المقالات

خطر محتمل يتهدد أمتنا – بقلم: د محمد الحلبي

باتت الاتصالات السياسية ومثيلاتها الزيارات،وحتى التحركات في الزمن المعاصر موضع اهتمام،ومراقبة،وتحليل من قبل المهتمين بهذا الجانب سيما مراكز البحوث والدراسات السياسية المتواجدة في أغلب أرجاء المعمورة بدافع المعرفة لبعديها:
آ –  الاستفادة من الجوانب الإيجابية منها ان وجدت ,  ب –  رسم ووضع الخطط المتصدية ،والمقاومة لسلبياتها،وفي هذا السياق تأتي الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس جنوب السودان«سيلفا كير»لإسرائيل إذ يتحتم علينا  التدقيق في جميع جوانبها سيما وأن لها انعكاسات على الوضع الإقليمي العربي بمجمله،وبدقة أكثر على القطرين المصري والسوداني،ففي لقائه مع المسؤولين الاسرائيلين  تبادل معهم أحاديث في منتهى الخطورة،فأثناء اجتماعه في القدس مع«شمعون بتريز»الرئيس الإسرائيلي قال له:
–    «إن إسرائيل ساندت شعب جنوب السودان، وأنه لولا إسرائيل ما كانت دولة جنوب السودان».
–    «إن هناك قيماً مشتركة تجمعنا سوياً على مدار التاريخ….تغلبنا على صراعات مماثلة،وسوف نعمل مع إسرائيل في المستقبل لتعزيز علاقاتنا الاستراتيجية بين بلدينا«.

إذاً هي علاقة إستراتيجية، وفي إطار الاستنتاج المنطقي فهي بالضرورة علاقة إستراتيجية مع أمريكا، وأمريكا وإسرائيل بلدان يُكنان كل مشاعر العداء والتآمر على الأمة العربية، وبعض من ملامح هذه العلاقة الجديدة القديمة يكشفه«كير»قائلا ً:
–    «إن جنوب السودان مهتم بإقامة مشاريع مشتركة مع إسرائيل في مجالات البنية التحتية والزراعة،وترشيد استهلاك المياه والتكنولوجيا المتقدمة».
ويردّ عليه«شمعون بتريز»قائلا ً:
–    «إن شعب جنوب السودان ناضل وكافح بجرأة وحنكة متناهية رغم كل الصعاب من أجل تأسيس دولته،وولادة هذه الدولة تشكل انطلاقة في تاريخ الشرق الأوسط».
ويكمل «بيريز» حديثه  عائداً الى ستينات القرن الماضي قائلا ً:«إن أول اتصال بين إسرائيل  والسودان كان في ستينات القرن الماضي عندما التقى رئيس الوزراء «أشكول» وأنا كنت وقتها نائب وزير الدفاع في باريس مع قادة محليين من جنوب السودان،وقدّمنا لكم مساعدات واسعة في قطاعي الزراعة والبنية التحتية».

السؤال المهم الذي يُطرح هل عنى بذلك حلم إسرائيل وأمريكا بما عُرف بالشرق الأوسط الجديد الممزق مجددا والمتعددة بلدانه . لا بل الموسعة حدوده ليضم بلدانا غير عربية , الحلم المهتز لـ «كوندليزا رايس» وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة
والمعروف تناغم مخططات إسرائيل مع أحلام«رايس»الشرق أوسطية،ففي عام1982نشرت مجلة «كيفونيم» الاستراتيجية الإسرائيلية الداعية لمزيد من تجزئة الوطن العربي«لقد اعتبرت العالم العربي بيتا من ورق خلفه الاستعماران الفرنسي والبريطاني في إطار تركيبات اجتماعية،ومن أجل الحفاظ على كيان إسرائيل لابد من تقسيم جديد،وتجزئة هذه البلدان إلى كيانات هزيلة وهشة،واستثمار أمراض التكوين،ولا تستثني الخطة بلداً عربياً من هذا المخطط،وبالنسبة لمصر تركز هدفها بإنشاء  دولة قبطية في الصعيد،وبالنسبة للسودان فنرى فيه أنه من أكثر الدول الإسلامية تفككاً،فإنه يتكوّن من أربع مجموعات سكانية كل منها غريبة عن الأخرى،ونرى في تفكيك العراق أهم من تفتيت سوريا فهو غني بالبترول،وقوته تشكل خطورة على إسرائيل في المدى الغريب.

إنها خطورة مشروع الشرق الأوسط الجديد على الأمة العربية بكاملها،والخطر الثاني المتعاظم يتركز في الأمن المائي للسودان ومصر،فلقد زار زعيما أوغندا وكينيا إسرائيل قبل شهرين من زيارة«كير»،ويعتزم «نتنياهو» القيام بجولة إفريقية في شباط/فبراير القادم من المتوقع أن تشمل إثيوبيا،أوغندا،وكينيا،والدول التي ذُكرت هي من دول حوض النيل التسع الموقعّة على اتفاقية تنظيم العلاقة المائية بين دوله عام1959حضرت المؤتمر يومها إريتريا كمراقب،وكان الهدف منه الوصول إلى تنمية مستدامة من خلال الاستغلال المتساوي للإمكانات المشتركة التي يوفرّها حوض النيل،لكن ومنذ أكثر من عام عقدت دول أربع هي أوغندا،لواندا،تنزانيا،وإثيوبيا اجتماعاً قررت فيه رفض الاتفاقات القديمة المنظمة للحصص المائية لنهر النيل , انضمت بعدها كينيا إلى المجموعة بالموافقة في شهر ديسمبر2011لحقت بها بورندي،وقد استُبعدت مصر والسودان من اللقاء،ولربما وفي المدى المنظور  سيلحق جنوب السودان بهذه المجموعة.
وكعادة الفكر الصهيوني الذي يعزز رؤاه بروايات ينسبها للعهد القديم الذي جرى تأليفه وتحريفه زمن السبيّ البابلي لليهود من أرض فلسطين،فإيمانهم كبير بأن أرض«كوش»يقطنها شعب جرد طوال القامة سيبثون الرعب في القاصي والداني، وكوش هو إبن حام بن نوح عَبر الفرات باتجاه المغرب إلى مسقط الشمس،وسفر أشعيا يقول:«ويل لأرض حفيف الأجنحة عبر أنهار«كوش»التي تبعث رسلا ًفي البحر في قوارب البردي السابحة فوق المياه…امضوا أيها الرسل المسرعون إلى شعب بث الرعب في القاصي والداني»وفي كتاب(بنو إسرائيل في أرض المهدي)لمؤلفه«إيلي س مالكه»المولود في السودان،وأبوه كان كبير حاخامات اليهود في الجيش الإنكليزي الذي حارب حركة المهدي الإسلامية يقول « أن الجالية اليهودية في السودان اجبروا على اعتناق الإسلام تحت تهديد السيوف»ويشاطره الرأي،ويؤيده كاتب آخر واسمه«ويليام كيفي»مشدداً على أن قبيلته من أصول يهودية مدعياً أن قبائل يهودية وصلت إلى إفريقيا قبل الإسلام والمسيحية،وفي زمننا المعاصر،وبشكل أدق،ومع مطلع القرن التاسع عشر راح التحالف يشتد بين القوى المعادية للعروبة والإسلام،وتحديداً بين الغرب بكليته وإسرائيل  تدفعه المصالح المشتركة بجميع تنوعها ، والكاتب«أحمد أبو سعده»،وفي كتابه(جنوب السودان وآفاق المستقبل)ينقل عن الحاكم العام الإنكليزي للسودان قوله:«أينما ذهبت وأمعنت في التوغل في القرى والغابات،وعلى قمم الجبال وجدت اللغة العربية منتشرة بين السكان،وعليه يجب إعادة النظر وبحذر شديد مما يجري،وعلينا بذل الجهد والمال لوقف الدين الإسلامي واللغة العربية»وهذا ما اعتمد وطبق ، فبعد قيام الحكم الثنائي المصري البريطاني في السودان عام1899عمدت حكومة الخرطوم التي يسيطر عليها الإنكليز إلى إضعاف الوجود الشمالي في الجنوب،وإضعاف الثقافة العربية سواء بإحلال اللغة الإنكليزية محلها كلغة عامة،وتشجيع اللهجات المحلية،ومنعت انتشار الإسلام،ودعمت الإرساليات التبشيرية،ودخلت أمريكا على خط التآمر على العروبة في السودان،ففي خريف عام1993وضعت الولايات المتحدة السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب ، وطبقت الحصار عليه إضافة لعقوبات قاسية أستثني الجنوب منها  ،ومن ثم برزت مشاريع جديدة برأي«وليام كوليستول»زعيم المحافظين،والباحث بالمعهد المسمى(المسعى الأمريكي ومشروع القرن الإفريقي) وبناء على توجهاته وآرائه  اعتمدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خطة لاستهداف السودان بفرض منطقتي حظر جوي فيه(دارفور وجنوب السودان) وأن لا ترسل المزيد من القوات المسلحة لهما إلا بعد الحصول على موافقة مجلس الأمن المسبقة اعتمدها في تلك الفترة الرئيس السابق«بوش»و«توني بلير»رئيس وزراء إنكلترا،وفي عام1995وفي ندوة عقدها سلاح الجو الأمريكي رُسمت فيها الاستراتيجية الثقافية الأمريكية…تحدث التقرير الملخص لما دار فيها من أن السودان الذي تسعى حكومته الأصولية إلى نشر الدعوة الإسلامية في إفريقيا فقد الدعم السياسي والاقتصادي من الدول العربية،ويعاني ضائقة اقتصادية،فالتدخل الأمريكي في جنوب السودان مطلوب،كما أن تقسيم السودان إلى دولتين احتمال وارد لكنه يفتح لانقسامات عرقية في كل القارة الإفريقية.

في المقابل،وعن رياح التآمر الإسرائيلي يقول«موشي فرحي»العميد في المخابرات الإسرائيلية في كتابه الذي صدر عام2003تحت عنوان(إسرائيل وحركة تحرير السودان نقطة البداية ورحلة الانطلاق)يتحدث عن الدعم العسكري والسياسي الذي قدمته إسرائيل لحركات الانفصال من أجل تهديد الأمن المالي والسياسي للدولة العربية الأكبر،والأخطر بالنسبة لإسرائيل وهي مصر واضعاً ركائز لهذه السياسة تتجلى بإقامة علاقات مع دول المنطقة:إثيوبيا،أوغندا،كينيا،وزائير،ومن ثم تقديم الدعم لحركات«التعاون والمقاومة»كما سمّاها والتحالف مع الأقليات الإثنية في الدول العربية ذاكراً العراق،سوريا،السودان،ومصر
ومن منطلق التركيب الاجتماعي القبلي تصدرت أوغندا لائحة التآمر لانفصال الجنوب منطلقة من أن جناحاً في الحركة الشعبية موالياً لها يسمى فرع قبيلة«الدنكا»التي ينتمي إليها«سيلفا كير».
وتتطور الخطط المرسومة،وفي إطار التحالفات الإقليمية الدولية لتحقيق هدفين أساسيين كما ذكرنا-  التفتيت والتقسيم الجديد للوطن العربي , وحروب المياه ضد السودان ومصر،وفي غياب عربي شبه الكامل،وتحديداً المصري زمن النظام السابق«حسني مبارك»تفتقت العبقرية الأمريكية عن إقامة مشروع القرن الإفريقي الكبير مستهدفة المزيد من تقسيم السودان،والسيطرة على حوض النيل،كما وطرحت مشروعاً استعمارياً قديماً رسمه الاستعمار البريطاني تحت اسم«اتحاد شرق إفريقيا»ويضم كينيا وأوغندا على أمل أن يضم هذا الاتحاد الدولة الجديدة في جنوب السودان،والمرشحة إثيوبيا أيضاً للانضمام إليه وهي التي منحتها إنكلترا إقليم أوغادين الصومالي في فترة احتلالها للصومال، كما وتبنت أيضاً وفي مشروع لاحق ومتطور مشروع«خليج كينيا»وترمي من وراء ذلك الى نهب البترول المُكتشف مؤخراً في دول غربي إفريقيا ووسطها قانعة،ومعوّلة على أن توفر في عام2015نحو ربع احتياجاتها من النفط مستخدمة بعض دول المنطقة في إستراتيجية إنهاك الخصم بمشاكله الداخلية كما يحدث في دارفور بعد انفصال الجنوب.

بعد هذا العرض التاريخي الموثق لجوانب التمادي في التحامل على قطرين عربيين،بل وعلى الأمة العربية جمعاء يستدعي ذلك منّا جميعاً التوقف،وإلقاء نظرة عميقة على ما يدور ويرسم من أهداف عدوانية،والغرض من ذلك كله التدارك السريع للأخطار القادمة بمنظور   قومي شامل،والعبء الأكبر يقع على دول المنطقة مصر والسودان أولا ً،والمطلوب برأينا:
1-    أن تعمد القوى والأحزاب السياسية السودانية للترفع عن خلافاتها الثانوية،وأن تتوحد في إطار حكومة وطنية مشتركة تجمع كل أطياف المجتمع في بوتقة واحدة لوقف تداعيات انفصال الجنوب،واستمرار محاولات تقسيم السودان،والعمل الجاد والموحد على بناء القدرات الذاتية لهذا البلد الغني بموارده الذاتية- النفط اليورانيوم-.
2-    على قوى الثورة في مصر الإسراع في المرحلة الانتقالية للوصول إلى نظام حكم ديمقراطي يعزز الأوضاع الداخلية،والبدء بحل المشكلات الموروثة من النظام القديم،والعمل فوراً لتعود مصر إلى ما كانت عليه من دور عربي قيادي،وآخر إفريقي زمن الراحل«جمال عبد الناصر»تحسباً لأي طارئ يصيب أمنها المائي دافعة بأقصى مدى لعلاقات مصرية سودانية متماسكة في ظل حماية عليا لأمن البلدين في شتى الحالات،وهو  ما كان عبر الماضي،وما زال أمناً واحداً.
3-    لابد من دور جديد ترسمه أقطار الثورات التي نجحت في استبدال أنظمتها المشبوهة في تعاونها مع المخططين لهذه الارتكابات،وهي تونس ومصر وليبيا،والأخيرة تبيّن للجميع دعم نظامها السابق لانفصالي دارفور،ومصر مثلها أيضا  قدمت كل العون وحوت قادة الجبهة الشعبية لجنوب السودان بدءاً من«جون كرنغ»وحتى العديد من قادتها،وذلك كله كان خلال تحكم أنظمتها السابقة الاستبدادية بأحوال البلاد…الم يذهب«حسني مبارك والقذافي»لزيارة السودان لمباركة انفصال الجنوب قبل أيام من موعده؟!….

جميع هذه الرؤى لا تعفي الأمة العربية في باقي أقطارها من تحمل ما يترتب عليها من دعم سياسي،وتقديم العون المادي لا سيما في إنعاش الاقتصاد السوداني من خلال توظيف استثمارات الصناديق العربية في مجالي الزراعة والتصنيع الزراعي دعماً لأهل السودان،وعروبته،وتمتينا لإيمان أبنائه بالقيم الدينية،وتأمين الأمن الغذائي الذي بات يهدد الجميع،وعند هذه النقطة تستوقفنا تجارب الماضي القريب،والتي أكدت أكثر من مرة تهاون الحكام العرب في حلّ مشاكل الأقطار الشقيقة وحتى أقطارهم ،أو على الأقل الإسهام في تخفيفها….لقد تأكد لكل فرد عربي من المحيط إلى الخليج الحقيقة المؤلمة لهذا الموقف، ولذلك عمد الجميع إلى الثورة أمل الجميع
لكن لنعد الأمل ولو في أضعف الحدود أن تبدأ صحوات لدى الكل،أو البعض مبعدين عن أمتهم المصائب القادمة،وحتى عن شعبهم المتحكمين به.

محمد علي الحلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

iPublish Development - Top Development Company in Lebanon
زر الذهاب إلى الأعلى