياق التّعبير عن الرغبة ببقاء القلب شابًّا وقويًّا لكي يستطيع أن يسع الحبَّ العظيم:
(يا قلبُ لا تهرمْ! فإنَّ أمامنا حبًّا عظيم). إنّ الشاعر، وهو في غمرة حبّة لأطفاله وشعبه والحروف الخضر، أدرك أنّ العمر مضى أكثره. فرغب بأن يظلّ قلبه أخضر، لأنّ أمامه حبًّا عظيمًا يحتاج وقتًا طويلاً لكي يؤدّيه إلى أطفاله وشعبه وحروفه، إنَّ الحروف الخضر الّتي ترمز إلى الخصب والمواسم والغلال في حقول الفكر والأدب والإبداع، تحتاج قلبًا أخضر يُحبّها حبًّا مستمراً لا يعتريه الذبول أو اليُبس، وهنا إشارة شعريّة بيّانية إلى أنّ الانتاج الابداعيّ لا يكون إلاّ بالحبّ ورعايته.
لا يكون الإبداع إلا إذا أحبّ الشعراء والمفكّرون الكلمة، وجعلوا حروفها خضراً تنبض فيها روح الحياة، ولا يصير الأطفال رجالاً عظماء ومنتجين إلاّ بالحبّ ورعايته، لا يصيرون شعبًا عزيزاً إلاّ بالحبّ، ولهذا رغب البياتيّ بأن يعيش عمراً طويلاً، وأن يظلّ قلبه دائم الخضرة والربيع، لكي يمنح أطفاله وشعبه وحروفه حبًّا كثيراً طويلاً لا ينقطع، فالحبّ الذي يتدفّق من قلبٍ لا يهرم، هو حبٌّ سرمديٌّ وقويٌّ يُعطي الأطفال والشّعب والحروف الخضر طاقة الإنتاج والإبداع، فبقدّر عظمة الحبّ تكون عظمة الحياة. إنّ النتيجة التي يصل إليها المرء في عمله تكون دائماً بقدر الحبّ الذي بذله في سبيلها، فالشجرة لا تُزهر وتُثمر إلاّ إذا أحبّها الفلاح وتعهّدها بالرعاية الدائمة، أمّا إذا أهملها فمصيرها اليُبْسُ والموت، الحبّ هو جوهر الحياة وسبب ديمومتها. لقد استطاع الشاعر ببضع جمل شعريّة أن يجعل كلماته تحمل كلّ هذه المعاني الّتي تعبّر عن دور الحبّ في بناء الإنسان وصناعة الإبداع، وهذه الخصوصيّة التعبيريّة هي خصوصية ثابتةٌ في شعره الّذي يمتاز بالّلغة الرمزيّة والإشاريّة ذات الدلالات الإجتماعيّة والحياتيّة والإنسانيّة العامّة. إنّ الّلغة الشعريّة البيّانيّة لغةٌ تظلّ محتفظة بحيويتها وحداثتها، لأنّها قادرة على مواكبة الزمن، ونرفض العقم والموت وتنشد الخصب والحياة، فشاعرنا في عبارته الشعريّة التي أوردناها آنفًا يطلب من قلبه بصيغة النّهي ألاّ يهرم! (يا قلبُ لا تهرمْ)، لأنّ الهرم يفضي إلى الموت، وشاعرنا هو شاعر الحياة ويؤمن بها، لهذا نجده في الكثير من قصائده يقف مدافعًا عنها بصلابة أمام أعدائها الّذين يعملون لأجل فنائها. وما اللّون الأخضر في الشّاهد الشعريّ السّابق إلا دليلٌ على اعتناقه الحياة ما هو إلاّ رمز يحمل معاني الخصب والنّماء والديمومة والارتباط الوثيق الّذي يربط البيّاتي بالحياة أمراً غريبًا، فهو شاعرٌ ثائرٌ، والثّورة الحقيقيّة تشتعل في سبيل أن يحيا الانسان حرّاً، الثّرة الحقيقية تشتعل من أجل بقاء الحياة، أمّا الحرب فتشتعل من أجل فنائها. إنّ الشاعر البيّاتي لم يستطع أن يكتب هذا الشعر الراكع الذي يغنيّ الحياة، ويقاتل في سبيل أبنائها لولا أن اعتمد لغةً جديدة تواكب الزمن كما أسلفنا، (ولم يكن في تجديده مندفعًا بتهور، أو مخادعًا، بل كان صادقًا مع نفسه وقرّائه)( )، لقد حافظ على أصول اللّغة العربيّة، ولكنّه قدّمها في صياغات شعريّة جديدة تناسب العصر وتستطيع التّعبير عن أحداثه، فالشاعر البيّاتي لم يكن عبثيًّا وفوضويًّا في تعامله مع الّلغة، بل كان منضبطًا ومحافظًا، وكذلك (كان تجديده الموسيقيّ في مستوى تجديده اللّغويّ لاعتماده بحري الرمز والكامل واستغلال إيقاعهما العذب كاملين ومجزوأين سبيلاً للحفاظ على غنائية عذبة، بعيدة عن الخطابيّة)( ).
فقد اتسخدم في كتابة معظم قصائده تفعيلة الرجز/: /0/0//0 وتفعيلة الكاملة: ///0//0، لأنّهما تسهمان إسهاماً كبيراً في إغناء القصيدة بالموسيقى الشعريّة.
بحرين عروضيين إيقاعيين، إذ تكرّر التفعيلة: /0/0//0 في الرجز ستّ مرّات ثلاثاً في الصدر وثلاثاً في العجز، وهذا الّظام ينطبق على البحر الكامل أيضاً، والبيّاتي لم يلتزم في كتابة قصائده بتفعيلتي الرجز والكامل وحسب، بل كتب على تفعيلة الرمل والسّريع وسواهما، ولكنّه كغيره من معاصريه الشعراء العرب المحدثين واستخدم هاتين التفعيلتين بكثرة نظراً لغناهما الإيقاعي، ونحن إذا ما وقفنا عند تفعيلة الرمل: /0//0/0 فإنّنا نجدها تؤدّي الوظيفة الإيقاعيّة ذاتها التي تؤدّيانها تعفيلتا الرجز والكامل فهي مثلهما تكرّر في بحرها ست مرات ثلاثاً في الصدر وثلاثاً في العجز: /0//0/0 /0//0/0 /0//0/0
/0//0/0/ /0//0/0 /0//0/0
إنّ دور التعفيلات في الكتابة الشعريّة يتمثّل بتنظيم الكلام وفق قياس عروضيّ محدد، ولكلّ بحر من البحور قياسُه الخاص الذي لا ينبغي أن يخرج عنه الكلام، وفي الخروج عن القياس يكون الخلل العروضيّ (كسر الوزن)، وهذا يؤدي إلى فتور في الموسيقى الشعريّة. وبما أنّ لكلِّ بحرٍ قياساً عروضيًّا، فقد وجب الاختلاف بين البحور في الايقاع والموسيقى، وكلّما تجانست التفعيلات في بحرها ازداد ايقاعها حركةً وسرعةً وصخبًا، وهذه القاعدة العروضيّة هي التي جعلت البحر الذي يتألف من تفعيلة واحدة أغنى في الايقاع والموسيقى من البحر الذي تتنوّع فيه التفعيلات.
الشاعر البيّاتي رغم أنّه شاعرٌ اجتماعيٌّ وسياسيٌّ ظلّ يحافظ في شعره على الايقاع من خلال استخدامه تفعيلات عروضيّة ايقاعي معيّنة كما أسلفنا، وكذلك من خلال التنويع في الرويّ والتكرار وحروف المدّ، والقصيدة الّتي اقتطفنا منها الشاهد الشعريّ السابق (شعري) هي رغم صغر حجمها تجمع العناصر الايقاعيّة التي ذكرتها، إذ يتمثّل تنوّع الرويّ فيها بالنّون السّاكنة: الحزينْ- الحنينْ- والشّين السّاكنة: العروشْ- النعوشْ والميم السّاكنة: عظيمْ- عظيمْ، وهنا نلحظ أنّ كلمة الروي (عظيم) قد تكرّرت ما أدّى إلى إغناء القصيدة في الموسيقى الشعريّة، وبالإضافة إلى هذا التكرار هناك تكرار الإستفهام:
ماذا على الشعراء لو قطعوا يد المتطفّلين وأشعلوا نار الحنين/ ماذا على الشعراء لو بصقوا على هذي العروش. وكذلك تكرار العبارة التالية مرّتين: لا تهرم فإنَّ أمامنا حبًّا عظيم، والحروف المدّ دورٌ كبيرٌ على المستوى الايقاعيّ في هذه القصيدة، فهي موجودة فيها بكثرة، والجملة الشعرية الأولى خير مثال: شعري جوداٌ جامحٌ يعدو بفارس الحزين، فكلّ كلمة من كلمات هذه الجملة فيها حرف مدٍّ، حيث نلحظ الياء لكلمتين: شعري- الحزين والواو في كلمة: يعدو والألف في الكلمات: دواد، جامح، فارس. وكذلك نلحظ المدّ متمثلاً بالكلمات التالية: الينابيع، الجبال، نار، ليل، الأناشيد… الخ، ويظهر المدّ ف أسلوب الإستفهام المكرّر: ماذا، وفي أسلوب النداء: يا قلبُ. كل هذه العناصر الايقاعيّة التي ذكرناها بالتفصيل وسوق الأمثلة قد جسدها الشاعر البياتي في قصيدة قصيرة تتألف من سبع وخمسين كلمة، من بينها عشرة حروف، فقصر الحجم وكثافة عناصر الايقاع قد جعلا هذه القصيدة غنيّة بالموسيقى. وبالإضافة إلى غناها الموسيقيّ، هي غنيّة بالتّنويع الأسلوبي أيضًا، إذ استخدم البيّاتي الجملة الخبرية:
شعري جوادٌ جامحٌ يعدو بفارسه الحزينْ/ نحو الينابيع البعيدة في الجبال بفارس الأمل الحزين( ). في هذه الجملة يخبر الشاعر المتلقّي بأنّه يمتطي شعره نحو الأهداف البعيدة، والشعر هنا يبدو بمثابة الحصان الجامح الّذي يجتاز المسافات القصيّة، بمثابة الحصان الجامح الّذي لا تعيقه العثرات في الطريق، ولا تمنعه الموانع من الوصول إلى الينابيع التي ترمز إلى الصفاء والماء والحياة والطبيعة- الشاعر البيّاتيّ يخبر المتلقّي هنا بأنّه طامحٌ إلى بلوغ الأهداف البعيدة العظيمة رغم حزنه. وكذلك يتمثّل الاخبار في قوله: (إنّ أمامنا حبًّا عظيم)( ).
الإخبار في هذه الجملة يظهر الرغبة بالحياة والعمل لأجل المستقبل، لأجل الحبّ العظيم الّذي لا ينتهي. ومن الإخبار ينتقل الشاعر إلى الإنشاء: (ماذا على الشعراء)، (يا قلبُ)، (لا تهرمْ) في هذا المثال يبدو التّنويع في الصيغة الإنشائيّة، حيث الاستفهام والنّداء والنّهي، وهذا التّنويع لا جَرَمَ أنه يُغني النصّ على المستوى الاسلوبيّ فالاستفهام يحرّض العشراء على أن يقطعوا يد المتطفّلين على الكلمات، يحرّضهم على الذين ظنّوا أنفسهم شعراء، وهم في كتاباتهم يغتصبون القصيدة، الاستفهام يحرّض الشعراء على أن يدكّوا بأناشيدهم الثوريّة عروش الظالمين والمستكبرين: (ماذا على الشعراء لو قطعوا يد المتطفّلين وأشعلوا نار الحنين/ في ليل عالمنا ودكّوا بالأناشيد العروش)( ). فالوظيفة التعبيريّة التي أدّاها الأسلوب الإستفهامي في هذا النّصّ الشعريّ الوجيز هي وظيفةٌ تحريضيّة بغية إعادة الحقّ إلى أصحابه وقطع يد اللصوص الّذين يريدون أن يسرقوا ما ليس لهم.
أمّا وظيفة النداء، فهي وظيفة تنبيهيّة، إذ أراد الشاعر البيّاتي تنبيه قلبه- (يا قلبُ)- ليطلب منه ألاّ يهرم، وقد جاء الطّلب بصيغة النّهي (لا تهرمْ). من خلال هذه الأمثلة يبدو لنا أنّ التنويع الأسلوبي في النّصّ جاء ليخدم أفكار الشاعر المتنوّعة، وليمنحه القدرة التعبيريّة عن غاياته في سياقات شعريّة مختلفة. ونبقى عند الشاعر البيّاتي، لنبيّن الوظيفة الدلاليّة التي أدّتها رمزيّة اللون الأخضر في تعبيره الشعريّ: ففي قصيدة (موّال بغدادي) لا يتناقض اللون الأخضر دلاليًا مع وجوده في القصيدة السابقة، فهو دائمًا يدلّ على الخصب والنّماء والحياة، ولكن الاختلاف يكون بين الموضوعات والأفكار والغايات في القصائد. فالحروف الخضر في القصيدة الّتي درسناها آنفًا تعني اخضرار الكلمات والأدب والفكر والابداع، تعني الانتاجات الثقافيّة الوفيرة، وهي بهذه الدلالة الرمزيّة مكّنت البيّاتي من طرق موضوع الحروف الصفراء الذابلة اليابسة الّتي تحتاج إلى إخصاب لتصبح خضراء تحتاج إلى إحياء لتنتج الثّمار الكثيرة والغلال الوفيرة، أمّا الساقية الخضراء في قصيدة (موّال بغدادي)، في مكّنته من طرق موضوع معاناته في مدن الاغتراب، مدن العقم واليُبس، حيث لم يعد يستطيع العيش بعيداً عن بغداد مدينة الكروم والشّمس والنخيل، لم يعد يستطيع العيش بعيداً عن بغداد التي تشبه عنده الساقية الخضراء: بغدادُ يا مدينة النجومْ/ والشّمس تنبض باللّهفة والحنينْ/ متى أرى دجلة في الخريفْ؟/ ملتصبًاً حزينْ/ تهجره الطيورْ/ وأنتِ يا مينة النخيل والبكاءْ/ ساقيةٌ خضراءْ( ).
إنّ بغداد الّتي تشبه الساقية الخضراء، هي المدينة الّتي تفيض خِصباً وتزهو اخضراراً وجمالاً، هي المدينة التي تفيض حياةً ونشاطاً وحركة.
فصورة الحركة في السّاقية الخضراء هي ترمز إلى حركة الحياة في بغداد، ترمز إلى الخصب والإخضرار، والبيّاتي يريد أن يقوم بلغةٍ إشاريّة: إنّ المدن في بلاد الاغتراب والمنفى مدن ميتة تفتقر إلى حركة الحياة التي تمثّلها السّاقية الخضراء. والّذي جعله يُحسُّ بأنّ مدن المنفى جامدة وغير حيّة، هو شعوره فيها بالغربة، ومعاناتُه من الوحشة والتشرّد وكذلك شوقه وحنينه المحتدمان إلى بغداد المدينة الّتي يجري فيها الحياة جري الماء في الساقية، جَري الماء الأخضر الّذي هو في هذه الصورة إشارة شعريّة إلى الحياة الخضراء، الحياة الزاهية الّتي تزرع في النّفس السّعادة والسرور، فالماء هو مادّة الحياة وسبب الاخضرار، والإخضرار يسرّ الناظرين ويجعلهم في بهجة وحبور. الحياة في بغداد هي حركة مستمرّة متدفّقة كالساقية الخضراء التي تسقي الأرض الميتة وتبث فيها الروح وتحوّل الجذب خصباً واليُبس اخضراراً ونماءً، فبغداد تجعل البياتي أخضر القلب وامل دائم البهجة والسرور، ولهذا عبّر في القصيدة نفسها عن شوقه إليها قائلاً: متى أرى شارعك الطويلْ؟/ تغسله الأمطارْ/ في عتمة النهار( )
مدينة البياتيّ الّتي يرغب بالعودة إليها وبأن يرى شارعها الطويل تختلف بخصائصها عن المدن في الاغتراب والمنفى، أنّها قادرة على أن تفعل في نفسه وحياته ما تفعله السّاقية الخضراء في الأرض العطشى والجذور الميتة. إنّ بغداد لديها القدرة على أن تحيي في نفس ابنها البيّاتي الأمل بحياة جديدة ملؤها الدفء والسرور، الأمل بالعودة إلى العراق أرض الكروم والنّخيل، أرض الشّمس والسواقي، وهي قد أحيت في نفسه الأمل الذي أماته الصقيع في مدن الاغتراب، أحيت أمله بحرارة شمسها وبماء نهرها (دجلة)، ولهذا أحسّ بالحنين يشدّها إليها، وأصبحت مدن الاغتراب سجنًا والحياة فيها دُوّامة سوادء: يا وطني البعيد/ جل عينيك أنا شريدْ/ لأجل عينيك أنا وحيد/ في هذه الدوّامة السوداء( ). الشاعر يرغب بالعودة إلى بغداد، لأنّه يعيش فيها حركة الحياة، ويحسّ بالدفء ويرى الجمال، أمّا في مدن الاغتراب فيعيش في دوّامة سوداء، وهو في هذه القصيدة (موّال بغداد) يقابل بين الساقية الخضراء والدوّامة السوداء، وهي مقابلة تظهر جمال بغداد وطيب العيش في ربوعها وقبح الغربة وسوء العيش في مدنها، هي مقابلةٌ تظهر القدرة الفنيّة والشعريّة التي يمتلكها الشاعر البيّاتي في توظيف رمزيّة اللّون بغية التّعبير عن آرائه بلغة رمزيّة جديدة قادرة على محاكاة الحياة ومواكبة الزمن، إنّ الّلغة البيّاتيّة تناقض تمامّا الّلغة السلفيّة، فهي لا يمكن حصرها ضمن إطار زمانيّ أو مكانيّ، لأنّها تتصل بالإنسان وتتصل بالحياة، ولا تعرف البلادة ولا الجمود. فالّلغة البيّاتيّة لغةٌ حيّة لا تشيخ، هي تجدّد وتجدّد الحياة، (لن تموت كلمات البيّاتي، لأنّها لم تكتب على الطّين كما يقول، بل حُفرت في قلوب الأجيال لتؤكّد أنّه خالدٌ في ضمائرنا( ).
كلماته نُفخت فيها روح الحداثة، ووُضِعت في سياقات شعريّة حديثة فكانت لها خوضها في خوض موضوعاتها متنوّعة ومتباينة، وكان لها تميّزها وتفوّقها في التّعبير عن المشكلات الاجتماعيّة كمشكلة التمييز العنصريّ بين البيض والسود، وفي التّعبير عن المشكلات السياسيّة كمشكلة الاستبداد الّذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية بحقّ الشّعوب أو كمشكلة المنفى الّتي عبّر عنها الشاعر البياتي في قصيدة (موال بغدادي) بكلماته الخضر المبشّرة بغدٍ إنسانيٍّ أخضر، زاهٍ ومشرقٍ تنتفي فيه أسبابُ نفيّ الشعراء والمبدعين من أوطانهم، وينهزم المستبّدون أمام قوّة الجماهير الثّائرة المتحرّفة شوقًا إلى الحريّة، وتتحطّم عروش الطغاة. كلمات البيّاتي الخضر هي الّتي استطاعت أن تجعل بغداد ساقيةً خضراء: (وأنت يا مدينة النّخيل والبكاءْ/ ساقية خضراء( )، تبدو بغداد، كما يراها البياتيّ، مدينة الجمال والخصب والحياة رغم أنّها تعيش في أجواء الجذب السياسيّ جرّاء النظام الإستبدادي الذي يحكمها، ويسجن أبناءها الأحرار، ويطرد إلى عالم الغربة والمنفى والتّشرّد أهل الرأي والكلمة الفكر والابداع، تبدو بغداد ساقية خضراء، بعيني البيّاتي، لأنّ كلماته لا يمكن أن تعبّر إلّا عن الحياة، ولا يمكن أن تحمل غير معاني الإخضرار والانبعاث والتجّدد، الكلمات البيّاتية تحارب العقم والجدب بكلِّ صورهما ومعانيهما، وتبثّ في نفس القارئ المتلقّي روح الإيمان بالحياة، روح الأمل بالانتصار، انتصار الحقّ والإنسان والكلمات البيانية الّتي تتصف بهذه الصفات الحياتيّة- والانبعاثيّة تمثّلها عبارته: “ساقية خضراء” في قصيدته: (موّال بغدادي)، إذ لا ترمز هذه العبارة إلى اخضرار الحياة في بغداد واخضرار أمل الشاعر وحسب، وإنّما تعمل في مضمونها الاشارة إلى اخضرار الكلمات، فلا يستطيع الشاعر أن يعبّر عن أمله الأخضر بمجيء الخصب والنّماء، وهو يعيش في الغربة حال العقم إن لم تنبض في كلماته روح الاخضرار. فالكلمات الخضراء تبشّر بحياة خضراء، أمّا الكلمات التي اعتراها اليُب، فلا يمكن أن تعبّر سوى عن اليأس والانهزام والموت، لا يمكنها أن تحمل معاني الانبعاث والتجدد. وبما أننا نتحدث هنا عن دلالة الساقية الخضراء على المستوى المضموني فلا بد لنا من أن نشير إلى انسجام صورة الحركة في الساقية (الجريان- الخرير) مع الانسياب الأسلوبيّ والايقاعيّ في القصيدة، إذ إنّها تمتاز بأسلوب رشيق يخلو من العقدة الصياغيّة والمعاني الغامضة، فحيّ الرمزيّة فيها واضحة الدلالة، لا تحتاج إلى جهد لتفهم، لأنّ الّلغة البياتيّة بشكل عام تحمل رسالة الحياة إلى القارئ، ولهذا وجب الابتعاد عن الغموض في المعاني والتعقيد في الأسلوب بلا استثناء، ففي الجمل الأولى يستخدم الشاعر أسلوبيّ النداء والإستفهام:
(بغداد يا مدينة النجوم/والشمس والأطفال والكرومْ/ والخوف والهموم/ متى أرى سماءَكِ الزرقاءْ؟/ تنبض باللهفة والحنينْ/ متى أرى دجلة في الخريفْ؟/ ملتهبًا حزين)( ). وظيفة النداء في هذا المقطع هي لفت انتباه المنادَى (بغداد) ليوصل الشاعر المنادِي غايته إليها، والغاية كامنة في السؤال الذي يطرحه عليها، ففي السّؤال يريد الشاعر البيّاتي معرفة الزمن الّذي يستطيع فيه أن يرى سماء بغداد الزرقاء. فقد أتعبته الغربة وأنهكت قواه، لهذا لجأ إلى النّداء البعيد والسؤال، ليعبّر عن شوقه وحنينه إلى مدينته الحبيبة ورغبته الجامعة بالعودة العاجلة. فالنّداء والإستفهام هنا بسيطان ومتداولان في حياتنا اليوميّة والمعاني فيهما واضحة وصريحة، وهذا هو الانسياب الأسلوبيّ الّذي عنيته، أمّا الانسياب الايقاعي فيتمثّل بتفعيلة الرجز، وبحر الرجز هو أكثر البحور الشعريّة إيقاعًا، وهذه الميزة الايقاعيّة في الرجز قد أشرنا إليها في دراستنا آنفا ولكن لا بدّ لنا من أن نشير إلى أنّ كثرة الجوازات في تفعيلة الرجز:
/0/0//0= //0//0- /0///0- ////0، هي الّتي ساهمت في وجود الانسياب الايقاعي في القصيدة بالإضافة أيضًا إلى قصر الجمل: تغسله الأمطارْ/ في عتمة النهار، وكذلك التوازن: لأجل عينيك أنا شريد/ لأجل عينيك أنا وحيد؟ وكذلك التنوّع في الرويّ: (انجوم- الكروم)- (الحنين- الحزين)- (الزرقاء- البكاء- خضراء)- (الطغاة- العراة)- (البعيد- شريد- وحيد)، كلّ هذه العناصر الايقاعيّة مجتمعةً ألّفت إيقاعًا انسيابيًّا في القصيدة تطرب له روح المتلقّي انسجامًا مع الحال التفاؤلية الّتي عبّر عنها الشاعر البيّاتي، وهو ينظر إلى بغداد من منفاه من عالم التّشرّد والضياع، فبدت مدينته الحبسية غنيّة بعناصر الجمال الطبيعي، بدت ذات مشهديّة سحريّة تسحر العيون وتأسر القلوب، فسماؤها في الليل مزيّنة بالنّجوم، وفي النّهار هي زرقاء إشارة إلى صفائها وسطوع شمسها، وهذه المشهدية الرائعة تشير إلى الصفاء العقلي والنفسي والروحي الذي يجده الشاعر في كنف بغداد، إذا ما عاد إليها، فهو في مدينته الحبيسة لا يعرف الكآبة أو الحزن، لأنّ الهموم تنجلي عن نفسه كما تنجلي الغيوم عن السماء فتصبح زرقاء صافية، أمّا في مدن المنفى فينعكس سواد السماء سواداً على نفسه، فيعيش الكآبة والحزن وكذلك ينعكس الصقيع في مدن المنفى صقيعًا على روحه وشعوره ما يؤدي إلى نفوره من الحياة الباردة الجليدية في عالم الغربة، وشوقه وحنينه الجارفين إلى بغداد مدينة الشعاع والدفء. الشاعر البيّاتي في قصيدته (موّال بغدادي) يعبّر عن تفاؤله بنجاته من بين أنياب وحش الغربة عائداً إلى بغداد ليستقر على أرضها ويستمتع بجمالها، ولولا التفاؤل في نفسه لما رأى مدينته ساقيةً خضراء فاللون الأخضر في الساقية يرمز إلى الحال التفاؤلية التي يعيشها الشاعر البيّاتي في المنفى، وهذا أمرٌ بديهيٌّ، لأنه شاعرٌ ثائرٌ ومتمرد، والقنوط لا يوافق الثّورة والتّمرّد اللذين يسعيان إلى لتغيير في ذات الإنسان الفرد حينًا، وفي ذات المجتمع حينًا آخر، الثّورة والتّمرّد روحهما التفاؤل، فهو يعطيهما الزخم والقوّة لهذا جعل الشاعر البيّاتي الّلون الأخضر إشارة شعري إلى تفاؤله بالعودة إلى أرض الوطن والتّحرّر من سجن المنفى، فقنوطه يعني استسلامًا وهزيمته، لهذا وجب عليه أن يكون متفائلاً في هذه القصيدة، وفي عموم شعره أيضًا، لأنّ التفاؤل يعطيه قوّة النّضال وبدونه يصبح كالجنديّ الذي يقاتل أعداءه في المعركة بدون سلاح. الشاعر البيّاتي يعبّر عن تجربته في الحياة تعبيراً صادقًا، فلا يمكن له أن يعتنق الايديولوجيا الثوريّة النّضاليّة ويتّخذها منهج حياة، ويكتب في الوقت نفسه شعراً يعبّر عن اليأس ويؤسس في المجتمع للهزيمة. أنّه في كتابته الشعريّة يوافق الواقعيّة التعبيريّة (الّتي تقول أن الأدب يعكس واقعية التّجربة، ويعيد صياغتها كما يفهمها شخص واحد موهوب يقوم بالتّعبير عنها على شكل خطاب يمكّن الآخرين من فهمه وكأنّه حقيقة واقعية( ).
ولكنّ الواقعيّة التّعبيريّة البيّاتيّة لا تخلو من الرمز الّذي يغني النّصّ بالدلالات والإشارات والإيحاءات، وهذا ما نلحظه في القصيدة السابقة (موّال بغدادي)، حيث تبدو لغتها واقعيّة وبسيطة من حيث المفردات ومن حيث الأسلوب، فهي لغةٌ قريبة من خطابنا اليومي المتداول بيننا في حياتنا الاجتماعيّة، بيد أنّ الرمزيّة تتمثّل فيها بعبارة: (ساقية خضراء)، هذه العبارة الّتي أتاحت للشاعر التّعبير عن أفكاره البعثيّة الّتي تثور على العقم وتدعو إلى التجدّد والانبعاث اللذين يتمثّلان باللون الأخضر في العبارة السابقة:
إنَّ واقعية الشاعر البيّاتي في كتابته الشعريّة تسببها الايديولوجيا السياسيّة الّتي يؤمن بها، فما كان باستطاعته أن يقيم التناقض بين عقيدته الثوريّة النّضاليّة وموضوع قصيدته، ما كان باستطاعته أن يقدم لنا في عبارته الشعرية لغةً غامضة إلى حدّ الابهام والتّعقيد، لأنّ اللغة- المبهمة المعقدة تفقد القدرة على حمل الرسالة الحياتيّة والاجتماعيّة وإيصالها إلى القارئ، لهذا السبب جاءت الرمزيّة في اللّغة البياتيّة واضحة، إذ يستطيع القارئ أن يفهمها في السياق الشعريّ، فهي رمزيّة وظَّفت للتّعبير عن قضايا الإنسان والمجتمع، وُظِّفت من أجل الواقعيّة التعبيريّة الّتي ترتبط بالحياة ارتباطًا وثيقًا، ترتبط بالحقيقة وتعمل على نقلها من دون مراواغة ومخادعة أو تزييف. فالرمزيّة في الّلغة البيّانيّة جاءت لخدمة الواقع ولم تأت لمغايرته أو للإنفصال عنه، فحتّى الرمز الأسطوريّ قد ربطه البيّاتي بالحياة وأفرغه من مضمونه الميثولوجيّ وسكب فيه معاني واقعية، ولهذا يمكننا تصنيف البيّاتي شاعراً واقعيًّا رغم أنّه استخدم الرموز في شعره استخداماً ملحوظًا، واعتمد لغة شعريّة جديدة تمتاز بالتّلميح والإشارة.
ومن عبد الوهاب البيّاتي ننتقل إلى أدونيس الشاعر الذي يُعتبر رائداً بارزاً من روّاد الحداثة الشعريّة، ومن الذين أسهموا اسهامًا كبيراً في تفعيل حركتها، ومن الّذين استخدموا الرمز الشعريّ- بنوعيه الواقعي والأسطوري- استخدامًا متنوّعاً، وفي موضوعات كثيرة، بغية الوصول إلى غاية شتّى.
ومن بين الرموز الّتي استخدمها اللون الأخضر الّذي رمز في شعره إلى الحياة والانبعاث، لأنّ هذا اللون هو في حقيقته نقيض العقم والجدب ونقيض الموت، وأدونيس هو شاعرٌ بعثيّ في تعبيره الشعري، وأعني بهذه العبارة أنّه يؤمن بفكرة البعث ويعبر عنها، ويدعو إلى تحقيقها علميًّا وحضاريًا ولغويًا وإنسانيًّا، ولهذا شُغف باللون الأخضر واتخذه رمزاً للتعبير عن فكرة البعث في قصائد كثيرة، إنّه يرمز عنده إلى الأمل والتفاؤل، يرمز إلى التّغلّب على قوّة الجدب والبوار والموت. اللون الأخضر يعطي أدونيس الثقة القوية بالذات، يعطيه العزم الشديد، ويجعله يمشي على درب الحياة متفائلاً ومؤمنًا بحتميّة النصر على الجراح والألم: أنا دربي خضراء لوّنها قلبي وغطّى جراحتها تقبيلي( ).
إنّ اللون الأخضر في هذا البيت الشعريّ يرمز- كما أشرنا سابقًا- إلى التفاؤل، يرمز إلى الخطوة الواثقة إلى الحياة الخضراء الزاهية الّتي يمشي الشاعر على دربها.
فالدرب الخضراء هنا ليست كأيّ درب أخرى من حيث الدلالة الرمزيّة، فهي تعني المسيرة المنتجة والمبدعة، مسيرة العطاء والعلم والنّجاح، مسيرة التّجدّد والتطور، أمّا الدرب السوداء، فهي تعني الجهل وفقدان الرؤية، تعني الضياع والقلق على المصير في قلب المسيرة، وبهذه المقابلة بين الدرب الخضراء والدرب السوداء تتجلّى لنا الوظيفة الرمزيّة التي أدّاها اللون الأخضر في الشاهد السابق، فهي وظيفةٌ مكّنت الشاعر من التعبير عن تفاؤله بالمستقبل الذي يمشي، فهو- لا ريب- مستقبلٌ أخضر زاهٍ، مستقبلٌ متجدّد ومتطوّر، مستقبلٌ حافلٌ بالانتاج والعطاء، لأنّ الدرب التي تُفضي إليه هي دربٌ خضراء. إنّ الدرب الخضراء توصل من يمشيها إلى الغايات الخضر إلى المواسم والغلال، والدرب السوداء توصل من يمشيها إلى الفشل، لأنّ الرؤية تنعدم عليها، إنّها توصل إلى حيث الجهل والتخلّف والضياع والردى. إنّ أدونيس حين أضفى على دربه صفة الاخضرار: (أنا دربي خضراء)، أراد أن يعبّر عن تفاؤله بمسيرته، وعن ثقته بخطوته التي يخطوها في سعيه إلى غاياته.
وكذلك أراد أن يشير إلى ارتياحه وانبساط نفسه وسروره، فإذا كانت الدرب خضراء، فإنّا حتماً ستوصل من يمشيها إلى المواسم والغلال إلى الحصاد والجنى. فالإخضرار يعني الحياة والنماء، يعني البراعم والتفتّح، ولهذا السبب المهم وجد الشاعر نفسه في سرور وطمأنينة، وهو يمشي على الدرب الخضراء، صار من دون أحزان ولا آلام: (وغطّى جراحها تقبيلي). كانت درب أدونيس من قبل مليئةً بالجراح التي تشير في هذه العبارة الشّعريّة إلى الصعاب، والعثرات، والعذاب، والم، كانت درباً مزروعةً شوكاً لكن قلبهُ المتفائل المليء حبًّا وخيراً، قلبهُ الأخضر النابض بالحياة والأمل جعلها خضراء، إذ أضفى عليها خضرته ولوّنها بلونه: (أنا دربي خضراءُ لوّنها قلبي وغطّى جراحها تقبيلي)( ). إنّ القلب في هذا الشاهد الشعري الأدونيسيّ يملك قدرة بعثيّة، يملك قوّة الاخصاب، فهو كعشتار الّتي (تقوم بواجب آلهة الحبّ والخصب والرفاهية والإزدهار)( ). هو قلبٌ مفعمٌ حياةً وطموحًا، وليس غريباً أن يمتاز بهذه المزايا، ويملك هذه القدرات، لأنّه قلب شاعر استثنائي بعثي يؤمن بفكرة البعث ويطلب تحقيقها في أفعال الناس، فأدونيس صحيح أنّه لم يستطع أن يحقق هذه الفكرة في الحياة والمجتمع، بيد أنّه حققها في اللغة والشعر.
والشاعر الّذي يبعث اللّغة من موتها وحطامها، ويبثّ في الشعر روح الحياة والتجدّد والحداثة، هو شاعرٌ يملك قلبًا استثنائيًّا قادراً على إخصاب الدرب وجعلها خضراء.
إنّ قلب أدونيس في البيت الشعري السّابق يبدو نبع الحياة ومصدر الاخضرار والاخصاب، اذ استطاع أن يلوّن درب صاحبه باللون الأخضر، ويجعلها دربًا حيّةً بعد أن اعتراها العقم والجدب، أنّها كانت من قبلُ درب الموت، فصارت بقوّة الاخصاب الكامنة في القلب الأخضر، (قلب الشاعر)، درب الحياة، صارت درب السعادة والأمل بعد أن كانت درب الجراح والألم واليأس، وفي سياق هذا التحليل الأدبي تتبيّن لنا الوظيفة الرمزيّة التي يؤدّيها اللّون الأخضر في التعبير الشعريّ الأدونيسيّ، فهي وظيفة إبداعيّة اخصابيّة قد أخصبت اللغة الأدونيسيّة في البدء، ثم رمزت إلى إخصاب الدرب وإخصاب مسيرة الشاعر، وهذه القدرة الوظيفيّة الكامنة في اللّون الأخضر هي قدرة خارقة، لأنّها نابعة من القلب الذي يُعتبر السبب المباشر لحياة الإنسان، فإذا مات القلب مات الإنسان. فالدرب الخضراء في البيت الشعري السابق لم تكتسب اخضرارها من خيال الشاعر ومن ابداعه، بل اكتسبته من قلبه، وهنا نجد إشارة من أدونيس إلى أنّ الذي يريد أن يمشي دربه إلى أهدافه البعيدة والعظيمة بدون قلب يزوّده بالإيمان والثقة والصبر ينكفأ في بداية المسيرة لأن الذي يسير ولديه قلبُ قانطٌ وميت، تموت لديه الإرادة، وتغدو الدرب أمامه سوداء مزروعة بالأشواك والجراح. إنّ قلب أدونيس ليس آلة تضخ الدم في شرايينه وحسب، بل هو طاقة فاعلة تمنحه الأمل والطموح، وتحثّه على المضيّ إلى الحياة الكريمة، هو طاقة فاعلة خلاّقة تلوّن دربه باللون الأخضر لون التفاؤل والنماء، مبشّرةً إيّاه بالمستقبل الأخضر المليء بالمواسم والثمار بعد مسيرة جهادية طويلة على الدرب الخضراء، درب الحياة، إنّ الدرب هنا لا تعبر عن مسيرة الشاعر الذاتيّة وحسب، وإنّما تعبّر عن مسيرة الإنسان، هي تبشّرنا بمستقبل زاهر سوف تصل إليه الآدمية جمعاء بعد حياة العقم والجدب التي لم تنتج سوى الحروب والقتل والخراب، تبشرّنا بالانتاج العلمي والازدهار الحضاري، ولهذا تُعتبر الصورة الشعرية في هذا الشاهد الأدونيسي حصراً صورة تكمن فيها روح الحداثة، إذ لا تنحصر في إطار زمنيّ أو مكانيّ، بل هي مفتوحة على الزمن والمكان معًا، وتعبّر عن تفاؤل الانسان بالمستقبل أينما وُجد في أي زمن وعلى أية أرض. فالحداثة توجب على القصيدة ألاّ ترتبط بصاحبها ارتباطاً ذاتيًّا، لأنها تموت بموته، هي ترتبط بصاحبها فقط إذا كان يمثّل الإنسان معاناةً، وتجربةً، وشعوراً، وألماً، حينئذٍ تُكتب لها الحياة المستمرة، فتخلد في ذاكرة الأجيال المتعافية. الحداثة توجب على القصيدة أيضاً ألا ترتبط بزمن معيّن، لأنّها تموت بانقضائه. إنّها إذا ارتبطت بزمن تتجرّد من روح الشعر والإبداع، وتصير نصّا يؤرخ حقبةً وينفصل عن المستقبل، وتنقطع علاقته بحركة الزمن الجديد، ولهذا اعتبرنا أنّ الدرب الخضراء في الشاهد الشعري الأدونيسيّ السابق صورةٌ شعريّة تنبض فيها روح الحداثة وروح الإبداع، لأنّها ترمز إلى التفاؤل والأمل، إلى الخصب والنماء، إلى التجدد والحياة في أي زمن أو أيّ مكان، لأنّها تبشر الشاعر خاصة والإنسان عامة بخصوبة الأيام الآتية التي ستكون أيامًا مزهرة ومثمرة، وغنيّة بالمواسم والغلال، اخضراراً الدرب في العبارة السابقة، هو اخضرارٌ في حركة الإنسان الحضارية، اخضرارٌ في سعيه وعمله وكفاحه، اخضرارٌ في مسيرته العلمية والأدبية، اخضرار الدرب هو اخضرار الكلمة الشعرية، لأنّ الدرب الخضراء هي درب الشاعر: (أنا دربي خضراء لونها قلبي وغطّى جراحها تقبيلي)( ). فالشاعر الّذي تكون دربه خضراء لا بدّ من أن تكون كلمته خضراء أيضاً، لا بدّ أن يكون لديه التعبير الشعريّ الأخضر الذي تُنتجه خصوبة اللغة، وخصوبة الخيال، إن الدرب الخضراء هنا تأخذ دلالاتها من صاحبها الذي يمشي عليها، وهو الشاعر، فلو كان من يمشي عليها فلاّحًا لكانت انتفت دلالتها الرمزيّة، وصار اخضرارها تقليديًّا مألوفاً، يعني اخضرار الأرض والزرع، يعني الحصاد الحقيقيّ والثمار الحقيقية، فالعلاقة بين الأرض الخضراء والشاعر لها دلالاتها الرمزيّة، ولها وظيفة شعريّة واحدة في سياق النصّ؟ فالإخضرار في درب الشاعر يعني الإخضرار في كلماته وقصائده، وهكذا يحمل اللون الأخضر في الدرب الخضراء معاني خفية لا يمكن إدراكها إلا بواطسة الفهم العميق للغة الرمزيّة الجديدة التي تُبنى عند الشعراء المحدثين على أساس التّلميح والترميز. فالقارئ إذا أراد أن يفهم القصيدة الحديثة عليه ألاّ يكتفي بأن يفهم الكلمات وحسب، بل عليه أن يفهم اللّغة فهمًا كليًّا، وهي تؤدّي في عباراتها، ولهذا نجد الدرب الخضراء في سياقها اللغوي تجاوزت رمزيّتها ضمن حدودها تجاوزت رمزيتها الكامنة في لفظها وصارت على علاقة رمزية مع الشاعر. وننتقل إلى شاهد شعري جديد يبدو فيه حبّ أدونيس حبًّا شاملاً مشقًّا، حيًا يهدي النّاس الحيارى كالمنارة الخضراء: (أنابيب الضوء الذي لا يُضاء: قلقي شعلة على جبل النية وحبّي منارةٌ خضراء)( )، رمزيّة اللون الأخضر في هذه العبارة ترمز إلى الاخضرار العاطفي الوجداني، إلى اخضرار الشعور الانساني عند أدونيس، أما في الدرب الخضراء فيرمز اللون الأخضر إلى اخضرار الأمل والكلمات، وبالمقارنة بين الدرب الخضراء والمنارة الخضراء عند أدونيس يتبيّن لنا الفرق بين الوظيفتين الرمزيتين اللتين أدّاهما اللون الأخضر في العبارتين، ففي العبارة الثانية يبدو حبُّ أدونيس مفتوحًا على العالم لا تحده حدود، حبًّا يرفض أن يكون له وطنٌ أو قومية أو انتماء سوى الإنسان، حبًا نوارنيًّا مسخراً لخدمة الحياة، هو يشبه المنارة الخضراء التي ترسل نورها الأخضر عبر الأفق والمدى المطلق، فتبدد الظلمات التي تمنع الضائعين الحائرين من الهداية والرؤية. حبُّ أدونيس وفق هذا التحليل حبٌّ مجاني مجرد من أية غاية هو بمثابة النّور الّذي يصل إلى الناس كفاة من دون أن تمنع وصوله حدود وحواجز، هو حب غايته الوحيدة أن يهدي الإنسان المتخبّط في مستنقعات الجهل والأحقاد والحروب سبل الخير والرشاد، عنايته جمع أبناء الآدميّة على النّور والهداية بعد أن فرّقهم الظلام والضلال، وهكذا تبدو لنا هنا رمزية اللون الأخضر رمزية تحمل معاني السلام والحب والإخاء بين الناس كافّة. إنّ أدونيس في عبارته الشعريّة السابقة يدعو إلى الإخاء الإنساني، هو يؤمن بأنّ كل الأمم والشعوب هم إخوة في الأصل الآدمي، ولهذا سخر حبه لهم جميعاً، سخره لأجل جمعهم وتلاقيهم على الحبّ والأخوّة… إنّه لا يكره أحداً، بل لا يعرف معنى الكره والعداء، من قلبه يتدفق الحبُّ عميمًا، ينتشر في المدى المطلق كما ينتشر النور من المنارة الخضراء: (وحبّي منارةٌ خضراء).
النّور الأخضر في هذه العبارة الشعرية يرمز إلى الحبّ العميم المبثوث عبر المدى، إلى الحبّ الّذي ينير درب الإنسان السائر في ظلمات الجهل ومتاهات الصراع العرقي والدينيّ ولا يعرف إلى النّجاة سبيلاً، فمنارة الحبّ وحدها تمحو ظلمات الجهل وتجمع الناس كافة على الاخاء بنورها العميم، وحدها تنشر نور الحب عبر المدى، فيبدد البغضاء ويزيل أسباب العداء والصراع. منارة الحبّ عند أدونيس هي الحلم والغاية في عصر يغشاه ليل العبودية والاستبداد والطغيان، فهو يرى أن الشرّ لا يقاوم بالشرّ، بل يقاوم بالخير، وكذلك الكره والحقد يقاومان بالحب فالشرّ يصبح أكثر انتشاراً وأشدّ خطراً إذا قاومناه بشرّ مثله، وكذلك مقاومة الحقد بالحقد تشعل الحروب وتدمّر الحياة، لهذا اختار أدونيس الوسيلة الفضلى الناجعة لمقاومة الشرّ والحقد المنتشرين بين الناس، اختار الحبّ الذي يبني صرح السلام، والمجتمع الانساني البريء من علّة التقاتل والتشرذم، اختار الحبّ الأخضر سلاحًا لمقاومة الشرّ والحقد من أجل التأسيس لمستقبل أخضر ينعم فيه الناس بالإزدهار والرفاه والطمأنينة والسلام. سلاح الحبّ عند أدونيس صونٌ للحياة وضمان للمستقبل، أما سلاح الشر فيدمّر الحياة ويقتل كل أمل بالمستقبل. فالإنسان لا يمكنه أن يستمرّ في درب الرقي والتّقدّم والحضارة إلا بالحبّ، وانطلاقاً من هذه المعاني الوجدانيّة الصافيّة الساميّة نفهم لماذا جعل أدونيس حبّه منارة خضراء، إنّه أراد أن يكون الحبّ منتشراً بين النّاس كافة تجمعهم على الأخوة، ويهديهم سبل الرشاد والعلم. إنّ الشاعر يبدو في الأبعاد الخفيّة الكامنة في الشاهد الشّعريّ السابق ساخطاً على الحياة الرديئة الّتي يحياها النّاس في التباغض والتقاتل فاعتمد سلاح الحبّ باعتباره الوسيلة الوحيدة التي يدافع بها عن القيم الإنسانية والحضارية، قيم النبل والأخوّة، قيم الحياة العظيمة.
الحبّ عند أدونيس هو الّذي يشفي الإنسان من داء التباغض والجشع، هو الدواء الفعّال النّاجع للعلل الاجتماعية والسياسيّة التي تعرقل مسيرة الانسان الحضارية في الحياة، بدون الحبّ لا يمكن أن تُبنى صروح الأخوة والفكر والحضارة، وقد أدرك الشاعر هذه القوّة الهائلة في الحبّ فأراد توظيفه في خدمة الإنسان والحياة فجعله حبًا شموليًّا يعمّ الآدميّة جمعاء، إذ شبّهه بالمنارة الخضراء: (وحبّي منارةٌ خضراء). ونلاحظ هنا أنّ الدلالة الرمزية الكامنة في اللون الأخضر لا ينفصل عن السياق النصيّ الذي وردت فيه، بل هي نتيجة بهديهية لاتحاد كلمة (الخضراء) مع الكلمات التي تجاورها. فصفة الاخضرار أعطت المنارة في السياق النصيّ معنى الحياة والتجدّد والخصوبة، فصار نورها الأخضر يحمل معنّى رمزيًّا جديداً، إذ لم يعد يحمل معنى الهداية وحسب، بل صار يحمل معنى البشارة إلى الإنسان، معنى البشارة بالحياة الخضراء والمستقبل الأخضر. النور بلونه الأصفر المألوف يبدد الظلام، أما النور بلونه الأخضر فهو خروج عن التقليد، لأنّه يعني انتشار الخصب والنّماء، ، ويرمز إلى المواسم الغنيّة بالعطاء الإنسانيّ في مجالات العلم والفكر والحضارة، وكذلك أعطت المنارة الخضراء الحبّ معنى الشمول ومعنى الحياة والتّجدد الكامن من صفة الاخضرار، فصار حبّ أدونيس شموليًّا إنسانيًّا لا يستثني أحداً أو شعبًا أو أمة، صار حباً أخضر يجعل الموت في المجتمع الآدمي حياةً والعقم ولادة جديدة، وهكذا يتبيّن لنا أنّ اللغة (تكون كلاً واحداً، إنّها نظام، وقيمة كلّ عنصر لا تتعلق به بسبب طبيعته أو شكله الخاصّ ولكن بسبب مكانه وعلاقاته ضمن المجموع)( )، إنّ اللون الأخضر في العبارة الشعرية السابقة له علاقة وثيقة وموضوعيّة مع المنارة والنّور، وكذلك مع الحبّ. فالحبّ يعيد إلى المجتمع الآدميّ الخصب والنّماء بعد أن قتله العقم والجدب، فيصير مجتمعاً حياً منتجات وذا عطاء مستمرّ، والنور الأخضر المشعّ ينشر الحبّ بين الشعوب ويجعله حبًّا عميقًا، خلاّقا، يستطيع أن يجمع الشعوب المتقاتلة والمتنافرة على معانيه السامية، معانيه التي تدعو إلى نبذ الحقد والعداء والعمل بدأب وتفانٍ من أجل صناعة السلام. فكما النّور الّذي تنشره المنارة عبر الأفق، عبر المدى لا تحدّه حدود، فهو يصل إلى النّاس كافة من دون تخصيص أو تمييز، كذلك الحبّ الأدونيسيّ يكتسب هذه الصّفة، فهو يستطيع أن يتجاوز كلّ الحدود العرقيّة والدينية والسياسية، ويصل إلى الإنسان، وننتقل من الحديث عن رمزيّة اللون الأخضر في هذه القصيدة إلى الحديث عن رمزيّته في قصيدة أدونيسيّة أخرى، حيث يرمز فيها اللون الاخضر إلى اخضرار اللغة، وأمرٌ بديهي من أدونيس الذي يؤمن بفكرة البعث، ويسعى إلى تحقيقها في الحياة والمجتمع أن يعبّر عن إيمانه باللغة الخضراء، ويستخدمها في كتابته الشعرية، إذ لا يمكنه أبداً أن يصل إلى أهدافه البعثيّة باللغة الصفراء، يقول أدونيس: (ظلّ ملأت به أرضي يطول، يرى، يخضرّ، يحرق ماضيه ويحترقُ/ مثلي ونحيا معًا نمشي معًا وعلى شفاهنا لغةٌ خضراءُ واحدةٌ لكن أمام الضحى والموت نفترق)( )،
اللّغة الخضراء في هذا الشاهد الشعريّ ترمز إلى اللّغة الحيّة الّتي تمنح الشاعر قدرة التعبير عن الحياة والتجدّد، عن الولادة والخصب والنماء. فاللون الأخضر في دلالته الرمزيّة العامة يعني الحياةن (الأخضر هو لون مملكة النبات معيداً اثبات ذاته من المياه المتجددة والطاهرة التي تدين إليها المعموديّة بكلّ معناها الرمزي. الأخضر هو صحوة المياه الأوّلية، الأخضر هو يقظة الحياة)( ).
وانطلاقاً من هذا التّعريف الّذي يظهر الدلالة الرمزية التي يحملها اللون الأخضر، يتبيّن لنا أن اللغة الخضراء هي اللغة الحية عند أدونيس، هي اللغة التي تستطيع أن تصوّر الحياة وتخاطبها، وتعبّر بقوة عن قضاياها ومشكلاتها وإلّا تكون لغة صفراء لغةً ميتة لا تستطيع أن تحمل رسالة الشاعر البعثي، والبعث في حقيقته هو سرّ الحياة وروحها، وهكذا تظهر لنا العلاقة الوثيقة بين فكرة البعث التي طالما عبّر عنها أدونيس في شعره واللغة الخضراء الّتي اعتبرها لغته الخاصة.
فاللغة الخضراء وفاقًا للدلالة الرمزية التي يحملها اللون الأخضر، تستطيع أن تمنح الشعر روح الحياة والقدرة على البقاء والخلود. فأدونيس لا يمكنه أن يكتب بلغة اعتراها اليباس، وهو يُعتبر من طليعة الشعراء العرب البعثيين، فحتى يعبر عن فكرة البعث التي يؤمن بها كان لا بدّ له من أن يكتب شعره بلغة حيّة جديدة تناسب نظرته إلى الوجود والحياة، تناسب أهدافه التي يسعى غليها، كان لا بدّ له من أن يرفض اللغة السلفية لأنّها لا تملك القدرة على مخاطبة الحياة الجديدة، وتوافقًا مع هذا الرأي يقول أدونيس: (ونمضي صدورنا إلى البحر، وفي كلماتنا يرقد نحيبُ عصرٍ آخر، وكلماتنا لا وريث لها)( )، الكلمات الموصوفة في هذا الشاهد الشعري يرفض أن يرثها أحدٌ، لأنّها كلمات بائدة تنتمي إلى لغة بائدة، تنتمي إلى لغة صفراء اعتراها اليباس، فماتت، ما جعل الشاعر يبحث عن لغة أخرى تتصف بصفة الديمومة والخلود، فاهتدى إلى اللغة الخضراء.
إنّ اللغة الخضراء عند أدونيس هي لغة حيّة، ولديها القدرة على حمل معاني الحياة، ووصف مشكلاتها، وطرق قضاياها، وأمرٌ بديهيّ أن تحمل اللغة الخضراء عند أدونيس هذه الدلالة الرمزية، لأن (الأخضر هو لون الماء)( ).
والماء وفق التحليل الموضوعاتي هو المادّة الأوليّة الّتي تُصنع منها الحياة، هو السبب المباشر والرئيس للإخضرار والنّماء والتّجدد، وهكذا تتجلّى لنا الأبعاد الرمزيّة الّتي رمى عليها الشاعر من خلال اللغة الخضراء. انّه أراد أن يلفت انتباه المتلقيّ إلى أن اللغة التي يستخدمها الشعراء وأهل الكلمة غير مؤهلة لمواكبة العصر ومخاطبة الحياة، غير قادرة على أن تحدث في الحياة الثقافية أيّ تجدّد أو تحديث، لهذا أعرض عنها باحثًا عن لغته الخاصّة الّتي تمتاز بصفة الاخضرار. فاللّغة الخضراء تُنتج شعراً أخضر وثقافةً خضراء، لأنّ اللغة هي المادّة الأوّلية التي يُصنع منها الشعر والفكر والثقافة، فهي بمثابة الماء الذي تُخلق منه الحياة فانعدام اللغة الخضراء يعني موت الشعر والفكر والثقافة، يعني بقاء اللغة الصفراء التي تعجز عن اإنتاج الأدب الجميل، ونحن في هذا السياق التحليليّ نستطيع أن نقيم مشابهة بين اللغة والشجرة، إذ إنّ الثّمر الطيّب الشهيّ تنتجه الشجرة الخضراء، أما الثمر الرديء الذي يفتقر إلى النّضارة واللّذة، فتنتجه الشجرة الصفراء، وهذه النتيجة تتوافق مع سنة الله في خلقه، مع سنة الله الذي جعل من الماء كلّ شيء حيّ، فلولا الماء لما كان هناك حياة، أو خضرة: ﴿ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض محضرّة﴾( )
إنّ الأرض الخضراء في هذه الآية القرآنية الكريمة ترمز إلى الحياة والتجدّد، فالأرض الميتة تحيا وتتجدّد بالماء، فينظر الانسان إلى خضرتها، فيولد في نفسه الأمل بالمواسم الوفيرة والغلال الكثيرة ما يؤدي إلى شعوره بالطمأنينة وعدم الخوف من الجدب والعقم واليباس وأنا أتيت هنا بهذا المثال القرآني، لأبيّن أنّ اللون الأخضر عند الله هو لون الحياة والتجدد والخيرات، وكما ورد ذكر اللون الأخضر في القرآن الكريم، كذلك ورد ذكره في الكتاب المقدس: (في اليوم الثالث بعد إخراج النور من الظلمة، بذر الربّ في الأرض بذور الأعشاب والنباتات الخضراء)( ).
إنّ اللون الأخضر وفقًا لهذا النص المأخوذ من الكتاب المقدّس يشير إلى أنّه أوّل ألوان الخلق، وهذا يؤكّد أهميّته الحياتية، أهميته في خلق عناصر الحياة التي تتمثل بنصّ الكتاب المقدّس بالنباتات الخضراء.
وانطلاقاً من المعنى الّذي يؤدّيه اللون الأخضر في القرآن الكريم والكتاب المقدّس يتبيّن سبب ولع الشعراء العرب المحدثين باستخدامه في شعرهم، فهو منحهم القدرة التعبيريّة عن أملهم بولادة الحياة، بعد أن رأوا الموت قد أصاب كيانهم الاجتماعيّ والثقافيّ والحضاريّ والانسانيّ، فأحسّوا بالحزن والألم والقنوط. فاللون الأخضر أعاد إليهم الأمل بولادة الحياة الجديدة التي تشمل قضايا كيانيّة كثيرة، ومن بينها قضيّة اللغة.
فاللغة هي شخصية المرء وهويّته، هي سمته القوميّة والحضاريّة، لهذا فإنّ عقمها يؤدّي لا محالة إلى شعوره بالعقم في كيانه العامّ، وهذا المعنى يفسر لجوء أدونيس إلى إكساب لغته صفة الإخضرار، فهو يعاني معاناة شديدة من العقم الشديد الذي أصاب رحم اللغة العربيّة فما عادت قادرة على إنجاب المعاني الجديدة والجميلة، انّ أدونيس يتوق إلى الخلق الجديد في اللغة، لقد سئم من اللغة الصفراء البليدة التي لا تستطيع الحمل والانجاب، إنّ مثال اللغة كمثال الأرض، فالاخضرار في كليهما يحمل دلالة رمزيّة واحدة، فاللون الأخضر (هو لون الربيع والتجدّد والأمل، يرتبط- وخصوصاً الناضر منه- بالنماء، ويرمز للحياة والوفرة والخير)( ). وقد أراد أدونيس أن تحمل لفتة كلّ هذه المعاني الرائعة حين أكسبها صفة الاخضرار، أرادها لغةً تنبض فيها روح الخصب والحياة فالتقى مع معنى الخضرة في القرآن الكريم والكتاب المقدّس، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن (اللون الأخضر قد ارتبط بعدة أساطير قديمة، تعكس محاولات بدائيّة للبحث عن علاقة الخضرة بالحياة والخصوبة والخلود، فعندما لاحظ البدائيّ ما تقدمه الأشجار الخضراء له ولغيره من الكائنات، ورأى أنها تمدّه- وتمدّ غيره- بأسباب الحياة، نظر إليها نظرة تقديس، قدّس فيها خصوبتها وخضرتها( ). إنّ هذا القول الّذي أورده ابراهيم محمّد علي في كتابه (اللون في الشعر العربي قبل الإسلام) يشير إشارة بالغة الأهمية إلى أنّ رمزيّة الحياة والخصوبة في اللون الأخضر رمزيّة ذات جذور أسطورية موغلة في التايخ القديم، وليست رمزيّة طارئة ومبتدعة فالشعراء العرب المحدثون وظّفوها في شعرهم توظيفًا جديداً يرتبط بعصرهم، ويعبّر عن حياتهم ومشكلاتهم، وهذا الفعل ليس فعلاً سيِّئا، بل إن الشاعر المبدع الّذي يريد أن يكتب شعراً إبداعيًّا يُكتب له البقاء، لا بدّ له من أن يعود إلى التاريخ الحقيقيّ والأسطوريّ، لكي يصير أكثر غنىً في المعرفة والثقافة، وأكثر قدرةً على اعادة إنتاج التاريخ في شعر جديد يعبّر عن الحياة الجديدة. إنّ الشاعر الذي لا يستلهم من التاريخ معانيه التي تتصل بالإنسان والحياة والثقافة والحضارة هو في حقيقته يكون بلا جذور، وب إرث فكريّ يزوّده بالمادة الأولية التي يُصنع منها الشعر، يكون غير قادرٍ على مواكبة الحياة ومخاطبتها ووصف أحداثها، يكون غير قادر على الإنتاج الإبداعيّ، فمثله حينئذٍ كمثل الشجرة التي تُقطع جذورها فتموت، وتصبح غير قادرة على إنتاج الثمر، وأدونيس حين أضفى على لغته صفة الإخضرار هو أراد أن يمنحها صفة الخصوبة والتجدّد والنّماء، وأراد كذلك أن يربطها برمزية اللون الأخضر ذات الجذور الموغلة في التاريخ الميثولوجي، وكأن شاعرنا يريد أن يبيّن أنّ اللغة التي يجب أن تكتب، لها الحياة لا بدّ من أن ترتبط بالجذور لكي تستمد خضرتها من التاريخ وتحارب الشعوب. فاللغة التي ليس لها تاريخ تفتقر إلى الحيوية، وتعاني من البلادة وعدم القدرة على التجدد، لأن اللغة تستمد حيويتها من تاريخها المثقل بالمعاني الانسانية والحضارية، وهذا الرأي يفسر لجوء أدونيس (علي أحمد سعيد) وغيره من الشعراء العرب المحدثين إلى التاريخ القديم الواقعي والميثولوجي لاستخدام معانيه الرمزيّة في كتاباتهم الشعرية. وقد يظن البعض أن العودة إلى القديم لا تخدم الحياة الجديدة، وهي تتناقض مع التطور والتجدد، ونحن نقبل هذا الظنّ إذا كانت العودة إلى القديم تتمّ بأسلوب يتناقض مع روح الحداثة الشعرية وحقيقة الإبداع الشعري، أمّا إذا كانت هذه العودة تتم بأسلوب جديد يناقض الحياة القديمة ويتوافق مع حياتنا وعصرنا ومجتمعنا، فحينئذ تكون عودة فاعلة ومنتجة وخلاّقة، ومثال هذا نجده في الشعر العربي الحديث الذي يحوي الكثير من الأسماء القديمة الواقعية والقديمة الميثولوجية، ولكنّ هذه الأسماء تجدّدت في معانيها ودلالاتها، لأنّها وظفت في سياقات شعرية جديدة فإسم (عشتار) مثلاً صار في الشعر العربيّ الحديث يرمز إلى الخصب والإزدهار في موضوعات وطنيّة وقوميّة وحضاريّة وإنسانية وإسم (الفينيق) صار يرمز إلى انبعاث الوطن أو الأمة أو الحضارة بعد الاحتراق، صار يرمز إلى انبعاث اللغة من موتها، إلى انبعاث التاريخ الحافل بالإبداع والعطاء.
فأدونيس يرفض اللغة السلفية في الشعر بيد أنه استخدم في كتابته الشعريّة الكثير الكثير من الأسماء التي يعود زمانها إلى التاريخ الميثولوجي ولكنّ الأسماء القديمة في شعر أدونيس أُفرغت من معناها القديم وتجاوزت إطار زمانها الأسطوريّ، وصارت رموزاً شعريّة تحمل دلالات رمزيّة تتوافق وقضايا حياتنا وعصرنا، لأن أدونيس، بوصفه رائد الحداثة الشعرية ومن طليعة الشعراء العرب المحدثين، يملك القدرة على تحول اللغة، فهو يحوّل الإسم القديم الّذي ينحصر ضمن إطار زماني ومكانيّ إسمًا جديداً متحرّراً من قيود الزمان والمكان، إسماً جديداً مثقلاً بالمعاني والدلالات الرمزيّة، وبمعنى آخر يمكننا القول أنّ الشاعر في هذا الفعل يبعث اللّغة من موتهان يُخصبها ويبث فيها روح الحياة، ولأنّه يؤمن بضرورة إخصاب اللغة وإنبعاثها، فقد أضفى عليها صفة الاخضرار، وبديهيُّ أن تكون اللغة الأدونيسيّة لغةً خضراء، مزهرة، ومثمرة، فهي تستمد حياتها ونضارتها وطاقتها من الإرث الثقافي والحضاريّ الذي خلّفته الشعوب.
وبالعودة إلى ما تقدّم يتبيّن لنا أنّ اللون الأخضر في التعبير الشعريّ الأدونيسيّ قد حمل دلالات رمزيّة مختلفة، ووُظِّف في موضوعات متنوّعه.
فالفرق واضح من حيث الدلالة الرمزيّة بين عبارة (وحبي منارةٌ خضراء) وعبارة (وعلى شفامعنا لغةٌ خضراء واحدةٌ). إنّنا في العبارة الأولى نلحظ معنى شمول الحبّ النّاضر الّذي به يحيا الإنسان وتستمدّ الحياة، وشمول الحبّ في هذه العبارة، يتجاوز الحدود الإجتماعيّة والدينيّة والعرقيّة، ويشمل كلَّ زوايا الأرض، حبٌّ ينشر بين النّاس الأمل والتفاؤل، ويجعلهم أكثر شقةً وتعلّقًا بالحياة، يجعلهم يعملون في ميادين الإنتاج، وفي نفوسهم زحم العطاء، وترتسم أمام أعينهم ملامح المستقبل الأخضر، فأدونيس يودّ أن يقول أنّ الأرض والإنسان لا يصلحان إلاّ بالحبّ الأخضر العميق- الذي يؤّلف بيت الشعوب ويختصر المسافات بين البلدان، أما العبارات الثانيّة فإنّنا نلحظ فيها معنى اخضرار الأدب والفكر والثقافة، لأنّ اللغة الخضراء لغة حيّة قادرة على الإنتاج الصحيح. فالخضرة تعني الصحة، والصفرة تعني المرضى، ووفق هذا التحليل يصير الحبّ الأخضر رمزاً للحب الصحيح، رمزاً للإنسان الصحيح، والحياة الصحيحة، وتصير اللغة الخضراء رمزاً للأدب الصحيح، والفكر الصحيح، والثقافة الصحيحة، وتصير اللغة الخضراء رمزًا للأدب الصحيح، والفكر الصحيح، والثقافة الصحيحة، وفي سورة يوسف من القرآن الكريم يحمل اللّون الأخضر دلالة الحياة الصحيحة التي يكثر فيها الخير والرزق والنّماء، حيث ترمز السنابل الخضراء السبع في رؤيا ملك مصر إلى سنين سبع يكثر فيهنّ الخير والرزق والمواسم، وترمز السّنابل السبع اليابسات إلى سنين سبع ينقطع فيهنّ المطر ويقلّ الرزق ويعمّ اليباس. إنّ هذه الدلالة في السنابل الخضر والسّنابل اليابسات مأخوذة من نأويل النبيّ يوسف عليه السلام لرؤيا الملك: (يوسف أيها الصدّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلّهم يعلمون/ قال تزرعون سبع سنين (أبًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلاّ قليلاً ممّا تأكلون/ ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد يأكلن ما قدمتم لهنّ إلاّ قليلاً ممّا تحصنون/ ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون)( ). إن هذه الآية القرآنية الكريمة تشير إلى أنّ اللون الأخضر عند الله هو لون الحياة.
فالله هو الّذي أوحى إلى ملك مصر رؤيا السنابل، وعلّم يوسف تأويل الرؤيا. اللون الأخضر هو لون الحياة، وبهذا قضيت سنّة الله حين خلق الألوان، ونحن إذا ما تأمّلنا الطبيعة فإنّنا نجد كل شيءٍ أخضر حيًّا، وحتى الأرض- كما مرّ معنا آنفاً- بالماء تصبح مخضرة واخضرار الأرض يعني اخضرار النباتات والأشجار الحيّة، وانطلاقاً من هذا المعنى الحياتيّ الكامن في اللون الأخضر قد اعتبرنا أنّ أدونيس أراد باللغة الخضراء أن يرمز إلى اللغة، فهو يتوق إلى أن تنبعث اللغة العربيّة من ذبولها ويُبسها خضراء حيّة، لتستطيع أن تعبّر عن الحياة وتواكب الزمن، فهو شاعرٌ ثائرٌ على اللغة السلفية البلدية التي تعجز عن حمل أفكاره الجديدة الرائدة، ولا تستطيع التعبير عن همومه ومشكلاته الخاصة والعامّة، هو شاعرٌ تأبى براعته أن تخطّ على القرطاس لغة بائدة، لأنّه يودّ أن يرى أسطورة الفينيق متجسّدة في كلِّ مجالات الحياة، يود أن يرى اللغة تنبعث من حطامها قويّة وفاعلة، ورغبة أدونيس بالبعث لا تنحصر من إطار اللغة، بل هي رغبة تشمل الحياة، أنّه يرغب ببعث الفكر والحضارة وقيم الخير والعدالة، ليعيش الإنسان حياة أجمل وأفضل، ولكن هذه الرغبة الأدونيسية البعثية الشاملة لا تتحقّق إلاّ ببعث اللغة من رمسها القديم، من ضعفها وبلادتها؛ وقد أدرك شاعرنا أدونيس هذه الحقيقة، فعمل على تخصيب اللغة، واخضرارها لكي تنتج الثقافة الخضراء الناضرة الخصيبة، الثّقافي الّتي تتلاءم والحياة الجديدة وتتدفّق حداثةً وتجدّداً عبر الماضي والحاضر والمستقبل، ووفق هذا المعنى لا يُعتبر أدونيس رافضًا التراث اللغوي والثقافي باعتباره مصدراً، أو ينبوعًا يمدّ الحاضر بالحياة ويجعله قادراً على الإستمرار، بل هو يرفض تكرار الفكر القديم في لغة العصر الجديد، يرفض في لغتنا الفكر القديم الّذي لا يتناسب مع حاضرنا ولا يبني أساسًا صلبًا لمستقبلنا المتقدّم المزدهر. إنّه حين يدعو إلى اللغة الخضراء تنتج المجتمع على الصعيد الثقافيّ والانساني والعلميّ والحضاريّ، فبمقدار تطوّر اللغة يكون تطور المجتمع، وتطوّر الحاضر والمستقبل أيضاً، وبمقدار ضعفها وتردّيها يضعف المجتمع ويتردّى الحاضر المستقبل، وتنعدم الثقافة والعلم والحضارة.
الّلغة هي الكيان الّذي ينتمي إليه الإنسان وبه يتأثر لهذا يجب أن تكون خضراء، خصيبة ثريّة بالمعاني والأفكار والإشارات والدلالات الرمزيّة، يجب أن تكون متجدّدة لكي تستطيع أن تجدّد الحياة وتجدّد الإنسان.
إنّ مثل اللغة كمثل الماء، فإذا ركد في المستنقع أسن وقسر وصار غير صالح للحياة، أمّا إذا تدفّق من نبعه متجدّداً عذبًا رقراقاً، فإنّه يكون ذا صلاح وفائدة، يكون ملائمًا لخلق الخصوبة والنماء.
الّلغة ينبغي أن تتماشى وسنّة التجدّد والحداثة، فإذا ما جمدت وتوقّفت عن الحركة، فحينئذٍ تقصّر عن مواكبة الزمن ومجاراة الحياة، وفي تقصيرها عن مواكبة الزمن ومجاراة الحياة تعجز عجزاً كبيراً في التعبير عن قضايا أمّتها وإنسانها وليس هذا وحسب، بل أنّ عجز اللّغة يؤدّي إلى عجز الأمّة نفسها على الصعد كافة فتتلاشى قواها وتضمحلّ حضارتها وتمحي شخصيتُها. فاللغة هي الّتي تصنع الأمّة وتعطيها شخصيتها، وتبني حضارتها وتنتج فكرها وثقافتها وتحدد لها خواصّها ومزاياها بين سائر الأمم، فحين تموت اللغة تموت الأمّة وتندثر حضارتها وثقافتها، والتاريخ خير شاهد على صحّة هذا الرأي، فثمّة أمم كثيرة قد مات بموت لغتها، وأممّ لم تجد لها سبيلاً للبقاء على قيد الحياة سوى اعتمادها لغة غيرها ففقدت خواصّها الثقافية والحضاريّة والقومية. فاللغة هي الهويّة لكلّ هذه الخواص، ولأنّها تمتاز بهذه الوظيفة في الحياة فقد أرادها أدونيس أن تبقى خضراء لا تذبل ولا تموت. فأدونيس يدرك كلّ الإدراك أهمية دور اللغة العربية الخضراء في جعل العروبة تزدهر في مجالات الخلق والإبداع كافة، وهو في الحقيقة كان يدرك أيضاً أنّ لغة اللون هي لغة إنسانيّة قديمة الجذور لهذا عمد إلى توظيف اللون في شعره باعتباره رمزاً تعبيريًا يمنح الكتابة روحاً ابداعيّة متجددة. إنّ اللون لغةٌ عالمية اعتمدتها الأمم والشعوب في التعبير منذ الأزل، وما زالت تعتمدها إلى يومنا، وستظل تعتمدها إلى نهاية الزمان. ولغة اللون متنوعة الوظائف، فلا يقتصر دورها في التعبير على الشعراء فقط، بل هي لغة كلّ المبدعين والمعبرين. وهذا الرأي تؤكده الإكتشافات التي حققها علماء التاريخ والآثار حيث (ثبت أنّ استخدام الألوان في الرسم يمتدّ من مائة وخمسين ألف سنة إلى مائتي ألف سنة مضت، وقد عُثر في اسبانيا على رسوم في حوائط بعض الكهوف، تمثّل بعض الحيوانات في ألوان حمراء وسوداء وصفراء، ترجع إلى هذه الفترة السحيقة)( ). إنّ هذا الشاهد يؤكد أنّ لغة اللون ذات جذور موغلة في التاريخ السحيق، وذات تنوع في الوظيفة التعبيريّة. وقد يسأل سائل إذا كانت لغة اللون لغةً مكتملة العناصر وقد اعتمدتها الأمم والشعوب في التعبير خلال مراحل التاريخ المتعدّدة، فلماذا أضافها الشعراء العرب المحدثون وغير العرب إلى لغة الحروف والكلمات؟
الجواب يكمن في أنّ شعراء الحداثة أرادوا في إضافة اللون إلى الكلمة أن يقيموا مزجًا بين اللغتين أو الوسيلتين التعبيريّتين، أرادوا أن يُخصبوا اللغة اللسانيّة بتلقيحها أو (تطعيمها) من لغة اللون الرمزيّة الإشارية، وبواسطة عملية التلقيح أو التطعيم يتمّ إنتاج لغة جديدة فاعلة ومثمرة هي ذاتها عند أدونيس اللغة الخضراء. فسرُّ الخصوبة في الشعر العربيّ الحديث عموماً وشعر أدونيس خصوصاً يكمن في عمليّة التلقيح أو التطعيم بواسطة رمزيّة اللون ورمزيّة الأسماء الواقعيّة والأسطوريّة. أنّ رمزيّة اللون في اللغة الشعريّة تمثّل- كما أسلفنا سابقاً- الطاقة الإضافية الفاعلة، لأنّ اللون على علاقة مع الحياة منذ بداية التكوين على علاقة مع الطبيعة بكلّ عناصرها والمخلوقات الّتي نعيش فيها، فإذا ما نظرنا إلى الشجرة في فصل الربيع فإنّنا نرى أوراقها خضراء زاهيةً، ثمّ يتحوّل اللون الأخضر في الأوراق تدريجًّا إلى اللون الأصفر في فصل الصيف وصولاً إلى الذبول والتساقط في فصل الخريف ومن ثمّ تعيش الشجرة فترة التعرّي في فصل الشتاء متخلّية عن طبيعتها القديمة استعداداً للتجدّد في نظام موسميّ مستمرّ ومثمر، واللون الأخضر في أوراق الشجرة يرمز إلى الحياة والخصوبة والعطاء، أمّا اللون الأصفر فيها فيرمز إلى التّعب ، إلى الارتياح حفاظاً على ديمومة الطاقة المنتجة في دورة الحياة الموسمية المثمرة.
ومثال الشجرة الذي سقناه هنا ليس وحده يدلّ على العلاقة الوثيقة القائمة بين اللون والحياة، بل ثمّة أمثلة كثيرة لا يمكن أن يحصيها أحد من الناس، فمنها ما هو في عالم الخفاء ومنها ما هو في عالم الغيب. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ رمزيّة اللون يختلف معناها الاجتماعيّ والحضاريّ عند أمة عن معناها عند أمة أخرى، وكل يختلف معناها في عصر عن معناها في عصر آخر، وقد ارتبطت رمزيّة اللون بكلّ العصور السابقة، وستطلّ مرتبطة بالعصور اللاحقة، لأنّ اللون هو في خلقه مرتبط بالحياة، وإذا ما عدنا إلى زمن الحضارة المصريّة القديمة، فإنّنا نجد اللون قد حمل دلالة رمزيّة خاصة في حقبة تاريخية حضاريّة خاصّة، حيث اعتاد المصريون على (تصوير النساء بلون أصفر، والرجال بلون أحمر)( )، وكذلك نجد (مثل ذلك عند الكريتيين والفينيقيين)( ).
وننتقل من الحديث عن اخضرار اللغة عند أدونيس إلى الحديث عن اخضرار الاغتراب والموت والنعس عند محمد درويش في قصيدته (الرجل ذو الظلّ الأخضر)، وهي قصيدة كتبها الشاعر في ذكرى جمال عبد الناصر القائد العربيّ الذي رأى فيه الشاعر قدرة تغييريّة استطاعت أن تحوّل حياة درويش من اليأس إلى الأمل، من العقم إلى الخصبة، من اليباس إلى الاخضرار. إنّ جمال عبد الناصر عند ردويش يملك قوّة الاخصاب والنماء كعشتار، فهو جعل كيان الشاعر كيانًا أخضر وكذلك اغترابه وموته (أذكر كيف جعلت ملامح وجهي وكيف جعلت جبيني وكيف جعلت اغترابي وموتي أخضر أخضر أخضر)( )، إنّ اغتراب محمود درويش ليس كأيّ اغتراب، هو اغترابٌ عن الوطن والأرض، اغتراب عن المجتمع والجذور، اغترابٌ عن قريته والطفولة التي ما عاد يستطيع أن يتلمّس دروبها إلاّ بواسطة التذكر والخيال، ولكنّ هذا الاغتراب المتوحش الذي مزّق محمود درويش بأنيابه وأظفاره، وحطّم وجدانه، وزرع في نفسه القنوط، قد صار حياةً خضراء مفعمة بالأمل، قد صار اغتراباً أخضر بهيجاً، وهذا التحول في صورة الاغتراب يشير إلى التحوّل الذي أحدثه جمال عبد الناصر في نفس محمود درويش، فالشاعر حين تحوّلت نفسه من نفس متمزّقة متألّمة يائسة إلى نفسٍ مستبشرة ومتفائلة، صار يرى الاغتبراب بعينه اغتراباً جميلاً سيفضي به بعد فترة وجيزة إلى رحاب فلسطين، صار يرى موته حياةً وتجدّدا أخضرين، وهذا التعبير الدرويشيّ يحمل معنى الانبعاث في الموت. فالموت عند محمود درويش لم يعد زوالاً، لم يعد نهاية مخيفة، بل هو مرحلة حتميّة تفضي به إلى الحياة الجديدة بقوّة الانبعاث الناصريّة التي يراها درويش قادرة على إحياء المجد العربيّ والحضارة العربيّة، قادرة على إحياء القيادة العربيّة التاريخية التي حقّقت الفتوحات، وصنعت الانتصارات. فجمال عبد الناصر يستطيع، في تعبير درويش، إخصاب الواقع العربي العقيم الذي انتهزه الأعداء فرصة لهم فاغتصبوا فلسطين، وأقاموا على أرضها دولة إسرائيل، يستطيع بعث المجد العربيّ من رمسه التاريخيّ، يستطيع بعثه حيًّا من حطامه، فتتحرّر حينئذ فلسطين، ويعود الشاعر إلى كنف الوطن، وتنتهي فصول اغترابه المرير. إنّ رمزيّة اللون الأخضر في التّعبير الدرويشي السابق لا ترمز إلى الانبعاث والحياة فقط، بل ترمز إلى التفاؤل أيضاً، فالإنسان المتفائل يؤمن بالحياة والتجدد والتغيير، أمّا المتشائم، فيكفر بالحياة، ويرفض عقيدتها.
إنّ محمود درويش، وهو يعيش مأساته الاغترابيّة، كان لا بدّ له من أن يكون متفائلاً. فالتفاؤل يعده بالإنتصار، أمّا التشاؤم، فيحبطه، ويدفع به إلى الانهيار، التفاؤل هو السلاح الأقوى والأمضى الذي ينبغي أن يعتمده المرء في مواجهة الأزمات المحن لأنّه يعزّز في نفس صاحبه الايمان بالحياة والانتصار، والتفاؤل هو دَأْبُ محمود درويش، أوليس هو القائل: (وطني! يعلّمني حديدُ سلاسلي/ عنفَ النسور، ورفّة المتفائلِ/ ما كنتُ أعرف أنَّ تحت جلودنا/ ميلادَ عاصفةٍ وعرس جداول/ سدّوا عليَّ النورَ في زنزانةٍ/ فتوهّجت في القلب شمسُ مشاعلِ/ كتبوا على الجدرانِ رقم بطاقتي/ فنما على الجدران مرجُ سنابل)( ). التفاؤل جعل الشاعر يرى على جدران سجنه مرجاً من السنابل الخضراء، ومرجُ السنابل رمزٌ للحياة، رمزٌ للحصاد الذي يجعل الإنسان يشعر بالطمأنينة، ويمدّه بحبّه الحنطة التي هي سبب رئيس من أسباب البقاء، ولو كان الشاعر متشامئماً في سنه لرأى على الجدران شبح الموت، ولصار من الصعب عليه أن يقاوم ويستمرّ، لو كان الشاعر متشائماً لصار سجنه قبراً يُشعره بالموت والفناء، وهذا التحليل يلتقي مع تحليلنا السابق الذي اعتبرنا فيه أنّ جمال عبد الناصر برمزيّته القيادية منح الشاعر التفاؤل، فصار يرى اغترابه وموته أخضرين، وانطلاقاً من قصيدة (الرجل ذو الظلّ الأخضر) وقصيدة (ردّ الفعل) يتبين لنا الترابط الدلاليّ الوثيق بين اللون الأخضر والتفاؤل. وهذه الوظيفة الدلاليّة الرمزيّة التي يؤدّيها اللون الأخضر في حوار الشاعر مع جمال عبد الناصر هي سمة اللغة الشعريّة الدرويشية التي تمتاز بعنصرين الإيحاء والإشارة وتبتعد عن التصريح والمبشارة، (فالرمز، مهما كان نوعه، يولّد طاقات إيحائيّة لما يرمز إليه ويحمله من رؤى، سواء أكانت تتطلّع إلى مفاهيم فكريّة أو جمالية. ولكي يُشحن بدلالات خصبة يحتاج الرمز إلى تأسيس في إطار لغة النصّ الشعري، وبصورة أدقّ إلى تركيبه في سياق ينتظم فيه رمانيًّا ومكانيًّا، ويكون منه مركز الإشعاع في الصورة( ).
إنّ محمود درويش من خلال رمزيّة اللون الأخضر التي استخدمها في القصيدة السابقة لم يكن يهدف إلى التعويض عن فشل العرب وانهزامهم بتفاؤل شعريّ قائم على الوهم، ولم يكن يريد تحقيق رغبات القارئ أو إلهاءه. ببطولات مزيّفة ووهميّة لا وجود لها إلاّ في الخيال الشعريّ، فليس هذا الهدف من وظيفة الشاعر أو العمل الفنيّ، فالعمل الفنيّ يساعد المتلقي على (تحديد قيمه)، وربّما يكون باعثًا على استثارة رغباته، أكثر من كونه تحقيقًا لرغبة ما عن طريق آليات تجربة ينوب عنه فيها شخص آخر( ).إنّ شاعرنا يريد من خلال إشارته إلى قوّة الإخصاب الكامنة في شخص جمال عبد النّاصر أن يحث القارئ العربيّ على العمل من أجل جعل الإخصاب حقيقة فعليّة في حياة العرب السياسية وواقعهم الاجتماعي، يريد أن يثير في نفسه الرغبة في أن يصبح العرب قوّة سياسيّة وحضاريّة بين سائر الأمم، لأنّ رغبة الانسان في أن يرى أمراً معيّنًا واقعًا حاصلاً تدفعه بقوّ إصراريّة إلى تأكيد وقوعه وحصوله بواسطة الفعل والممارسة، فمحمود درويش حين اشار إلى قوّة الاخصاب الكامنة في القائد العربيّ جمال عبد الناصر، أراد أن يشير أيضًا إلى العقم السائد في الواقع العربيّ السياسيّ، إلى العقم الذي أضعف العرب، فأقصيبوا بالبلادة والعجز، وما عادوا قادرين على إنجاز القادة العظماء كخالد بن الوليد، وسيف الدولة، وصلاح الدين. إنَّ العقم الذي أصاب حياة العرب على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والحضاريّ، قد آلام الشاعر إيلامًا شديداً، وجعله يرى في القيادة الناصريّة بداية لإخصاب جديد، إخصابٍ يجعل العرب يعودون، كما كانوا، أهل مجد وعلم وحضارة وسيادة.
إنَّ درويش رأى في عبد الناصر القائد المنقذ الذي سينتشل العرب من مستنقع الجهل والذلّ، رأى فيه القائد المرشد الذي سيهيدهم سبل الوحدة والحريّة بعد عهد طال أمدُه من التشرذم والعبوديّة.
هذه هي الإشارات الشعريّة التي أراد شاعرنا أن يرسلها إلى القرّاء بواسطة رمزيّة اللون الأخضر: (نراكً، نراكَ، نراكَ طويلاً كسنبلةٍ في الصعيدْ/ جميلاً كمصنع صهر الحديدْ/ وحرًّا كنافذةٍ في قطارٍ بعيدْ/ ولستَ نبيّاً، ولكنَّ طلَّكَ أخضر/ أتذكر؟ كيف جعلتَ ملامح وجهي، وكيف جعلت جبيني) وكيف جعلت اغترابي وموتي أخضر، أخضر، أخضر)( ). لم يكن محمود درويش يكتب لغةً سلفيّة، لأنّه كان يدرك أنّ اللغة السلفيّة لا تستطيع أن تحمل المعاني والأفكار التي يودّ إيصالها إلى الجمهور، فجمال عبد الناصر، في السياق الشعريّ الدرويشيّ الاشاريّ، ليس نبيّاً لديه القدرة على البعث والاحياء، ولكنَّ ظلّه الأخضر أعطاه هذه القدرة، فصار يمثل عند درويش، وفي اللغة الشعريّة الإشارية الرمز القياديّ الذي يستطيع أن يحوّل العقم في حياة العرب إخصابًا واليباس اخضراراً.
(فالقول الشعريّ، إذن، يعتمد على نظام إشاريٍّ يختلف عن النظام الذي يستخدمه المتكلّم العاديّ، أو حتّى الشاعر نفسه في حياته اليوميّة)( ). القول الشعريّ قولٌ إبداعيٌّ يقوم على معارضة المبادئ التعبيريّة السلفيّة، وشاعرنا درويش ممّن عارض هذه المبادئ معارضة شديدة، فجاءت لغته الشعريّة جديدة استطاعت أن تعبّر عن حلمه بأمّة عربيّة جديدة وقويّة، أمّة عربيّة منتجة ومزدهرة، وهذا الحلم الجميل، الذي تتمنّى حصوله الملايين من الشّعب العربيّ، وجده الشاعر متجسّداً بشخص جمال عبد الناصر الذي يرمز في الشاهد الشعريّ السابق إلى الإخصاب والبعث، واللغة الشعريّة الجديدة في تعبير درويش هي التي أعطت عبد الناصر صفة الاخصاب والقدرة على الاحياء والبعث من خلال الدلالة الرمزيّة الكامنة في اللون الأخضر، ولجوء شاعرنا إلى هذه الرمزيّة الاحيائيّة والبعثيّة له جذوره التاريخيّة، هو عودة إلى التاريخ الميثولوجيّ القديم الذي عاشته فينيقيا.
إنّ درويش استمدَّ رمزيّة اللون الأخضر التي تدلّ على الاخصاب من الميثولوجيا الفينيقيّة في بلاد الشام، وهو ابن هذه المنطقة، (فأدونيس إله الخصب الفينيقي المقتول على جبل لبنان انبثقت الشقائق الحمراء من دمائه، وتتفتّح في منطقة الشام)( )، وهكذا نلحظ أنّ اللغة الشعريّة الدرويشيّة هي ذات جذور ميثولوجيّة، ولكنّ الميثولوجيا فيها تؤدّي وظيفة تعبيريّة حديثة في سبيل الوصول إلى حالة شعريّة تؤسس لقيام واقع عربيّ أو انسانيّ حديث. إنّ محمود درويش لم يكن يعتقد أنّ عبد الناصر يستطيع أن يحرّر فلسطين، وأن يعيد شعبها المشرّد إلى ربوعه ودياره على أرض الوطن، وهذا ما أشار إليه في المقطع الشعريّ السابق، بيد أنّ درويش جعل عبد الناصر رمزاً للقائد المنقذ المنتظر، أو القائد/ الحلم، وذلك من أجل أن يجعل العرب متفائلين غير يائسين، لأنّ في التفاؤل عملاً وجِدًّ واستمرارً، أمّا اليأس ففيه قعودٌ وكسلٌ وجمود، ووظيفة الشاعر المحدث الذي يؤمن بالحداثة حالة شاملة تطال الأدب والحياة لا بدّ له من أن يزرع الأمل والتفاؤل في نفوس القرّاء لكي تكتمل حركة الحداثة وتصبح حركةً فاعلة ومنتجة، فكيف محمود درويش، وهو شاعرٌ محدِثٌ وصاحب قضيّة وطنيّة في آنٍ معًا؟! هل يمكن له أن يكون غير متفائل؟! هل يمكن له أن يكون غير شاعرٍ مبشّرٍ بالمستقبل الزاهر والحياة التي تتجدّد بقوّة الاخصاب والبعث؟! إنّ درويش لجأ إلى توظيف رمزيّة اللون الأخضر في تعبيره الشعريّ، لأنّه يؤمن بأن الإخصاب والبعث هما ضرورة حتميّة لشفاء العروبة من عقمها الذي طال أمده واستمرّ قرونًا، لأنّه يؤمّن بأن اللون، كاللّغة، هو صفة صاحبه ويعبّر عن مضمونه، فالشجرة الخضراء يعبّر لونها عن حيويّتها وقدرتها على الإثمار، أمّأ الصفراء، فيعبّر لونها عن عريها، وعن مرورها بفترة استراحة أو عن قرب موتها، (فلقد ارتبط اللون، أيًّا كانت درجته، ارتباطاً وثيقًا بموضوعه سواء كان ذلك موجوداً بخصائص جسميّة أو جماد هامد لا حياة فيه بما يعني أنّ اللون يشي بأمر مميّز عن ماهيّة هذا الشخص أو كنه ذلك الشيء. أضف إلى ذلك تفشي الاعتقاد إبّان العصور الوسطى بأن الشيء ولونه مرتبطان بصفة حيويّة كإرتباط الروح بالجسد)( ).
انطلاقاً من هذه الدلالة الرمزيّة الكامنة في اللون الأخضر استطاع محمود درويش أن يعبّر عن قوّة الاخصاب والبعث الكامنة هي الأخرى في شخص جمال عبد الناصر، كما رآه الشاعر، فهذا القائد العربيّ جعل درويش انسانًا مفعمًا بالحياة والتفاؤل، جعله ذا وجهٍ وجبينٍ أخضرين، وهنا دلالة على قوّة الاخصاب التي جدّدت الشاعر وبعثته من تشاؤمه وانزامه أكثر قوّة وتفاؤلاً بالتغيير والنصر، وليس هذا وحسب، بل بعثته من موته وأعادته إلى الحياة من رمس الاغتراب.
إنَّ محمود درويش قبل جمال عبد الناصر كانت ملامح وجهه صفراء تشير إلى الحزن والتّعب والكآبة؛ إنّه كان إنسانًا ميْتًا، والموت الّذي عناه الشاعر هنا ليس الموت المعروف الّذي يذوقه الناس، ليس انفصال الروح عن الجسد، بل هو الموت في معناه الدلاليّ الرمزيّ، هو موت التاريخ العربيّ والحضارة العربيّة، ولكنّ درويش وجد في جمال عبد الناصر قوّةً قياديّة جديدة تستطيع أن تعيد مجد العرب، وتبعثه من رمسه الذي رقد فيه سنين طويلة، تستطيع أن تحرّر فلسطين من مغتصبيها، وأن تطهّرها من رجسهم ودنسهم، تستطيع أن تعيد الشاعر المعذّب المغرّب إلى وطنه والديار؛ ولأنّ شاعرنا وجد هذه الدلالات كامنة في شخص عبد الناصر، فقد عبّر في قصيدته (الرجل ذو الظلّ الأخضر) عن استبشاره بالتغيير والانتصار، عن استبشاره بالانبعاث العربيّ إلى حياة جديدة تصنعه إرادة أجيال جديدة، فلا موت يصيب العروبة بعد العهد الناصريّ، وإن مات جمال عبد الناصر فإن ضريحه يصبح قادراً على إحداث البعث والإخصاب في أمّة العرب.
(ولستَ نبيًّا ولكنَّ ظلّك أخضر/ نعيش معك/ نسير معك/ نجوع معك/ وحين تموت نحاول ألاّ تموت معك/ ففوق ضريحكَ ينبت قمحٌ جديدْ/ وينزل ماءٌ جديدْ/ وأنت ترانا نسير نسير نسير)( ). الضريح في معناه المعروف المباشر يدلّ على الموت والفناء، فهو يحوي في جوفه رميم العظام والرفات، بيد أنّ ضريح عبد الناصر يرمز عند درويش إلى البعث والحياة، وهكذا يعطي الشاعر الضريح وظيفة دلاليّة معاكسة لوظيفته المعروفة، أنّه يخلق ممّا يشير إلى الموت والفناء إشارات ورموزاً إلى الإنبعاث والحياة، وفي هذا الخلق الشعريّ الجديد تتجلّى قدرة الشاعر المحدث المبدع. فضريح جمال عبد الناصر- في رأي درويش- ينسب فوقه قمحٌ جديد، والقمح هو مادّة الحياة، فمنه يطع رغيف الخبز الّذي يحيا به الإنسان، فوق ضريح عبد الناصر ينزل ماء جديد، والماء سبب رئيسّ ومباشر لاستمرار الحياة على الأرض، فمن الماء جعل الله كلّ شيءٍ حيًّا، وهكذا يصبح ضريح عبد الناصر عند محمود درويش سببًا لحياة العروبة، واستمرار المسيرة القوميّة.

وقال: “فايز رسامني يقوم بخطوات لم يجرؤ أي وزير قبله على اتخاذها، والحكومة تسير في خطوات مهمة”، وأضاف: “مسؤولو الدولة سرقوا الناس وأهدروا الأموال، والمصارف تتحمّل المسؤولية، وكذلك مصرف لبنان والحكومة. لا يوجد مصرف في العالم قادر على إعادة أموال المودعين دفعة واحدة، لكن المسؤولية لا تقع على المصارف وحدها”.

وفي الملف البلدي، أوضح صادق أن الكتلة السنية في بيروت تعاني من تشرذم حاد في الانتخابات، وأن المشكلة تكمن في قانون أُقرّ وأوصل البلديات إلى هذا الواقع، كما أشار إلى أنّ بلديات الجنوب غير قادرة على إجراء الانتخابات، ما استدعى إجراء تعديلات أساسية في هذا السياق.

إلى ذلك، أكّد صادق أنّ اتحاد بلديات الجنوب أصدر بيانًا دعم من خلاله الطرح الذي تقدم به إلى جانب النائب مارك ضو بشأن تأجيل الانتخابات البلدية، موضحًا أن هذا الاقتراح نابع من قناعته الشخصية، إذ سأل: “كيف يمكن إجراء هذه الانتخابات في ظل الظروف الحالية؟”، ولفت إلى أنّ المناصفة في بيروت غير محمية، مشيرًا إلى أنّ ما يحميها اليوم هو اللوائح المقفلة.

ورأى صادق أن المملكة العربية السعودية تدعم الوجوه الجديدة في لبنان، مؤكدًا أن الرئيس سعد الحريري “غير ممنوع من العمل السياسي”، كما شدّد على أن المجلس النيابي يعكس خيارات الناس، وقال: “كل من ينتخب أو يعتكف عن الانتخاب يتحمّل مسؤولية ما يحصل في البلد”.

وبشأن التطبيع، أوضح أنه “لا يمكن الحديث عن التطبيع طالما أن إسرائيل لا تزال على أراضينا”، مشددًا على أنه “لن يصوّت على أي اتفاق تطبيع قبل حصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم”، وأضاف: “لا يمكننا تخوين العرب بعد التطبيع، لكنني شخصيًا لن أصوّت لصالحه قبل تنفيذ حل الدولتين”.

واعتبر أن خطر اندلاع حرب جديدة لا يزال قائمًا، معربًا عن أمله في أن يعي مسؤولو حزب الله خطورة المرحلة، داعيًا إياهم إلى التحلي بالوعي، وقال: “كفى ولاءً لدول أجنبية، ولنُعطِ الولاء للبنان”.

وفي ما يتعلّق بحظر بعض الأفلام بسبب مشاركة ممثلين إسرائيليين، وصف صادق هذا التوجه بـ”غير المنطقي”، معتبرًا أن “وجود منصة مثل نتفليكس في كل منزل، وظهور العديد من الممثلين الإسرائيليين على شاشاتها، يجعل من هذا القرار أمرًا سخيفًا”.

أما عن العلاقة مع السراي الحكومي، فقال: “لا أزور السراي إلا عند الضرورة، وعندما نريد لقاء رئيس الحكومة، نلتقيه في منزله ليلًا”.

ونفى صادق أن تكون حملته الانتخابية قد تم تمويلها من قبل منظمة “كلنا إرادة”، مؤكدًا استقلالية تمويله وعمله السياسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

iPublish Development - Top Development Company in Lebanon
زر الذهاب إلى الأعلى