تكنولوجيا

التكنولوجيا الرقمية والإنسان-إعداد د. مصطفى الحلوة

نظّم “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية “، بالتعاون مع مؤسسة (Hanns Seidel) الألمانية، ورشة تفكير ونقاش، بعنوان:” التكنولوجيا الرقمية والإنسان: متى تُصيب ومتى تتجاوز حدودها؟”، وذلك يومي 4 و5 حزيران 2021، في قاعة المحاضرات 1188، العائدة لمركز تموز – جبيل.

تقدَّم الحضور المسؤول الإقليمي لـِ”هانز زايدل” السيد كريستوف دوفارتس، إلى فاعليات بلدية ودينية واجتماعية وتربوية وصحية، إلى مهتمين، وإلى طلبة جامعيين في مرحلة الدراسات العُليا.

في الجلسة الإفتتاحية، تعاقب على الكلام: رئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره، السيد دوفارتس، الأستاذ طوني غريِّب مندوب “هانز زايدل” في لبنان، ومنسق أعمال الورشة د. نديم منصوري.

إذْ رحَّب د. العكره بالسيد كريستوف دوفارتس، فقد شدَّد على توثيق أواصر التعاون بين “مركز تموز” وبين “هانز زايدل”، لما لهذا التعاون البنّاء من دور في تفعيل الحراك المدني، على المستويين الفكري والثقافي. وبدورهِ، ثمَّنَ السيد دوفارتس مسيرة العمل المشترك، التي ترقى إلى بضع سنوات، متوقّفًا عند وحدة المنطلقات والخيارات والانتظارات بين شريكي هذه المسيرة.

أعقبت الجلسة الإفتتاحية ستُ جلسات عمل، أكبّت على أطروحة الورشة، عبر العناوين الآتية: التكنولوجيا الرقمية والإنسان/ التكنولوجيا الرقمية ومستقبل الصحة/ التكنولوجيا الرقمية والاستهلاك/ المخاطر الأمنية للتكنولوجيا الرقمية/ التكنولوجيا الرقمية ومستقبل البيانات/ تعزيز الحوكمة الرقمية في إدارة الكوارث والأزمات.

ولقد امتازت الورشة بحوار تفاعلي بين الحضور والمحاضرين، بما أفضى إلى البيان الختامي، بمحطاته الأربع:

أولاً- في جدل التكنولوجيا/ الإنسان: أسئلة وهواجس
1- هل يكونُ تقدّم العلوم على حساب إنسانية الإنسان؟ وهل من سبيل إلى المواءمة بين التقدم العلمي والإنسان، فلا يُسلب إنسانيته، ولا يخسر العلم شيئًا من اندفاعته ومن مسيرتِهِ الظافرة؟

2- هل نذهب بعيدًا مع الفيلسوف جان جاك روسو، أم نتحوّط لجهة رؤيته، القائلة إن الحضارة، بإنجازاتها، تقود إلى حياة مصطنعة ومنحطّة، بل إن الحضارة والعلوم يُفسدان الخير الطبيعي لدى الإنسان؟

3- هل نُجاري الفيلسوف فرنسيس فوكوياما، إذْ يُعلنُ نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/ المادة، أي انتصار الموضوع اللاإنساني على الذات الإنسانية، في ما يُشبه نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي؟

4- هل يأخذنا عصر الرقمنة إلى كونٍ جديد، حيث يغدو الإنسان فيه كائنًا، لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيم؟

5- هل الانتقال إلى عبودية عالم الأشياء جعل الإنسان المعاصر رازحًا تحت أسر عملية الإنتاج والإستهلاك؟

6- هل ستكون الغلبة لمسيرة العلم، فيُطيح منظومات القيم التي تعيّشت عليها البشرية ردحًا طويلاً من الزمن؟

ثانيًا- في الحقائق والرؤى
1- تتميّز كل واحدة من الثورات الصناعية الأربع باختراقات تكنولوجية، أحدثت نقلة نوعية في أنماط الإنتاج والاقتصاد، إمتدادًا إلى الحياة الفردية والجمعية، وعلاقة الإنسان بالطبيعة والأشياء.

2- إذا كانت الثورة الصناعية الثالثة تمثِّل الرقمنة البسيطة ، فإن الثورة الرابعة، التي نستظلّها في هذا العصر، تمثِّل الرقمنة الإبداعية. وبهذا تُشرَّعُ الأبواب أمام احتمالات لا محدودة، من خلال الاختراقات الكبيرة لتكنولوجيات ناشئة، في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وانترنت الأشياء، والمركبات ذاتية القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيا النانو ، والتكنولوجيا الحيوية، وعلم المواد والحوسبة الكمومية .. وسوى ذلك من اختراقات مذهلة.

3- من شأن الإنجازات الرقمية دعم أهداف التنمية المستدامة، من منظور اقتصاد المعرفة، الذي باتت له هيمنةٌ في مختلف بلاد العالم، فقد تكون لهذه الإنجازات آثار سلبية، بالنسبة إلى حقوق الإنسان، وتهديد الخصوصية وتقليص الأمن وتفاقم عدم المساواة.

4- إن للبيانات الضخمة، بخصائصها المميزة: حجمًا وسرعةً وتنوّعًا، ما يُؤهِّلها لعددٍ كبيرٍ من الاستخدامات الشخصية، والاستخدامات الحكومية، وتحسين أداء المنظمات الحكومية والبلديات، إضافةً إلى الاستخدمات الاقتصادية والطبية والتربوية وسواها.

5- إذْ لا مُستقبل لأي دولة ما لم تتحوّل من دولة مستهلكة إلى دولة منتجة، يكون للإبتكار فيها، عبر التكنولوجيا الرقمية، حضورٌ، فذلك من منطلق أن الابتكار وسيلة فاعلة وحاجة ماسّة لإيجاد حلول ريادية، في مواجهة التحديات الكثيرة في مختلف الميادين، لا سيما زمن الأزمات الطارئة (كما هو الحال مع جائحة كورونا).

6- يمكن للتكنولوجيا أن تُساعد في جعل العالم أكثر إنصافًا وأكثر سلمًا وأكثر عدلاً. ويكفي أن نعلم ما للهوية الموحدة
National ID)) من إيجابيات للدولة ولأصحاب العلاقة على حد سواء.

7- إن التكنولوجيا، بكل أذرُعها وتجلياتها، إذْ تخرج من كونها مجرّد أداة إلى حيِّز الماهية، فهي تستحيل معضلةً، على المستوى القيمي الأخلاقي. وفي هذا المجال، فإن الذكاء الاصطناعي يُشكل أكبر التحديات الأخلاقية. ناهيك عن مُنجزات الثورة البيوتكنولوجية التي تضعنا أمام تحوّل نوعي عميق، يتمثّل في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الحياة (مشاركة الله في الخلق!).

8- لما كان للتكنولوجيا- أي تكنولوجيا- قوتان مُتعارضتان: قوة الخلق وقوة التدمير، فإن السطوة التي طفقت تمارسها على حياة الناس، لا سيّما الروابط الاجتماعية، تعودُ إلى الاستعمال المفرط لأدواتها وبرامجها.

9- بمساعدة تقنية انترنت الأشياء، يُمكن توفير القدرة على اتصال أي شخص بالشبكة،والتحكم بأشياء وتطبيقات مُتعددة عن بُعد، وبالتالي انتهاك الخصوصية والتجسّس على المواطنين.

10- أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي من ابرز الوسائل، التي ترتكز عليها المخططات الاستراتيجية لنشر العنف والفوضى والأعمال الإجرامية ونشر الشائعات والأخبار المغلوطة، وزعزعة الاقتناعات الفكرية والثوابت العقدية.
11- للإرهاب الرقمي السيبراني مروحةٌ واسعة من المنعكسات السلبية والخطرة على البنى التحتية، وعلى المؤسسات المالية والمصرفية ووسائل النقل والملاحة الجوية . إضافة إلى الآثار النفسية على البشر (الخوف- تأثر الصحة النفسية والعقلية والجسدية- قلة الثقة بالمنظمات والمؤسسات).

12- إن مكافحة الإرهاب الرقمي ليست مسؤولية الأجهزة الأمنية وحدها، بل هي مسؤولية كل مواطن (كل مواطن خفير). علمًا أن لا إمكانية للقضاء عليه، وإنما التخفيف من أضراره.

13- إن الإدمان الرقمي، المترجِّح بين ممارسة اللعب المفرط والإنشغالات الجنسية والإفراط المعلوماتي والمقامرة.. يُشكِّل تحدّيًا أخلاقيًا كبيرًا، كونه قد يُفضي إلى الموت والانتحار واضطراب العلاقات الأسرية، وسوى ذلك من منعكسات خطرة.

ثالثًا- في المقترحات والتوصيات
1- المطلوب أنسنة التكنولوجيا وليس رقمنة الإنسان، عَبْرَ إيجاد مدوّنة أخلاقية رقمية، على غرار ما هو رائجٌ في مجال البيولوجيا ومجال الإيكولوجيا (أخلاقيات الطب، وأخلاقيات الهندسة الوراثية وأخلاقيات البيئة)، فتكون أخلاقيات التكنولوجيا.

2- التركيز على انترنت الإنسان وليس انترنت الأشياء، فبدون أنسنة الابتكار والإبداع لا يُكتبُ النجاح لأي مجتمع.
3- يجب مواجهة ما يُطلق عليه “الحتمية الرقمية”، من خلال تأصيل وعي تكنولوجي، من منظور قيمي إنساني.

4- التربية على المواطنة الرقمية، في إطار مهارات ومنظومة قيم، وتسليك هذه التربية، أيّ جعلها سلوكًا يوميًا لمستهلكي التكنولوجيا الرقمية. وهنا يبرز د ور المدرسة والجامعة، كما الأهل، للقيام بهذه المهمة.

5- إسهام المدرسة- كما الجامعة- في عمليةالتحوّل الرقمي، من خلال توفير البنية التحتية الرقمية، وتجهيز الصف التوافقي، وتأسيس أكاديميا التكنولوجيا والإبتكار، وتطوير المناهج، وإنشاء مجتمع المعلمين، وتعزيز العلاقة مع الشركاء، وصولاً إلى المتعلّم الإنغماسي (Immersive interactive) .

6- ربط مسار الكفايات بين المدارس والجامعات من جهة، وسوق العمل من جهة أخرى، بما يُحضِّر التلامذة لريادة الأعمال. علمًا أن لحاضنات الابتكار وريادة الأعمال دورًا فاعلاً في هذا المجال.

7- تجهيز البنية الحاضنة للابتكار، عبر مراكز خدمة المجتمع ومشغل الابتكار ومصنع المحتوى الرقمي.

8- تعزيز دور الاقتصاد الرقمي، في مجالات مُتعددة، لا سيما على صعيد التجارة الإلكترونية، التي لها منافع شتّى (تسريع الحركة الاقتصادية- توفير على المستهلك ماديًا – جودة السلعة الخ).

9- في إطار تعزيز التكنولوجيا الرقمية، لا بُدَّ من اعتماد تقنية النانو (Nanotechnology)، من منطلق امتلاكها القدرة على كفاءة استهلاك الطاقة، والمساعدة في تنظيم البيئة، وحل العديد من المشكلات في المجال الطبي، والزراعي، وإلى قدرتها في زيادة الإنتاج الصناعي، بتكاليف منخفضة.

10- لا بد من استحداث الحكومة الإلكترونية- وقد غدا لها انتشارٌ واسع في العديد من الدول- لما لها من دور فاعل في كبح الفساد والرشوة وتسهيل معاملات المواطنين.

11- بما يخصّ الإدمان، في مجال الانترنت، ينبغي التركيز على دور العائلة، عبر علاقات أسرية (بين الوالدين والأبناء)، مبنيّة على التفاعل الإيجابي، تراعي حدَّي الإفادة من المعلومات وعدم الإفراط في تعاطي الانترنت.

رابعًا- لبنان والتكنولوجيا الرقمية/ واقعًا ومُرتجى
بهدف وضع لبنان على الخارطة الرقمية، وتحسين وضعه الابتكاري، ينبغي اعتماد التدابير وآليات العمل الآتية:
1- حول الإجراءات القانونية: إقرار التشريعات التي تُساعد على تفعيل مسار الاقتصاد الرقمي / إنشاء صندوق للاستثمار في المشاريع البحثية التطبيقية/ تطوير تشريعات توفِّر للجامعات الدخول في مرحلة جامعات الجيل الرابع.

2- على صعيد الإجراءات المالية: تسهيلات ضريبية وجمركية تُشجِّع نشوء صناعات تكنولوجية/ زيادة الإنفاق على البحث والتطوير/ إجراءات مالية تُشجّع على التعاون بين لبنان والدول الرائدة في مجال الابتكار.
3- على صعيد تكوين الأطر البشرية: إيجاد الآليات المناسبة لاكتشاف المبدعين والموهوبين ورعايتهم في سن مبكِّرة، مع تطبيق مبدأ التحفيز/ إطلاق مسارات تخصّصية وماسترات في الابتكار والتكنولوجيا.
4- بما يخصّ الإجراءات المؤسَّسية: تفعيل مؤسسات البحث والتطوير في القطاعين الخاص والعام/ إيجاد “الحاضنات التكنولوجية” و”المؤسسات الوسيطة” التي تربط بين البحث والتطوير من جهة، وبين الإنتاج والخدمات من جهة أخرى/ العمل على تأمين مراكز خاصة بالابتكار (Innovation centers)، ومختبرات التصنيع، في جميع المناطق اللبنانية/ تمكين براءة الاختراع اللبنانية عالميًا/ زيادة إشراك مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمؤسسات الحكومية في النشاطات التعليمية، والبحثية الابتكارية.

5- بما يخص الأمن الرقمي: إنشاء هيئة ناظمة، تضمّ متطوعين اختصاصيين ذوي خبرة واسعة، في مجال الأمن السيبراني. وعلى أن تخضع هذه الهيئة مباشرة لمجلس الوزراء، وتضم ممثلين عن قطاع أمن المعلومات في مختلف الوزارات والمؤسسات الرسمية، المالية والحيوية. وتُكلّف هذه الهيئة بإعداد خطة واضحة واستراتيجية للأمن السيبراني/ فرض منهاج تعليمي خاص بالأمن السيبراني، كمادة أساسية في المدارس والجامعات/ تحضير خطط إدارة الكوارث، في حال الهجمات الإرهابية الرقمية، وتحديثها بشكل دوري.
6- تدابير أخرى: إنشاء الرقم الوطني، وفق معايير خُوارزمية، وربط هذا الرقم الوطني بقواعد المعلومات المتواجدة في المؤسسات والإدارات العامة لإنشاء لجان بعمل مستمر مع المؤسسات والإدارات لتنظيف الـwork flow، بهدف تخفيف المعاملات، حتى إلغاء الورق/ إنشاء شبكة Network سريعة وشبكة ثانية بديلة لحالات الـDisaster recovery/ تحضير برامج توعية حول المعلوماتية، على غرار برنامج (the doctors).
7- أخذ العبرة من انفجار مرفأ بيروت (4 آب 2020) وسدّ الثغرات التي شكّلت عقبات في تعاطي تلك الكارثة، وذلك عبر: إيجاد سلطة واحدة لاتخاذ القرار مع اعتماد رؤيا استراتيجية ومخطط سياسي واضح/ جمع الـData في مكان واحد وتكون متاحة للجميع/ توحيد المرجعية (استلام المساعدات والهبات العينية والمالية والمسح وتوزيع المساعدات/ تعزيز دور “هيئة إدارة الكوارث ” ووضع العمليات على خلافها تحت إشراف “غرفة العمليات المتقدمة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى