قصص وعبر

طرابلس عام ١٩٧٧ من القرن الماضي

جئت إلى طرابلس عام ١٩٧٧ من القرن الماضي ..كنت في بداية العمر (١١عاما) ربيت بين شوارعها وحواريها ومنازلها ، عشت أهلها ، شغفت بداية بدور السينما فيها، ولا أزال أتذكر الأفلام الهندية وأفلام الكاراتيه الصينية، والأفلام الخرافية والكاوبوي ، حتى أننا في بعض الأحيان كنا نسرق أنفسنا خلسة عن عيون المسؤولين كي لا ندفع ثمن التذكرة، ولنا في سينما الكابيتول مثلا ، غير أنني بعد فترة طيش وفي مدارسها ، تعرفت إلى من يحمل في قلبه الدين والإسلام فتعرفت إلى ديني وكانت بداية العهد في مسجد الصديق ثم مسجد طينال والمسجد المنصوري الكبير ، فكنت رائدا من رواد هذه المساجد التي كانت تفتقد إلى شبابها آنذاك .. تعلمت في مدارسها وثانوياتها وكانت ثانوية طرابلس الملعب محضنا تربويا وعلميا لا ينسى ، وفي هذا الصدد لا أزال أذكر الأستاذ عصام كبارة رحمه الله الذي زرع فينا مبادئ الأخلاق والحرص على التعلم وحب الوطن ، كبرت وكبرت ، وصرت ذلك الفتى الحالم الذي حلم بمستقبله فيها ، كانت ترسم في عيوني معالم الشباب والطموح ، عشت مصائبها وآلامها يوم تتكور المشاكل في ملاعبها ، جولات من القتال المرير والموت الصادم ، والتفجيرات المتنقلة ، كانت تتعاقب عليها كلما عنت المشاكل على باب مسؤول أو زعيم ، عشت شبابي مع شبابها فتعرفت إلى أصولهم الطيبة، تعرفت إلى كرم أهاليها وجود أبنائها ولطالما كنت افتخر بصفة لها دون سائر المدن اللبنانية تقول ” طرابلس أم الفقير ” نعم أم الفقير والغني والغريب والزائر ، قلبها مضياف ودورها أمان وشعبها بسام ، عانيت ما عانى أهلها وخصوصا في حروبها المرة ، حملت السلاح دفاعا عنها يوم هجمة الأحزاب عام ١٩٨٥ لإيماني أنها أصبحت موطني يوازي مسقط رأسي ، تعرفت إلى أسرارها ، وكان زقاق الأسرار الذي يصل طلعة الرفاعية بباب الحديد وقعه في نفسي ، وكثيرا ما كنت أزوره بصحبة آخرين متباهيا ومتفاخرا عليهم أنني أعرف زقاق الأسرار وهذا ما لا يعرفه الكثيرون عنها ، عشت فقر أهلها الذي كان يتسم بالعفاف والرفعة ، فقد عملت في مجال البحث الاجتماعي لمدة سنتين دخلت فيها إلى أفقر الدور التي كانت تسطر ملاحم في البؤس والشقاء بسبب صروف الزمان المتعاقبة عليها ، ووقفت على أشد مظاهر الشقاء قساوة ، مشاهد لا تغيب عن البال فهي محفورة في عقارب الزمن لا تغيب .. ضهر المغر وقبة الحمراوي والعقبة الزحول ، والحارة البرانية ، والبحصة ، وتحت السباط ، وزقاق عبس في الميناء ، والدبابسة والسوسية والأسواق .. حارات لا تغيب عن البال ، تجولت كثيرا في مرابعها وآثارها الباهرة الظاهرة المهملة ، فكان لقلعتها شموخ ترك أثره في شخصيتي ولمساجدها روح انعكست على شخصيتي ولمدارسها وقع التجلي الصوفي الذي ينقلني إلى عالم الصفاء الخالص والنقاء الروحي المتصل بخالق الأكوان ، تنقلت بين شوارعها القديمة ، ودورها العتيقة ، فهذا بيت من أقدم البيوت، وذاك بين الحاكم ، وآخر خاص بالأمير المملوكي ، وفي زقاق الأسرار يكمن منزل بربر آغا والي طرابلس الذي بدأ يتهالك بسبب إهمال المسؤولين وانصرافهم عن قيمة عمرانية تحمل حضارة السابقين .. ناداني أحدهم يوما كنت في زيارة لهذا الأثر مع مهتمين ..ناداني بأسف وقال : انظر إلى جدران هذا البيت تكاد تنهار ..أين المسؤولين ، أحمّلك عذه الصرخة عسى أن تلقى آذانا واعية ..وللأسف الآذان ركبتها الجدران ..
هنا يكمن خان الصابون وخان الخياطين وخان العسكر ، وذلك حمام النوري وحمام عز الدين ، وفي الجدران نقوش وكتابات ترشد الزائرين إلى التاريخ والبانين وعظمة البناء .. مارست مهنة التعليم في إحدى مدارسها وهناك قضيت جل عمري مع الطلاب والمربين فكانت تصقل شخصيتي وتعيد بنائها من جديد ، أنهيت دراستي في جامعاتها وبعد فترة أكملت دراستي التربوية في جامعة طرابلس وللاسم في نفسي معنى كبير .. هذه طرابلس التي عرفتها .. تناوشتها المحن وتقاذفتها الخطوب ، وتثاقلت بها الهموم ،واليوم تتابع طرابلس محنة انتمائها الأصيل ، ويدفع أهلها الطيبون ثمن صدقهم ووفائهم ..
طرابلس بلدي وروحي وحياتي
أأبكيك اليوم وقد غدوت الكلمة الصامتة التي تهز عروش الظالمين ؟ أأبكيك اليوم وقد غدا شبابك طعمة لأهل الساسة الفاجرين ؟ نعم أسمع صرختهم وقد بلغت عنان السماء ، أسمع همساتهم في ليالي الشقاء ،
أسمع همومهم وقد هدهم البلاء ، أسمع أنات أمهاتهم ، وأرى ببصيرتي دموع آبائهم وأعيش هموم شبابهم .. لا تظنوا طرابلس بلد الأزعر والطائش ، اذهب وفتش سترى القلوب البيضاء الباسمة التي تتهلل بمرآك وتستبشر بلقاك .
.هذه طرابلس التي عشتها وهذه طرابلس التي أتمنى أن أقضي ما تبقى من حياتي فيها .. فهي لي الروح ..والجسد والمال والولد .. وهي التاج المرصع بالوقار الذي يجعلني أفخر إن كنت في أي مكان في العالم عندما أسأل من أين أنت ،
فيأخذني الزهو ، وتتسامى في نفسي الكلمات ، لأقول : أنا من طرابلس .. أفضل بقاع الأرض .. هذه طرابلس والكلام لم ينته بعد
منقول عن صفحة الاستاذ عمار صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى