المقالات

الصوت التفضيلي اليتيم – سلاح السلطة الأمضى – د. سابا قيصر زريق

لم تُترك تهمة ضد المستأثرين برقابنا إلا وأُطلقت بحقهم مفادها أنهم يجهدون لتأبيد التصاقهم بكراسٍ كادت تتهاوى من ثقل ظلهم. فالبعض يتهمهم، عن حق لا يحتمل الجدل على الإطلاق، بأنهم فاسدون، والبعض الآخر يتهمهم بأنهم مفسدون، بعد أن نهبوا أموال الوطن واختلسوا من المواطنين جنى أعمارهم، ومن الأرملة فِلسها الأخير. غير أن رمادهم لم يعد يغشّي العيون، إذ إن هذه الطغمة تتذرع، إمعانًا في غيّها، باللجوء إلى وسائط ديمقراطية في الشكل، تعززها صيغتنا الهجينة ودستورنا الطوائفي وقانون انتخاب أخرق أكثر طائفية، يعكس؛ بهتانًا؛ ما يسمى بـ “الديمقراطية التوافقية”. سُنّ هذا القانون العجيب، وهو أمر لا يخفى على أي مواطن، لبيبٍ كان أم لا، على مقاسات وقياسات طائفية ومذهبية ومناطقية، ليوهم مشرّعوه الرأيَ العام، الأكثر لبابةً من أي وقتٍ مضى، بأن حكّامنا منتخبون وفق معايير العدالة الديمقراطية؛ وأن إدراج الصوت التفضيلي الواحد في القانون ليس إلا جزئية بسيطة، لا ينبغي إضاعة الوقت بالتوقف عندها.

ملّ القرطاس من مِداد منتقدي هذا القانون؛ كما ازدادت صفحات الصحف اسودادًا وانشغلت موجات الأثير وقنواته بضجيج الأحرار، الذين رأوا في ذلك الصوت الواحد سلاحًا ماضيًا بيد مَن على يدهم انكسر الوطن، بإفقارهم، وإدمائهم، وإذلالهم استعبادًا.

وجريًا على عادتهم بإلهاء المواطنين بمواضيع جانبية، وإن كان غالبها مهمًا، هي حتمًا ليست أكثر أهمية من حصر الصوت التفضيلي بواحد وواحدٍ فقط الذي يرمي أولياء السلطة بفرضه إلى تشتيت أذهان المواطنين بالتمادي في مناقشة هذه المواضيع، أذكر منها تخفيض سن الإنتخاب الى 18 سنة وهو مطلب محق، وإنشاء البطاقة الإنتخابية الممغنطة والميغاسنتر وهما مطلبان محقان أيضًا، بعد أن تدهورت العملة الوطنية إلى حد بات فيه الاقتصاد في التنقلات ضرورة قصوى، والكوتا النسائية الضرورية ، وإن هي تحدّ من إمكانية تجاوزها بحيث يُسمح لعدد أكبر من السيدات بتمثيلنا، واقتراع المنتشرين الذي يحور ويدور من لا يرغب فيه لأسباب غير مقنعة، وموعد إجراء الإنتخابات الذي عُمل على استباقه لحرمان الشباب الواعد من محاولة إحداث التغيير، الخ. لا شك أن المواضيع المذكورة هي من المواضيع الأساسية التي كان على المجلس النيابي أن يعتمدها في تعديلٍ لقانون الانتخاب منذ زمن طويل، محولاً إياه، إلى قانون أقرب إلى الديمقراطية الحقيقية مما هو عليه القانون الحالي. وفي خضم المناقشات العقيمة، وجدت أن قلّة فقط من أصحاب القرار تطرقت مؤخرًا إلى وجوب زيادة عدد الأصوات التفضيلية، مما أدى إلى ذوبان هذا الطرح المصيري في المواضيع المشتِّتة الأخرى.

لن أدخل هنا في تفاصيل استعمال معظم رؤساء اللوائح البارزين للصوت التفضيلي الواحد لتعزيز هيمنتهم، ليس فقط على الآخرين من حاملي الحواصل الإنتخابية فحسب بل، ومن خلالهم، على دوائر انتخابية بأكملها. ولن أردد المعلوم، ألا وهو أن تقييد حرية الناخب من جهة حصر صوته بلائحة واحدة فقط، ومنها بمرشح واحد فقط، يحبط عزيمة الأحرار أمام صعوبة، لا بل استحالة، إجراء تغيير جذري في تركيبة المنظومة القهّارة التي لا ترأف ولا تشفق. وبالتالي، إن المحاولات الصادقة لأرباب ما يسمى بـ “الثورة”، وأنا أفضّل تسميتها بما هي فعلاً عليه، أي “الانتفاضة”، التي ولّدها حَراك مدني واسع، خبتت لألف سبب وسبب لا مجال لذكرهم هنا. وهي لن تتمكن من قلب الطاولة على المقامرين بمقدراتنا، الذين ما برحوا يراهنون على إفقارنا، وذلك لسبب بسيط ألا وهو أن لوائح الإنتفاضة التي سوف تتشكل لخوض غمار المعارك الانتخابية في معظم الدوائر لن تنجز خُروقات تكون كافية لإنجاز التغيير، إلا بتوفر شرط واحد وهو أن تقوم الأكثرية الساحقة من الناخبين، أي الطبقة التي تعاني الأكثر من جور الحكّام، بممارسة حقها لا بل واجبها بالاقتراع.

تبين الإحصائيات ، ولسوء الحظ ، أن غالبية المواطنين يؤثرون، باستسلام فاضح، عدم تكبد عناء الانتقال إلى أقلام الإنتخاب لأنهم على يقين بأن صوتهم لن يقدم أو يؤخر. ونتيجة لهذا الكسل، فإن الحال لن تتغير لأن معظم المواطنين الذين أتوا بالنواب الحاليين قد يعيدون الكرة وتستمر المأساة. وآمل أن يكون ذلك من الماضي في الإنتخابات المقبلة وأن يكون هنالك للإنتفاضة وما رافقها من تحركات شعبية على مساحة الوطن، معنىً جديدًا وجدّيًا. فهي حرّكت في وقت من الأوقات العنفوان والمشاعر واستحدثت أملاً حقيقيًا في إعادة بناء الوطن المكسور. غير أن هذا الهدف المرجو لا يتحقق فقط بالتظاهر، وحتمًا ليس بالاعتداء على أشخاص وممتلكات. لن يحصل التغيير إلا بتهافتنا جميعًا يوم الانتخاب، بتصميم أكيد وبأعداد كبيرة، لندلي في الصناديق بأصواتنا الحرة ونلقّن الحكّام الجائرين الدرس الذي يستحقونه. فإن لم نتمكن من حمل “ممثلينا” الحاليين في الندوة النيابية على تعديل قانون الانتخاب برفع عدد الأصوات التفضيلية إلى أقلّه صوتين والأفضل ثلاثة، فلْنُدْلِ بـ “نقّنا” في الصناديق أصواتًا لصالح التغْييريين، بخاصة في الدوائر المختلطة، مما يفسح في المجال أمام الناخبين لاختيار أكثر من مرشح أو مرشحة يجدون فيهم أو فيهنّ طاقات تسهم في إرساء قواعد جديدة لديمقراطية حقيقية.

ولنحجم عن تكرار أخطاء الماضي المميتة، التي دأب اللبنانيون على ارتكابها منذ عقود، كما تشهد على ذلك الأبيات الآتية لشاعر الفيحاء الراحل، من قصيدة نُظمت في منتصف القرن الماضي:

أنـاديـكُـمُ هـــذي الـنـيــــابـــةُ أَقـبلَـت وكلُّ فـتًى منهم لـهـا (مـشَّــطَ) الذقنا
فلا تُـسندوا الــكـرســيَّ وهــو مقدَّسٌ الى قـذِرِ قــد لـــوَّث الــذيــلَ والرُدْنا
سيصبو الى صرحِ الـنيـابـةِ فــي غدٍ أناسٌ لهـم فــي كــل كــارثـــةٍ مجنى
سـيـصبو اليـه أَخـرقُ الـرأي عاجــزٌ سـيصبو اليه بـاهــلٌ أّلِـــف الـجُـبـنـا
سيصبـو الـيــــه تـاجــرٌ رأسُ مــالـهِ بـلادٌ به تشـقى وشعبٌ بــه يـضنـــى

د. سابا قيصر زريق
المصدر جريدة النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى