قصص وعبر

هو-قصة قصيرة بقلم:صفاء بركات

حجرة مطفأة الأنوار إلا من شعاع بسيط يدخل منه ضوء خافت ، وفي ركن الحجرة على الأرض يجلس شاب قارب العشرين باكيا تارة ، وصامتا معظم وقته ، يسترجع ما مضى فتنتابه نزعات الألم ، وحسرات وندم ، يتذكر كم قصر في حق خالقه ، في حق أسرته ، في حق نفسه .
فتح هاتفه ، عاد يسترجع أسماء أصدقائه ، رهط من رفاقه لا حول لهم ولا قوة إلا غوايته وانحرافه ، لقد كان لهم بمثابة قطعة قماش يطوونها أو يبسطونها متى أرادوا ، أو قطعة طين يشكلونها كما يشاءون دون همسة عتاب ، أو نبرة ضيق ، أو لمحة تبرم .
كان مسلوب الإرادة لثلة كانت معه بالمرحلة الثانوية ، أودت به لاستمراره في الرسوب السنة تلو السنة ، بدأت بالتدخين وانتهت بالإدمان ؛ مما أبعد عنه الأهل والسند ، وأصبح حطاما يخشى من حوله التعامل معه .
ماتت أمه بحسرتها كمدا وهما ، وانعزل عنه ذووه ، ولم تبقَ إلا حجرة تضمه ، يُطرق بابه ، فيفتحه ليجد الطعام على باب حجرته ، يئست أسرته من معالجته في أفضل مستشفيات الصحة النفسية ، لكن نفسه كانت مصابة بما هو أصعب ، مرض أصعب من الإدمان ، كانت تستسلم لمرض عضال ، إنه اليأس ، وأمام اجتناب الجميع له ، عاد يحادث رفاقه ، عاد يستسلم لنزغات الشيطان ووسوسته ، وبين الضعف والجفاء ، اختار انعزال جبري بحجرته ، سجنا فرضه على نفسه بغير إرادته .
مل من الباب المغلق ، فأراد فتحه ، وإن خُيل إليه رفض من معه بالشقة هذا التصرف ، لكنه كره الظلام .. كره الوحدة .
ربما هذا الشعاع يكون متنفسه في الحياة الباقية .
طرقات على الباب .. هل توهم ذلك ؟
ربما يتوهم في المرة الأولى ، ويتشكك في الثانية .. لكن الطرق يستمر ، ولمَ لم يدخل الطارق ، والباب مفتوح ، أو شبه مفتوح ؟!
أمازال من الأشخاص من يحترم خصوصيته ؟ أمازال هناك من يتعامل مع إنسانيته ؟
خطوات أقدام تقترب ، والسواد الحالك الهالك لا يوضح إلا ملامح يعرفها بقلبه قبل عينيه .
مد الخيال يده ، فأسرع ليمسك بها ، عادت اليد تساعده على النهوض ؛ ليترك هذا الانبطاح لكن يد الشاب تزعزعت ، وانسحبت ، عادت اليد تمتد مرة أخرى ، ولكن يده مازالت
تهرب ، أمسكت تلك اليدين بقوة بيده ، لم يستطع الفرار من قبضتهما .. ألقت اليدان يده وهمت بالانصراف ، لكنه حاول أن يناديها ثم عاد لوضع الاستسلام ، ها هي اليد تعود مرة أخرى ، صارت رغبته أعلى في التفاعل واستجابته أسرع ، أمسك بتلك اليد اليمنى ،قد تمنحه تذكرة مرور للآخرين .
ها هو يتمسك بها .. صعد معها ؛ ليجلسا سويا على السرير ، استلقى وأرجع ظهره إلى الوراء .. قام صاحب اليد بتزميله ، ثم أضاء النور ، شعر الشاب بالخوف ، وانكمش في نفسه ، لكن من صمم على مساعدته لن يخرج من تلك الحجرة إلا وقد أعاد له حريته ، أشار الشاب بعينيه للباب ، أُغلق الباب ، أشار للنور ، لكن النور لم يُطفأ .. طلب منه أن يطفئه هو إن أراد.. مسح شعره بيده .. شعر الشاب بالحنان .. رتب على كتفه ، نظرات ترقب من الشاب .. ثم اطمئنان .. عادت العينان تطلبان الهاتف
لكن عيني الشاب تقول : لا أستطيع
وأمام إصرار الطالب .. أعطاه الهاتف ، مسح أسماء رفاقه .. احتضنه ، شعر الابن في بادئ العناق بالدهشة ثم كان الاطمئنان .. ردد قلبه : أبي .. أيوجد أمل ؟
الأب : الأمل في الله .. ثم في إرادتك .. وأنا معك .
رن الهاتف ، نظر الأب للهاتف .. أعطاه إياه
نظرات حائرة بين الأب ، وبين المتصل ، إنه رفيقه
لا تعبيرات تظهر على ملامح الأب
الابن يطلب من والده أن يرد هو .. لكن الأب يصمم أن يرد بنفسه .
ارتعشت يداه وهو يحاول الرد .. تصاعدت أنفاسه ، تلعثمت كلماته وهو يقول : أنا لست متواجد معكم .. أبدأ صفحة جديدة مع أبي
ثم أغلق الهاتف ، ابتسم الأب واحتضنه ، وجذبه من يده ، وفتح نافذة الحجرة ثم أخذه خارج الحجرة ؛ لينادي على أخوته قائلا : رحبوا بأخيكم العظيم .. رحبوا بأخيكم الجديد .. صاحب الإرادة الحقيقية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى