المقالات

وداعا أمير الكلام \ كتب: د . فيصل طالب

كثيراً ما يزداد انتباه الناس إلى من حولهم بعد رحيلهم، فيستعيدون حضورهم الفذّ في غيابهم، وقد تضاعف الإحساس بقيمتهم والإقرار بمحاسنهم، تحت وطأة الفقد وألم الخسارة. لكنْ أن يحظى هؤلاء وهم أحياء بكلّ الحضور الساطع، وبالإجماع اللافت على الحاجة إليهم، وبالتقدير الكبير لما حباهم الله من قدرات وخصال، فتلك والله مكرمة من الخالق يودعها من أعزّه في حياته ومماته على السواء.

جان عبيد واحد من هؤلاء الذين أدّوا واجبهم بصدق، وسَعَوا إلى مقاصدهم بنبل، واستشعروا الأخطار بالرؤيا العميقة والعين الثاقبة، ونبذوا العبث والهذيان بجدّية المسعى وصلابة الالتزام.

كثيراً ما كان “أمير الكلام” يردّد أنّ المسؤول يجب أن يتحلّى بصفات ثلاث مشتقّة من جذر واحد: الحاكم والحَكَم والحكيم. وكم رأى كثير من الناس أن تلك المزايا تنطبق على هذا الرجل وتليق به فكراً وممارسة! لكنّ المنصب الذي تراءى للكثيرين أنّه اقترب منه، سرعان ما كان يبتعد عنه، لأسباب يفسّرها هو: “صناعة الرؤساء ليست وقفاً على ظروف الأرض، بل أيضاً على أحكام السماء!”.ولقاء ذلك، وتعويضاً عن جري الرياح بما لا تشتهي السفن، كان الرجل يتلقّى مزيداً من التعاطف، ويضيف إلى رصيده السياسي والأخلاقي مزيداً من التقدير والاحترام.

ذلكم هو جان عبيد المثقّف الذي لم يحسن الدخول إلى عالم السياسة إلّا من أبواب الفكر والأدب والاجتماع والتفقّه السمح بأحكام الدين ومقاصده، مصطحباً معه دائماً القرآن الكريم والإنجيل المقدّس وديوان أبي الطيّب وشذرات من أبي تمام وأبي العلاء…، فيطوف بجليسه في فضاء النضج الإنساني والانفتاح الثقافي والرؤى النافذة التي لا تعرف السفر إلى غاياتها إلّا على دروب التلاقي، ولا تمتطي لذلك سوى جواد الإقدام بثبات الفارس الشجاع، ولا تحلّق إلّا بأجنحة الحوار والوفاق على أثير التجربة الثرّة المطعّمة بنور المعرفة الموسوعية وهدوء الطبع وذكاء الابتكار وسرعة البديهة.

ذلكم هو جان عبيد صديق الجميع، ونقطة الوصل، وعاشق الجسور، ونابذ الجدران، وصائغ المشتركات التي تجمع ولا تفرّق.

هو كبير آخر من بلادي يودّعنا في زمن صعب. رجاؤنا اليوم أن يكون وداعنا الموجع لهذه الشخصية الاستثنائية درساً في إيثار قيم الوحدة واللحمة والاعتدال، وردم الهوّات، ورأب التصدّعات، وإنقاذ سفينة الوطن من الموج المتلاطم حولها، وتوجيه أشرعتها بالاتجاه الذي يحفظ سلامتها، ويبعد عنها الأخطار المحدقة بها من كل حدب وصوب.

المصدر: موقع الانتشار الالكتروني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى