قصص وعبر

قصة مغمورة عن الاستقلال: حين استشهد ١٤ تلميذا من طرابلس تحت دبابات الفرنسيين.

قبل سنوات من الاستقلال، معركة طويلة ومتنوّعة المظاهر
خاضتها طرابلس ضدّ الانتداب الفرنسي؛ بديهيًا، بسبب عدم الاعتراف بوصاية الاجنبيّ، ولكن أيضًا من إيمان المدينة بأنّ وزنها وكيانها المؤثّر يتجسّدان بزعيمها عبد الحميد كرامي، فساندته وواجهوا الانتداب. هذا الأخير، دخل مدينة يتزعمها كرامي الّذي عيّنه الملك فيصل بن الشريف حسين حاكمًا إداريًا للواء طرابلس، بعدما شغل منصب إفتاء المدينة منذ سنّ صغيرة (25 عامًا). لم تفلح سلطات الانتداب في استمالة كرامي، فحاولت إذكاء فتنة محليّة على قاعدة “فرّق تسد”، من خلال المسارعة بعزله عن منصبه الافتائي، وعينوا مكانه الشيخ رشيد الميقاتي. لكنّ كرامي كان أوّل المهنئين للمفتي الجديد، ففهم الفرنسيون حينذاك أنّ معركتهم صعبة مع زعيم محنّك ونافذ البصيرة.

وتناقلت الروايات مشاهد منغّصة لاستقبالات مندوب سامٍ أو موفد فرنسي رسمي أو حتى مسؤولين لبنانيين موالين لفرنسا، يرفع خلالها الطرابلسيون العلم العربي ويأتون مع زعيمهم عبد الحميد كرامي الى السرايا محمولًا على الاكتاف، يهتفون ضد القوات الفرنسية الّتي لطالما استفزّها هذا التحرّك، فتعتقل كرامي أو تعمد لتوقيفه. ومن مظاهر التمرد، قيام الطرابلسيين برشق الرئيس إميل إده بالبيض والبندورة الفاسدة، تعبيرًا عن غضبهم من سياسته الموالية للانتداب.

ووثّق الصحافي صفوح منجّد في كتابه “طرابلس.. أحداث وشخصيّات”، ليوميّات طريفة كان يحرص عليها أبناء طرابلس فترهّب الجيش الفرنسي الّذي ظنّ أنّ الشعب يجول بالأسلحة والذخائر “إن الطرابلسيين عمدوا الى حمل “القساطل” والتجول بها عند مداخل الميدنة القديمة بحيث أن الجنود كانوا يعتقدون أن هذه القساطل بقياساتها المختلفة هي عبارة عن مدافع حينًا أو بنادق أحيانًا أخرى، فيأخذون حذرهم ويعمدون الى عدم الاقتراب من حدود المدينة القديمة”. هذا المجال مملوكي النشأة، الذي يحتضن أسواق طرابلس الداخليّة وأحياءها الشعبية، شكّل بتفرّعاته الضيقة والمتداخلة متاهة يخشى الفرنسيون التوغل بها، لذلك حاولوا الاستحكام بساحة التّل، فأقامت “قوات الاستحكامات والمتاريس بأكياس الرمل في أنحاء مختلفة من الساحة وتقاطع الطرق المجاورة للسرايا الحكومية، وزودت هذه التحصينات بالرشاشات الثقيلة وبعدد العسكريين”، في إشارة المنجد الى الشرخ الّذي كان يحدثه الفرنسيون بفرز المدينة بين منطقة حديثة وأخرى قديمة.

وليس لهامشيته- لكنّ التسلسل الزّمني يفرض علينا تأخير الحديث عن يوم 13 تشرين الثاني الّذي شهد مسيرة أطلقها تلامذة عزّل من طرابلس ينددون بالاحتلال، وينادون بسقوطه، ما لبثوا أن ارتقوا شهداء، علاوة على أكثر من 25 جريحًا اعتدى عليهم جنود الانتداب السينغاليون بأعنف الردود المسلحة وأكثرها وحشية. ومن المريب أن ترمى هذه البطولة في مجاهل الذاكرة اللبنانية، فلا يشار إليها في كتب التاريخ أو المناهج الدراسية، بالرغم من المثال الوطني الّذي ممكن أن تقدّمه لأجيال ما بعد الاستقلال. في الواقع، تحاول طرابلس وحدها أن تخلّد هذه المحطّة بأقلام مؤرخيها وصحافييها، ومن خلال تكريم رمزي في كلّ ذكرى استقلال، بإكليل من الزهور تضعه البلدية على لوحة تذكارية بأسماء الشهداء عند مدخل مقبرة الشهداء في باب الرمل.

ومن المصادر النادرة الّتي تسرد هذه الواقعة، كتاب الدكتور مصطفى الحلوة الّذي صدر حول سيرة رئيس حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي الراحل عبد المجيد الرافعي “قضيته الانسان، رسالته العروبة، وجهته فلسطين”، في سياق حديثه عن مشاركة الراحل في الصفوف الأمامية لتلك المسيرة، فكان شاهدًا عيانًا لما جرى، في حين كان لا يزال تلميذ بكالوريا في كلية التربية الاسلامية. ولا يلجم المؤلف الحلوة استهجانه للتعتيم على هذه الفدائية الكبيرة لطرابلس في سبيل الاستقلال، فيكتب “كان لطرابلس أن تدفع الثمن الأكبر من شهدائها، في سبيل الاستقلال! ومن أسف أن هؤلاء الشهداء الأربعة عشر، الذين ضرجوا تربة المدينة بدمائهم الزكية الطاهرة، وشكلوا العدد الأوفر لمعركة الاستقلال، لا يؤتى على ذكرهم، لا من قريب ولا من بعيد.”، وفي سياق جديد ينتقد التعتيم على تلك المحطة النضالية “التي تبقى علامة فارقة في مسار طرابلس من أجل استقلال لبنان- في حين طبّل وزمّر لما جرى في بعض المناطق، وهو لا يرقى إلى ما جرى في طرابلس من سفك لدماء أبنائها من الطلبة”.

واستحضر د. الحلوة شاهد عيان آخر، هو رئيس الحكومة الراحل أمين الحافظ الّذي وردت شهادته حول تلك التظاهرة الدامية في كتاب “أمين وليلى- سيرة حياة”، حيث يروي الحافظ “هاجمت دبابة فرنسية التظاهرة، وراح قائدها يطلق النار على المتظاهرين، فسقط من الأطفال، صرعى الرصاص، وداست الدبابة أجسادهم، وكانت مجزرة مروّعة، ذهب ضحيّتها 14 قتيلًا (شهيدًا)، وأكثر من خمسة وعشرين جريحًا.”

في التفاصيل، احتدم غضب الشارع الطرابلسي، غداة 11 تشرين الثاني عام 1943، حين اقتيد الزعيم عبد الحميد كرامي من دارته في طرابلس، بثياب نومه، لينضمّ الى الزعماء المعتقلين في قلعة راشيا. وتحرّك طلّاب طرابلس مع باقي المتظاهرين في مسيرة انطلقت بعد صلاة الجمعة من الجامع المنصوري الكبير الّذي كان يعتمد منذ تلك الحقبة، حتّى يومنا هذا، نقطة انطلاق لتظاهرات كثيرة. وتوجّه المتظاهرون الى مقر إقامة الكابتن لاوسن، موفد البعثة الانكليزية في طرابلس (Spears Mission)، وانتهى ذلك اليوم بسلام.

مجريات أكثر دقة نقلها عبد المجيد الرافعي، في حوار أجريته معه عام 2011 في جريدة البيان (طرابلس)، يذكر خلاله أنّ ذلك الحدث الدامي وقع في اليوم التالي. وكان قد أشار بأنّه مشى مع رفاقه بصحبة أساتذتهم فؤاد الولي ومحي الدين مكوك، والاستاذ درويش التدمري واصفًا اياهم ب”المعلمين الكبار الذين بعثوا بنا النبض الوطني والقومي”.

التظاهرة التي انطلقت من جامع طينال، مرّت بمدرسة الفرير في الزاهرية، فانضمّ اليها رهطً من التلامذة بمن فيهم أمين الحافظ، واتجه الجميع الى التل هاتفين للدبابات التي يقودها السينغاليون والفرنسيون “لتسقط فرنسا.. ليسقط الانتداب.. ليسقط الاستعمار”. ثم تحين تلك اللحظة المرعبة فيقول الراحل الرافعي “لدى وصولنا الى شارع رياض الصلح منقسمين الى صفين الى جانب شجر الكينا، انطلقت الدبابات الناصية بإشارة من ضابط فرنسي لتدهس كل المتظاهرين”.

وفي مقال آخر يحدّد بأنّ الضابط كان فرنسيًا أشقر الشّعر، أشار للجنود السينيغاليين بأن يخففوا سرعتهم عند دخولهم بين صفوف المتظاهرين. عندها، استعجل الاساتذة الطلاب ليصعدوا الى الارصفة، لكن دخول الدبابات بين المتظاهرين كان أسرع. ثم أعطى الضابط الفرنسي إشارة بدهس الطلاب وبإطلاق النار عليهم. واسترجع الراحل الرافعي في “البيان” مزيدًا من تلك الوجوه في لقطات تقطع لها الأنفاس “رأيت منهم أول ولد تنتفض قدماه من تحت الدبابة، وأحمد ظافر الخطيب الذي لم يتجاوز الثالثة عشر من العمر قد مرّ من بين دولابي الدبابة لصغر حجمه، وما لبث أن ابيض شعره بعد يومين من الحادثة”. ولم ينسَ الرافعي كيف اخترق الرصاص ذراع صديقه أمين هاجر التي كان يتأبطها، فمرّوا من بين الدبابات لنقله الى احدى الفجوات الصغيرة للاختباء، ريثما يهرولون الى مستشفى الاميركان في الميناء المعروف حينها بمستشفى “بويز”. وتابع “أغرقت دماؤه يداي وكتابي ودفتري وقد اعتززت بها، فأبقيت عليها للذكرى إلى أن اجتيح منزلي في ال76 ولم يبق لي بعدها صورة واحدة من طفولتي”.

أوقعت تلك الفاجعة الحزن والغضب في نفوس أهل طرابلس، الّتي اتضح في غضون ساعات أنها قدّمت أربعة عشر شهيدًا من طلبتها وهم: سليم صابونة، أحمد صابر كلثوم، رشيد رمزي حجازي، فوزي قاسم شحود، محمد ثروت، عبد الغني أفيوني، محمد علي حسين خضر، عبد القادر مصطفى الشهال، كمال عبد الرزاق ضناوي، وديع خاطر بركات، أحمد جوجو، عماد حسين المحمد، عباس ابراهيم عبوشي، وسليم الشامي. وعلى إثر تلك التطورات الدامية، دخلت طرابلس عصيانها المدني، وكثفت حراكها للضغط من أجل تسريح المعتقلين وخروج الفرنسيين، فساهمت هذه الأحداث بتسريع الافراج عن المعتقلين، وإعلان استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1943.

وذكرت المصادر أنّ جماهير طرابلسية غفيرة زحفت في ذلك اليوم الى قصر كرامي في كرم القلة، تستقبل بشوق الرئيس عبد الحميد. أطل كرامي من الشرفة فعلا التصفيق، بدأ بإلقاء خطابه فاحتدّ التصفيق لأقصى

منقول عن صفحة الصحافية جودي الأسمر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى