المقالات

أحمد الشقيري في مخيم اليرموك – بقلم: علي بدوان كاتب فلسطيني/دمشق

أحمد أسعد الشقيري (أبو مازن) أحمد الشقيري (1908 –1980) شخصية سياسية فلسطينية، والده هو أسعد الشقيري مفتي الجيش الرابع العثماني، إسماً ومسمى، رجلاً إستثنائياً ومخضرماً في مسار كفاح الشعب العربي الفلسطيني منذ ماقبل النكبة وإلى حين تأسيسه لمنظمة التحرير الفلسطينية منتصف العام 1964، والتي باتت التعبير الكياني والتمثيلي للشعب الفلسطيني الواحد الموحد بين الداخل والشتات.

أحمد الشقيري، علماً من أعلام فلسطين، عاصر وعاش إلتواءات ماقبل النكبة، وويلات النكبة ومابعدها، هو بيرقاً يعلو كل البيارق، صاحب الدور الإستثنائي والكبير في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وبناء مداميك الكيانية التمثيلية والتعبيرية للشعب العربي الفلسطيني بعد سنوات من نكبة العام 1948، فقطع بجهده الكبير الطريق على عملية محو الهوية الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني، وفتح الدروب أمام إستعادة تلك الهوية والشخصية الكيانية لشعب فلسطين المنكوب.

أحمد الشقيري، من ذاك الرعيل من المناضلين الفلسطينيين الذي ضم في  صفوفه قادةً أمجاد فتحوا الطريق أمام إعادة بناء الكيانية الوطنية الفلسطينية بعد عملية التبديد والإقتلاع الوطني والقومي للكيان الوطني الفلسطيني عام 1948. فهو بالذات من طينة أولئك الرجال الذين إلتقطوا المرحلة وبنوا عليها سفر النضال الوطني الفلسطيني الطويل، ومن الذين تركوا بصماتهم اللامعة على مسار الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، ومنهم : ياسر عرفات، جورج حبش، يحيى حموده، أحمد اليماني، إبراهيم  بكر، خالد الفاهوم، بهجت أبو غربية، وديع حداد وغيرهم.

أحمد الشقيري، لو قيض للتاريخ أن يكون عادلاً ومنصفاً، ولكتبته ومدونيه، لوضعه على رأس مجلداته وموساعته، رجلاً مسيساً حتى النهاية، مفوهاً، خطيباً، دبلوماسياً إعتلى أعلى المنابر في الأمم المتحدة ممثلاً لعدة دول عربية كان من بينها الجمهورية العربية السورية، والمملكة العربية السعودية.

شجاعاً غير متهور، دخل دهاليز السياسات العربية من أوسع أبوابها، دون أن يتمكن أحد من إحتوائه أو من تطويعه لصالح سياسات الإستقطاب والمحاور والتمحور الضارة، جريئاً في مواقفه، تحدى النظام الرسمي العربي في قمة الخرطوم بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 فكّرس مقعد فلسطين في الجامعة العربية بعد أن حاول بعضهم إستبعادها بإعتبار شعبها شعباً قاصراً غير قادر على تمثيل نفسه والتعبير عن ذاته بالرغم من وجود منظمة التحرير الفلسطينية في عامها الثاني سنتذاك.

أحمد الشقيري، صاحب الحضور من حيث سطوة التأثير، وزعيماً عربياً كبيراً دون دولة يترأسها أو يقودها، فقارع الجميع من زعامات المنطقة دفاعاً عن شعبه وعن حضور قضية فلسطين، ولم تنل له قناة في إعلاء الصوت الفلسطيني، صاحب منبر لاتعلوه منابر الأخرين، وصاحب كلمة شجاعة وصادقة وسريعة الإنطلاق من لسان خبر الحياة والسياسة ووقائعها وتعرجاتها. هذا هو أحمد أسعد الشقيري، رجل الثوابت الوطنية الفلسطينية، ورجل المبادىء والقيم، الذي سعى لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في ظروف عربية ودولية كانت غاية في التعقيد، فألتقط الفكرة، وأنتهى بالفعل مؤسساً للمنظمة بعد مخاض عسير، ساهم في تشكيله وتشكُّله الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

لقد سجل احمد الشقيري خطوة تاريخية، ونقلة نوعية في مسار الصراع مع الغزو الإستيطاني الكولونيالي الصهيوني لأرض فلسطين العربية. فبناء منظمة التحرير الفلسطينية وقيامها كممثل شرعي وحيد للشعب العربي الفلسطيني كان الأمر الأكثر سطوعاً على طريق إستعادة الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى طريق العودة لفلسطين طال الزمن أم قصر. فقد لمعت الفكرة في ذهنه الثاقب، فأالتقط مجموع التحولات في الحالة العربية وفي البيئة الإقليمية والدولية، مع إنتصار ثورة الجزائر، وتصاعد المد الوطني التحرري في عموم قارات العالم، ونشوء توازن دولي منذ إنتهاء الحرب الكونية الثانية، وتصاعد وتيرة الصوت الشعبي الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وعموم مواقع الشتات الفلسطيني والناقم على النظام الرسمي العربي والساعي لإطلاق شرارات الكفاح الوطني الفلسطيني المسلح كطريق لابد منه لإستعادة الحقوق الوطنية والقومية التاريخية للشعب العربي الفلسطيني فوق أرضه وطنه التاريخي. وفي هذا السياق توائم الكفاح الفلسطيني بين الداخل المحتل عام 1948 وبين مناطق الضفة الغربية والقدس والقطاع التي كانت تحت السيادتين الأردنية والمصرية، ومع الشتات الفلسطيني في سورية ولبنان والأردن. فالشعب الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948 كان قد بدأ فعلياً بشق طريق العمل الكفاحي مع قيام مجموعات ونوى قوى وأحزاب فلسطينية هناك أخذت على عاتقها مواجهة نظام (أبارتهايد) كان يسمى بنظام “الحاكم العسكري” الذي كان خانقاً ومفروضاً على عموم من تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948 وحتى العام 1966. وعلى الضفة الثانية كانت جموع الحالة الفلسطينية تتأهب لإطلاق شرارات العمل المسلح من قطاع غزة وسورية ولبنان، حيث بدأت بواكير النوى الفدائية لحركة فتح وحركة القوميين العرب والجبهة الشعبية/القيادة العامة والتي كانت تعرف تحت عنوان جبهة التحرير الفلسطينية، إضافة لعشرات النوى والجهات والمجموعات الفدائية.

في مؤتمر القمة العربي 1964 (القاهرة) الذي دعا إليه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية، وكلف المؤتمر ممثل فلسطين أحمد الشقيري بالاتصال بالفلسطينيين وكتابة تقرير عن ذلك يقدم لمؤتمر القمة العربي التالي، فقام أحمد الشقيري بجولة زار خلالها الدول العربية واتصل بالفلسطينيين فيها، وأثناء جولته تم وضع مشروعي الميثاق القومي والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتقرر عقد مؤتمر فلسطيني عام، وقام الشقيري باختيار اللجان التحضيرية للمؤتمر التي وضعت بدورها قوائم بأسماء المرشحين لعضوية المؤتمر الفلسطيني الأول (28 مارس إلى 2 يونيو 1964) الذي أطلق عليه اسم المجلس الوطني الفلسطيني الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقد انتخب هذا المؤتمر أحمد الشقيري رئيساً له، وأعلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وصادق على الميثاق القومي والنظام الأساسي للمنظمة، وانتخب الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة، وكلف المؤتمر الشقيري باختيار أعضاء اللجنة الدائمة الخمسة عشر.

تفرغ الشقيري لللجنة التنفيذية للمنظمة في القدس، ووضع أسس العمل والأنظمة في المنظمة واشرف على إنشاء الدوائر الخاصة بها وتأسيس مكاتب لها في الدول العربية والأجنبية واشرف على بناء الجهاز العسكري تحت اسم جيش التحرير الفلسطيني.

وعليه، كان الشقيري رجل المرحلة بكل ما للكلمة من معنى، فألتقط كل تلك التحولات، والإرهاصات الكبرى فسعى لتأسيس البوتقة الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني والتي باتت تضم كل القوى والمجموعات السياسية والفدائية تحت عنوان منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تنتظر بدورها الآن وفي اللحظات التاريخية الراهنة تطوير ذاتها، وإعادة بنائها لتكون من جديد بوتقة تجمع كل القوى بعد صعود حركتي حماس والجهاد الإسلامي، واللتين مازالت كل منهما خارج إطار المنظمة.

كان لمخيم اليرموك، عاصمة الفلسطينيين بالشتات، الذي ولدتُ شخصياً فيه وأبصرت نور الحياة تحت سمائه، موعداُ ولقاءاً مع أحمد الشقيري الذي زاره عام 1964 بعيد تاسيس المنظمة وجيش التحرير الفلسطيني، فيما كنت لا أكاد قد أتممت السنوات الأربعة من عمري. فأنتشر خبر زيارته لليرموك كما عرفنا من أهالي المخيم، كالنار في الهشيم، وزحف الجميع نحو مسجد عبد القادر الحسيني الواقع منتصف مخيم اليرموك، وامتلأت الساحة المقابلة له باللاجئين المتلهفين لرؤية زعيمهم الجديد. وما أن أطل الشقيري ورفاقه على الجموع، حتى التهبت المشاعر، وعلت الهتافات. وكان مشهد الشقيري وقائد جيش التحرير العقيد عبد العزيز الوجيه، ببزته العسكرية الفدائية الكفيلة بتأجيج المشاعر الوطنية عند عموم الناس.

حملت جماهير مخيم اليرموك، ولاجئيه من أبناء حيفا ويافا وصفد وعكا والناصرة وطبرية واللد والرملة والحولة أحمد الشقيري وقائد الجيش العقيد عبد العزيز الوجيه على الأكتاف، وسط هتافات حماسية منقطعة النظير، فتركت زيارة الشقيري لمخيم اليرموك إنطباعات شتى في النفوس، وأوقدت فيها جذوة الأمل بالعودة إلى فلسطين.

غادر المنظمة، وسلم قيادتها بكل طيبة خاطر للجيل الصاعد من أبناء فلسطين ولقوى الحركة الفدائية الفلسطينية المسلحة بقيادة حركة فتح، فقدم إستقالته في شباط عام 1968 داعياً الفدائيين ورمزهم ياسر عرفات لتحمل مسؤولياتهم في متابعة طريق العمل الفدائي وحرب التحرير الشعبية التي إختاروها في مشوار نضالهم على الطريق إلى فلسطين.

من المؤلفات التي تركها أحمد الشقيري التي تدور حول القضايا العربية والقضية الفلسطينية : قضايا عربية. دفاعاً عن فلسطين. فلسطين على منبر الأمم المتحدة.أربعون عاماً في الحياة السياسية. مشروع الدولة العربية المتحدة. من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء العرب.
إلى أين؟ . حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء العرب.

توفي أحمد الشقيري في السادس والعشرين من شباط/فبراير 1980 فتوقف قلبه عن الخفقان، و “تلك الأيام نداولها بين الناس” صدق الله العظيم، عن عمر ناهز الـ 72 عاماً. وبناءاً على وصيته، دفن في مقبرة الصحابي أبي عبيدة عامر بن الجراح في غور الأردن على بعد ثلاثة كيلومترات من الحدود مع فلسطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى