المقالات

العام الثالث من “الربيع العربي”: ستة دروس قاسية بقلم انطوان حداد (قضايا النهار)

الانتفاضات الشعبية التي تهز العالم العربي مطالبة بالحرية والكرامة والديموقراطية وباسقاط انظمة الاستبداد طوت هذا الاسبوع عامها الثالث.

سنة 2013 جاءت أكثر عنفا ودموية وأكثر تعقيدا وتعرجا بما لا يقاس مع السنتين الاوليين، خصوصا السنة الاولى التي شهدت في غضون أشهر سقوط حكام اربعة بلدان، وتحركات عارمة في بلدان عدة أخرى، منها ثورة شعبية-مدنية شاملة غير مسبوقة عربيا نجح النظام السوري والحلف الاقليمي – الدولي الذي يدعمه في تحويلها حرباً اهلية قد يتبين يوما انها الاقسى في العصر الحديث.
ها هي السنة الرابعة تطل على مشهد فيه من الغموض والعنف والمراوحة والارتداد أكثر بكثير من الاحلام الوردية بالخلاص من انظمة الاستبداد والانتقال الهادىء الى جنة الديموقراطية التي روادت (وما زالت) ملايين المواطنين على المساحة الممتدة من المحيط الى الخليج.
التعقيد يبدأ من تسمية الظاهرة نفسها، حيث السؤال المركزي الذي بات اليوم يختصر تعقيدات المشهد: هل تسمية “الربيع العربي” كانت في مكانها، ام هي كانت حلم ليلة صيف؟
اذا كان جوهر القضية التي نناقش هو التحول الديموقراطي او الانتقال الى الديموقراطية، بكل ما تعني الكلمة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، فان تسمية “الربيع العربي” لا شك في انها تصبح تبسيطية، خصوصا اذا كان المقصود توصيف المشهد الراهن، الذي لا يشبه الربيع بشيء. انما هذه التسمية تصبح اكثر ملاءمة اذا كان المقصود هو الهدف المنشود او المشهد النهائي المرتجى. لكن حينها نكون قد انتقلنا من لغة العلوم السياسية التي تبتغي الدقة الى لغة السياسة (او الحراك السياسي) التي تتضمن (لا بل يجب ان تتضمن) اهدافا واحلاما وغايات وتمنيات. من هنا ابدأ محاولة استخلاص عبر السنة الثالثة ودروسها.
العبرة الاولى هي ان سقوط الاستبداد شرط تأسيسي لقيام الديموقراطية، انما سقوط الاستبداد ليس كل الديموقراطية، والتحول الديموقراطي مسار طويل قد يتخلله لحظات تأسيسية ومحطات كثيفة فاصلة، انما هذه المحطات او اللحظات لا يمكن ان تختزل المسار بمجمله. مسار بناء الديموقراطية هو ايضا مسار صراعي ومتعرج. هذا يجب الاّ يشكل اكتشافا او مفاجأة: اوروبا بعد 1848 شهدت ثورات مماثلة لما يجري عندنا اليوم، ثم انتكاسات وعودة انظمة التسلط، ثم انتظار عقود عدة قبل قيام الديموقراطية، وفق سيناريوات عدة، احيانا دراماتيكية واحيانا أخرى ناعمة وتدريجية. القرن الماضي شهد على الاقل أربع موجات للتحول الديموقراطي وانهاء الديكتاتورية، وفي اربع دوائر جيواستراتيجية مختلفة: اوروبا الجنوبية في السبعينات (اسبانيا، البرتغال، اليونان)، واميركا اللاتينية في الثمانينات، واوروبا الشرقية في التسعينات، وجنوب شرق آسيا (بما فيه دول مهمة تقتطنها غالبية من المسلمين) في العقد الاول من هذا القرن. هل يكون العقد الثاني هو عقد بناء الديموقراطية في العالم العربي، ام ان الامر سيستغرق عقودا عدة؟
الملاحظة الثانية في هذا السياق هي ترنّح نظرية الاستثناء العربي، او “الاستنقاع” العربي، بحجة ان ثمة استثناء ثقافيا تكوينيا يتصل بالاسلام ليس كدين فحسب انما كثقافة ومنظومة قيم لا تنسجم مع الديموقراطية فكرا وقيما وممارسة. هذه النظرية ترنحت بقوة في اول سنتين، وهي في رأيي كانت ولا تزال نظرية خاطئة ان لم نقل عنصرية. انما هذه النظرية عادت الى الانتعاش في السنة الاخيرة في ضوء ظواهر وانتكاسات عدة كان الاسلام السياسي، او بعض مدارسه، طرفا فيها، من سوريا الى مصر الى اليمن الى ليبيا وحتى تونس، ورغم تفاوت اهمية هذه الانتكاسات. التحدي على هذا الصعيد ليس بقليل، لأنه يتعلق ثقافيا بالسمة الأقوى للعالم العربي، وسياسيا بالدينامية الاقوى او شبه الوحيدة العابرة لكل بلدان العالم العربي، والتي هي على درجة عالية من الحيوية والخطورة في الوقت نفسه. وثمة مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق كل من ينتسب الى الاسلام السياسي ويؤمن في الوقت نفسه بضرورة وحتمية التحول الديموقراطي وبناء الديموقراطية. والسؤال هنا اي اتجاه في الاسلام السياسي سيكون غالبا؟ اتجاه الانغلاق والاقصاء والتكفير؟ ام الاتجاه السلطوي والانتهازي؟ ام اتجاه الانفتاح واحترام التعددية؟
الملاحظة الثالثة تتعلق بالقوى المدنية والتحديثية والشبابية، التي لعبت دورا مفصليا أو نوعيا في اطلاق هذه الثورات والانتفاضات لكنها لم تتمكن من انتزاع تمثيل نيابي او سياسي في الدول التي جرت لاحقا فيها انتخابات، ولا استطاعت ان تبقي على زمام المبادرة والقيادة في الدول التي تحولت فيها الثورات حروبا اهلية. هذه القوى المدنية، التي يفترض انها الاقرب الى الثقافة الديموقراطية، تواجه تحديا مزدوجا ومهمة لا مفر منها، وهما: تحدي التنظيم، اي تنظيم الصفوف والقوى وادارة التحالفات، وتحدي انضاج الرؤية، اي الاستدلال الى الغايات والاهداف من عملية التحول وآليات ومراحل بلوغ هذه الاهداف. ومن اهم مقومات نضج الرؤية لدى القوى المدنية عدم اسلاس مقاليد ادارة التحول الديموقراطي الى قوى غير ديموقراطية بطبيعتها (كالجيش والقوات المسلحة واجهزة الأمن) بدعوى “اختيار اهون الشرور”.
الملاحظة الرابعة تتعلق بالعنف والارهاب وعسكرة الثورات. الثقافة الديموقراطية هي في الجوهر ثقافة سلمية لا عنفية، وهذا ما كانت عليه انطلاقة كل انتفاضات “الربيع العربي”. لكن واقع الحال مختلف اليوم وان يكن بتفاوت. العنف بات مكونا شبه يومي في الصراع داخل مصر، كذلك الارهاب من بوابة سيناء. تنظيم “القاعدة” وتفرعاته عادت لتكون لاعبا رئيسيا في المنطقة بعدما كان وصل الامر منذ سنتين ببعض الباحثين الجديين الى نعي هذا التنظيم . في سوريا، نجح النظام في عسكرة النزاع الى حدود الحرب الاهلية الشاملة، وذلك على وقع تأجيج التعبئة الطائفية والفئوية واستدراج التدخل الخارجي سواء لقوى الارهاب الكلاسيكي (كالقاعدة وداعش) او لتنظيمات عسكرية اقليمية منضوية في الاستراتيجية الايرانية كـ”حزب الله” ولواء ابي فضل العباس العراقي. هذا الواقع يضع الثورة السورية، ومعها عملية التحول الديموقراطي برمتها، امام مأزق حقيقي لا جواب عنه حتى الآن.
الملاحظة الخامسة تتعلق بتداخل “الربيع العربي” مع النزاعات والاصطفافات الاقليمية التي تحفل بها المنطقة، المزمنة منها كقضية فلسطين والصراع العربي-الاسرائيلي، او الراهنة مثل صعود ايران كقوة اقليمية سياسية-عسكرية، وتركيا كقوة سياسية-اقتصادية. من تعقيدات هذا التداخل وتأثيراته السلبية: ميل اسرائيل الى استخدام نفوذها لدى الولايات المتحدة والغرب لمصلحة عدم التغيير في سوريا تحت شعار ان “الشيطان الذي تعرف افضل من كل من تجهل”؛ الدور المفرط الذي لعبته تركيا في احتضان تلك الثورات وتغليب طرف القوى الاسلامية فيها، خصوصا الاخوان المسلمين في مصر وغيرها. التأثير الاقليمي الأكبر كان لايران، التي وجدت في النزاع السوري منصة واسعة: أ) لاستيعاب ازمتها الداخلية المتعددة الوجه؛ ب) للمطالبة بدور اقليمي يمتد من افغانستان الى شرقي المتوسط؛ ج) لفك الحصار الدولي عنها وفرض نفسها كمحاور مقبول من المجتمع الدولي، من بوابة الاتفاق حول النووي بداية ثم من بوابة المشاركة المتوقعة في مؤتمر جنيف-2 حول سوريا.
الملاحظة السادسة تتعلق بتبدل البيئة الدولية، خاصة السياسة الخارجية لاميركية، في العالم، وتحديدا في اقليم الشرق الاوسط. تزامن انطلاق الربيع العربي (لحسن الحظ، او لسوئه؟) مع تبدل جوهري في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تميز خصوصا بتخلي واشنطن مع انتخاب الرئيس اوباما، ثم اعادة انتخابه، عن سياسة شرطي العالم والانسحاب من الحروب التي كانت تورطت فيها مع الرئيس جورج بوش. القاعدة الاساسية التي اتبعتها اميركا مع الانتفاضات العربية هي عدم التدخل العسكري المباشر، باستثناء مدة قصيرة وبشكل محدود في ليبيا. ثمة من يقول ان هذا المبدأ سمح بالاطاحة بسهولة نسبية بكل من حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس وعلي عبدالله صالح في اليمن، الامر الذي لم يكن ليحصل في عهد جورج بوش او في ظل السياسة الاميركية السابقة. في المقابل، اتاح “الانسحاب” الاستراتيجي الاميركي من المنطقة لكل من روسيا وايران بتقديم الدعم العسكري غير المحدود لنظام بشار الاسد.
تدخل الثورات العربية ضد الاستبداد والديكتاتورية عامها الرابع مع كل هذه التعقيدات والتحديات وعلامات الاستفهام، انما مع يقينين: اولا- استحالة العودة الى الوراء، اي الى عهد “الاستقرار البائس” القائم على الدولة البوليسية والقمع والاضطهاد والنهب والفساد وسحق الكرامة الانسانية؛ ثانيا- ان مخاض العبور الى الحرية والديموقراطية سيكون مؤلما وشاقا وطويلا، والاكثر دلالة على ذلك الكارثة الانسانية الكبرى التي تصيب الشعب السوري والتي لم تتكشف بعد كل احجامها واهوالها والتي يرجح انها ستكون اكبر كارثة تصيب البشرية منذ الحرب العالمية الثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى