المقالات

الديك بينده كوكوكو والأغاني الهابطة – عزام حدبا

(اتناول الموضوع ها هنا من زاوية الفكر والكتابة والفن وليس تقييم الأغاني فهذا ليس مجالي)
كلنا انصدمنا حينما غنت فيروز “كيفك انت ملا انت”.. فيروز نفسها تحفظت عليها في البداية لكنها تحولت لاحقا الى واحدة من اشهر اغانيها: بتذكر آخر مرة شفتك سنتا.. بتذكر وقتا آخر كلمة قلتا.. وما عدت شفتك.. وهلّق شفتك.. كيفك إنت ملّا إنت.. بتذكر آخر سهره سهرتا عنّا.. بتذكر كان في وحدة مضايق منّا.. هيدي إمّي.. بتعتل همّي.. منّك إنتا ملّا إنتا.. كيفك قال عم بيقولوا صار عندك ولاد.. أنا و الله كنت مفكّرتك برّات البلاد.. شو بدّي بالبلاد.. الله يخلّي الولاد.. إي كيفك إنت ملّا إنت.. بيطلع عبالي.. إرجع أنا وياك.. إنت حلالي.. إرجع أنا وياك.. أنا وانت ملّا إنت.. بتذكر آخر مرة شو قلتلّي.. بدّك ضلّي بدّك فيكي تفلّي.. زعلت بوقتا.. وما حلّلتا.. إنو إنت هيدا إنت.. بترجع؟ ع راسي.. رغم العِيَل والناس.. إنتا الأساسي.. وبحبك بالأساس.. بحبك إنت ملّا إنت
الكلام البسيط المعبر
اذا حللنا كلمات الأغنية سنجدها في البداية بعيدة كل البعد عن تراث المطربين الكبار مثل عبد الحليم وام كلثوم وفيروز نفسها خاصة حينما غنوا قصائد لكبار الشعراء مثل نزار قباني وعمر الخيام واحمد رامي.. لكن بعد قليل من التأمل سنجده معبرا جدا فهو يصف كلام شخصية بسيطة لكن في الوقت نفسه تتصدى لموضوع عميق في النفس البشرية.. بعض العبارات تذكرني باسلوب صامويل بيكيت في مسرحياته.. مثل عبارة ” بدّك ضلّي بدّك فيكي تفلّي ” التي تختصر قصة طويلة من معاناة صبية مع شاب لا مبال حيالها وحيال حبها الكبير له (إنتا الأساسي.. وبحبك بالأساس).. القصيدة كلها في الحقيقة تروي قصة طويلة من المعاناة بشكل مختصر وباسلوب المقتطفات.. لذا تجدها سخيفة في البداية ومن ثم تتعلق بها حينما تجد انها تلامس معاناتك الشخصية مع حبيب غريب الاطوار وهي تجربة أغلبنا قد مر بها.
اللحن يرتقي بالكلام
ناحية اخرى نلحظها في أغاني الرحباني وهي ارتقاء اللحن بالكلام.. ففي أغنية “على هدير البوسطة” تسيطر الترنيمة عليك لدرجة انك تمرر شتيمة “يخربيت عيونك يا عليا” و تجريحا “ولو شو بشعة مرتو” بدون ان تشعر.. وكما في قصة اغنية ملا انت.. تعتاد الكلمات بعد ذلك وتحب هذه القصة الطريقة التي جرت في باص ينتقل من حملايا الى تنورين.. قصة لم تتخيل يوما ما انها قد تتحول لأغنية.
انظر الى سيد درويش
في مقابلة له يعرض فيها كيف لحن لأمه اول لحن في الخامسة عشر من عمره وهي اغنية “سألوني الناس” التي كتبها منصورا في رثاء أخيه الراحل.. والتي تقول فيروز في مطلعها “سألوني الناس عنك يا حبيبي.. لأول مرة ما منكون سوى” ويقال انها بكيت في أول مرة غنتها. ينتقل زياد ليتكلم عن فكرة مهمة تجمع الرحابنة ب سيد درويش: الجرأة في اختيار كلمات الأغاني. فمن كان يتخيل مثلا ان فيروز ممكن تغني هذه العبارة ” والديك بينده كوكو كوكو”؟؟ وهي عبارة اقرب من حيث اللفظ الى عبارات الأغاني الهابطة مثل “بوس الواوا” أو الى أغاني الاطفال على افضل تقدير.. مع ذلك تخرج من فيروز (ومن سيد درويش) قمة في الرقي. اذن مرة اخرى.. نجد ان المعاني العميقة خلف الكلمات البسيطة واللحن المميز البعيد عن المياعة ورقي المغني هو من يجعل للعمل الفني قيمة.. وبين الرقي والاسفاف واد عميق يميزه كل صاحب ذوق رفيع.
قصة بسيطة تعبر عن يوميات الفقير
الحلوة دي قامت تعجن في البدرية .. والديك بينده كوكو كوكو في الفجرية.. ياللا بينا على باب الله يا صنايعية.. يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطية.. طلع الصباح فتاح ياعليم.. والجيب مافيهش ولامليم.. مين في اليومين دول شاف تلطيم .. زي الصنايعية المظاليم.. والصبر أمره طال.. و ايش بعد وقف الحال.. برضه الفقير له رب كريم.
الخلاصة
عمق المعنى.. شخصية الكاتب وكاريزمته.. ملامسة القلوب.. كلها مميزات قد تحول كلاما بسيطا نسمعه في كل يوم الى تحفة فنية وأدبية.. لذلك لا داعي للتنميق اللفظي والصور البلاغية كي تكسب اعجاب القارىء.. “ما حا لحا وما حا بيحب حا”.. من كان ليتخيل ان مسلسل ضيعة ضايعة الذي أزعج المشاهدين بلهجته الغريبة في بداياته سينال كل هذه الحظوة لاحقا؟؟ وتتحول كل عبارة فيه الى كليشيه مستعمل في كثير من أدبياتنا.. العمل الجيد يثبت نفسه ولو بعد حين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى