الأخبار اللبنانية

نحو استراتيجية أمن وطني للبنان
إعداد: د. مصطفى الحلوة

في إطار مقاربة قضايا إشكالية وذات راهنيّة، نظَّم ” مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية”، بالشراكة مع مؤسسة (Hanns Seidel)، ورشة تفكير ونقاش (جبيل/ قاعة المحاضرات 1188)، على مدى يومَي 15 و 16 نيسان 2022، بعنوان:” نحو استراتيجية أمن وطني للبنان”.
تكلّم في الجلسة الافتتاحية رئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره، والمسؤول الإقليمي لـِ “هانز زايدل” السيد كريستوف دو فارتس ( من الأردن، عبر تقنية zoom )، ومندوبُها في لبنان الأستاذ طوني غريِّب، ومنسق الورشة العميد البروفسور كميل حبيب.
إلى الجلسة الإفتتاحية، كانت ستُّ جلسات عمل، اتخذت العناوين الآتية: استراتيجية الأمن الوطني: قراءة عامة/ استراتيجية الدفاع الوطني/ استراتيجية الأمن السياسي/ الأمن الاجتماعي والبيئي/ استراتيجية الأمن الإعلامي والأمن الاقتصادي/ استراتيجية الأمن الوطني مدخلٌ إلى الاستقرار.
وقد داخَلَ عشرةُ باحثين في العناوين، التي تضمَّنتها الجلسات، وهم على التوالي: العميد الركن كلود الحايك/ عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية البروفسور كميل حبيب/ العميد الركن سامي الحويك/ العميد الأسبق لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية د. ساسين عسّاف/ الوزير والنائب السابق د. عصام نعمان/ عميدة معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية د. مارلين حيدر/ د. نعمى حلاّق/ عميد كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية د. إبراهيم شاكر/ الخبير الاقتصادي د. جاسم عجّاقة/ الوزير السابق والرئيس الأسبق للجامعة اللبنانية د. عدنان السيد حسين.
في ختام الورشة وُزِّعت شهادات مُشاركة على الطلبة الجامعيين، الذين أضفى حضورهم دينامية لافتة على أجواء الحوار التفاعلي، الذي أعقب المداخلات.
وعن البيان الختامي، فقد تضمَّن المحاور الأربعة الآتية:
أولاً- استراتيجية أمن وطني للبنان/ في تحديد المفاهيم
لما كان تحديد المفاهيم شرطًا لازمًا في مقاربة أية أُطروحة، فإننا سنستعرض بإيجاز بعض المفاهيم والتعاريف العائدة لموضوعتنا:
مفهوم الاستراتيجيا: عندما نقول استراتيجيا، يجب التنبُّه إلى عدم قصر معناها على الشقّ العسكري فحسب. فهي تُستخدم في مجموعةٍ متنوّعة من السياقات، علمًا أن مصطلح استراتيجيا هو ، في أساسه، إغريقي. فكلمة strato، تعني الجيش أو الحشد العسكري، ومنها تمّ اشتقاق أو تركيب هذا المصطلح strategos، الذي يعني فن إدارة الحروب وقيادتها.
• الاستراتيجيا تتمثّل في خطة الدولة لاستعمال وسائلها ومواردها كافة، لدعم مصالحها، بالشكل الأكثر فعالية.
• هي التوجُّه المنسَّق لجميع موارد دولة ما،العسكرية وغير العسكرية، من أجل تحقيق غاياتها.
• هي فن استخدام المعارك، بصفتها وسيلة للوصول إلى هدف الحرب.
• هي فن إدارة الحرب، وفن توزيع مختلف الوسائط العسكرية واستخدامها لتحقيق هدف أو أهداف سياسية.
• ومن تعريف معاصر، فهي علم وفن، تخطيط لاستخدام أفضل للقوات المسلحة للدولة، لتحقيق الأهداف والمصالح الاستراتيجية، إمّا بالردع أو بالاستخدام العملي للقوة المُتاحة.
• وعن الاستراتيجيا الدفاعية، فقد غدت علمًا له أصولُهُ، وفنونًا لها أصالتها. ولأنها كذلك، فهي تقوم على تخطيط علمي، يُظهرُ فيه المُخطِّط الاستراتيجي مهارته، بما يُفضي إلى أفضل استخدام للقوات المسلحة، في عصر تسودُه تكنولوجيا سريعة التطوّر، وبما يُوفِّر أفضل استخدام للموارد والإمكانيات العائدة للدولة.
في مفهوم الأمن، بتعدُّد وجوهه: يختلف مفهوم الأمن، بحسب الموضوع المرجعي، الذي يقع عليه فعل الأمننة (sécurisation). فإذا دخلنا مجال العلاقات الدولية وسياسات القوة، يتوسّع مفهوم الأمن ليغدو الموضوع المرجعي هو الأمن الدولي. وفي حال تضييق المفهوم، بحيث لا يتعدّى الموضوع المرجعي حدود الدولة وكيانها، نجدُنا بإزاء الأمن الوطني.
ومن مقلبٍ آخر، فإن مفهوم الأمن يتجاوز المعنى الكلاسيكي إلى تفاصيل “الأمن الناعم”، الذي حدّدته الأمم المتحدة، منذ العام 1994، وهو يتناول الأمن البشري والسياسي والاقتصادي، وأمن المجتمع المحلي الاجتماعي ، والصحي والبيئي والغذائي.
• الأمن الوطني له أبعادٌ مُتعدِّدة، أبرزها: البُعد العسكري، البُعد الاقتصادي، البُعد السياسي، البُعد الإيديولوجي وسوى ذلك من أبعاد. ويتمثّل الأمن الوطني في توفير الحماية للمواطنين المتواجدين على أرض الدولة. ويُعرّف بأنه استخدام الوسائل الأمنية وسواها للمحافظة على سير الحياة اليومية، بعيدًا عن أية أزمات تُفضي إلى الإضرار بمكوِّنات المجتمع، البشرية والمادية.
• مصطلح الأمن الوطني ظهر مع قيام الدولة القومية في أوروبا، إبّان القرنين السادس عشر والسابع عشر اللذين يعتبران بداية لعصر إعمال العقل والنهضة الأوروبية.
• توسّع مفهوم الأمن ، في النظام العالمي، ليعكس درجات مختلفة من اتحاد القوى المسلحة والدفاع الوطنيين ، مع الأمن المحلي/ الداخلي. إضافةً إلى إشراك الدولة والمجتمع المدني والفرد. وهذا ما يُدعى بالأمن الشامل، الذي يُعالج التهديدات العابرة للوطن، من أمن الطاقة، إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل، والكوارث الطبيعية، والنمو السكاني والأوبئة والأمراض، وتغيُّر المناخ، والفقر العالمي.
• الأمن البيئي، كمصطلح، يرتبط بالحفاظ على البيئة، بمجالاتها المتعدّدة، وحمايتها من التدهور والمخاطر التي تتعرّض لها، وبما يُوفّر لشعوب الأرض العيش في بيئة نظيفة.
• المصلحة الوطنية، هي ما تشعر به الأمة أنه ضروري من أجل أمنها ورخائها، بل هي تعكس النهايات العامة (Ends) التي تعمل الدولة من أجل تحقيقها.
• مفهوم “المطايفة”- مفهوم مُستحدث- يُستخدم بديلاً من “الطوائفية”. وهي ( أي المطايفة) تعني تقاسم النظام السياسي والقضائي والإداري، فضلاً عن القوى العسكرية والأجهزة الأمنية بين الطوائف. وهذا المصطلح، من منظور ابستمولوجي، أوسع من مصطلح “الطوائفية”، التي يُقتصر مداها على الجانب السياسي والإداري في النظام السياسي اللبناني، وعلى ضبط علاقة الطوائف بالدولة، وبخاصة صِيغ المحاصصات المعتمدة لتسيير شؤونها.
ثانيًا- في الثوابت والرؤى/ استراتيجية دفاعية للبنان
1- غدا التخطيط ، كعلم وفن، إحدى الركائز الأساسية في رسم السياسات العامة، بما يجعل لمفهوم الاستراتيجيا حضورًا طاغيًا، بحيث أصبح لكل قطاع من قطاعات الدولة استراتيجية خاصة، تتناغم وتتآزر مع استراتيجيات سائر القطاعات، ولتبقى هذه الاستراتيجيات جميعها محكومةً بالمصلحة العليا للدولة. علمًا أن هذه الاستراتيجيات “القطاعية”، تصبُّ في استراتيجية الأمن الوطني.
2- تمثّل استراتيجية الأمن الوطني خطة أمة للاستخدام المنسق لمختلف وسائل قوة الدولة، العسكرية وغير العسكرية، سعيًا لتحقيق الغايات التي تُدافع عن المصالح الوطنية. وهي عملية مُخطّط لها، نظامية وعقلانية، يضبطها ويُشذّبها قادة أقوياء وأكفياء، وثقافات مؤسّسيّة وهيكليات حكومية.
3- في عصرنا الراهن، ثمة مزاوجة بين الاستراتيجيا والأمن الوطني، إذْ أصبح الأمن يشمل الأمور العسكرية والاقتصادية على حد سواء. بل أصبح الأمران مرتبطين ببعضهما البعض ارتباطًا وثيقًا، في إطار استراتيجيا، تمتدّ إلى مجالات مُتعدِّدة: سياسية ودبلوماسية وتكنولوجية وثقافية.
4- لبنان في عِداد الدول، التي تعيش طلاقًا بائنًا مع مفهوم الاستراتجيا- إذا جاز القول- إذْ تُسيِّرُ شؤونه العامة طغمةٌ فاسدة، استمكن منها الارتجال والممارسات العشوائية والتخبُّط أمام أي استحقاق، مهما صغُر شأنه. وهذا ما أفضى إلى الانهيار المريع، الذي نشهد فصوله المتعاقبة، من إفلاس الدولة، والسطو على مدّخرات اللبنانيين، وإفقار الغالبية الساحقة من الشعب وناهيك عن الشلل الذي يحكم أداء البنى التحتية والمرافق الخدميّة. إضافة إلى دفع الشرائح الشبابية، لا سيما الجامعية منها، إلى سلوك سبيل الهجرة من دون عودة.
5- جرّاء هذا الواقع اللبناني، شديد التردِّي، بل المفتوح على تردٍّ لا حدودَ له، فَقَدَ لبنان دوره الريادي، على مستوى المنطقة، فلم يعُدْ جامعة المنطقة، ولا مستشفاها، ولا مصرفَها، ولا مقصدها السياحي. علمًا أن “دومينو” الانهيار يفعل فعله، مُسقِطًا قطاعًا تلوَ آخر.
6- لعل من عجائب الزمن اللبناني، غير الجميل، إلغاء ” وزارة التصميم العام” سنة 1977، وكانت قد أُنشئت سنة 1954، ليحلّ بديلاً منها “مجلس الإنماء والإعمار”، و”مجلس الجنوب”، و”صندوق المهجرين”. وقد استحالت ثلاثتُها صناديق خدمات فئوية لا مجالس إنماء، تُحكم عليها قبضتها بعض المرجعيات السياسية للطوائف.
7- بما يخصّ الاستراتيجية الدفاعية للبنان، فهي قضية مزمنة، يعلو حينًا صوتُ المطالبين بها ويخفتُ حينًا آخر، وذلك على إيقاع المعادلة السياسية الداخلية، المحكومة من الخارج. وهي من القضايا، بالغة الأهمية، تقتضي شجاعةً في الطرح، ومقاربة موضوعية، تبتغي المصلحة العليا للدولة ومصلحة الشعب اللبناني.
8- طُرحت قضية استراتيجية الدفاع الوطني، للمرة الأولى، على طاولة الحوار اللبناني في أيار 2006. فقد طالب فريق سياسي (14 آذار) بنزع سلاح “حزب الله” ووضعه ضمن إطار الشرعية اللبنانية، في حين كان الفريق الآخر (8 آذار) يتمسَّك بـِ”سلاح المقاومة”، إذْ يرى إليه جزءًا لا يتجزأ من وسائل قوة الدولة عسكريًا.
9- إن السجال حول الاستراتيجية الدفاعية للبنان، لم يُفضِ إلى أية نتيجة حتى اليوم، وذلك لعدم وجود استراتيجية وطنية كبرى للاستناد عليها. علمًا أن كل طرف لبناني يُقارب، من منظوره، الاستراتيجية الدفاعية، وبما يتناسب مع مصالح “لبنانه”، كما يراه هو.
10- إن إقرار سياسة الدفاع الوطني للبنان تخدم الاستراتيجية التنموية والأمنية، وذلك من منطلق العلاقة الجدلية ين الأمن المجتمعي والتنمية المستدامة.
11- إنّ أيَّ تصوّر لاستراتيجية دفاعية للبنان، لن تُبصِرْ النور ما لم تكن جزءًا من استراتيجية أشمل، هي استراتيجية الأمن الوطني، التي تتناول حماية كل أوجه الحياة، لدى اللبنانيين: الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إضافةً إلى حماية الحريات العامة وكل مُخرَجات الثقافة الاستراتيجية للمجتمع.
12- إن استراتيجية الدفاع الوطني تُرسم، وفق منطق يأخذ بعين النظر: التهديدات وتحديد العدو/ التخطيط على قاعدة تحليل نقاط القوة والضعف/ تلاؤم الوسائل والأهداف، من خلال عملية تقييم مُستمرة لثوابت كل من التحديات والفرص/ تحديد الأهداف من منطلق مصلحة الدولة العليا، أي بعيدًا من منطق المساومة والتسويات.
13- إن وضع استراتيجية دفاعية للبنان تقع على عاتق العسكريين، استنادًا إلى الاستراتيجية الوطنية العامة، أو استراتيجية الأمن القومي، التي تضعها السلطة السياسية. علمًا أن هذه الاستراتيجية (استراتيجية الأمن القومي) لا وجود لها لدينا.
14- في مجال الأمن الاجتماعي، فهو ركيزة أساسية في استراتيجيا الأمن القومي، يُساهم في الانصهار المجتمعي، الذي يُساهم بدوره في إرساء قواعد المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، بمعزل عن الانتماء الديني والعِرق والمعتقد، مع الإبقاء على الخصوصيات الثقافية ، التي تُجسِّد مبدأ التنوّع في الوحدة.
15- يستهدف الأمن الاجتماعي ، على ضوء المفهوم الشامل للأمن، تهيئة الظروف، التي تكفل الحياة المستقرة والآمنة للأفراد، تحت أبعاد خمسة هي: البُعد السياسي، والبُعد الاقتصادي، والبُعد البيئي، والبُعد المعنوي (الثقافي).
16- لبنان يُعاني هشاشة، على صعيد قدرته المؤسسيّة وهياكل الحوكمة، جرّاء حالات النزاع المتجدّدة، التي تعصف به. إضافة إلى معدّلات الفقر، وفي ظل غياب استراتيجيات طويلة الأجل، متماسكة ومتكاملة.
17- تعرّض لبنان، بسبب موقعه الجيوسياسي، لهزات عنيفة، على مستوى أمنه الاجتماعي. وقد بدأت هذه الهزات مع النزوح الفلسطيني (1948)، ومؤخّرًا مع النزوح السوري الكثيف، بدءاً من العام 2011 (يتواجد على أرضه مليون ونصف المليون نازح سوري).
18- لبنان لم يلتزم أو يُوقِّع على الكثير من الاتفاقيات الدولية، في الإطار الاجتماعي، وبذا يُصنَّف كبلدٍ مكشوفٍ، أي مُفرغ ، على مستوى الضمان والحماية الاجتماعية.
19- برامج الحماية الاجتماعية، بل المساعدة الاجتماعية، التي يُوفّرها، تتمثّل في “البرنامج الوطني لدعم الأُسر الأكثر فقرًا”، منذ العام 2011، مساعدات عينية طالت التعليم والصحة والغذاء، إضافةً إلى برنامج المساعدات الاجتماعية ( سياسة دعم بعض السلع)، وبرنامج النظام التقاعدي. وعلى أهمية هذه “البرامج” الجزئية، فهي لا ترقى إلى مستوى الحماية الاجتماعية، كما في سائر بلاد العالم.
20- بما يخصّ الأمن البيئي في لبنان، فإن البلاد في موضع تهديد دائم، بسبب وجود التلوّث، بمختلف أشكاله: مياهًا جوفية،وتربةً، وأنهارًا وبحرًا وبحيرات، وجوًّا. ناهيك عن التأثر بالمشكلات البيئية العالمية، لا سيما الاحتباس الحراري والتصحّر، وما يُخلّفانِهِ من مخاطر على الكوكب برمته.
21- يُسجّل لبنان أعلى نسبة تلوّث في الهواء، على صعيد منطقة الشرق الأوسط. وكان جرّاء ذلك ازدياد أعداد الوفيّات، بالأمراض الصدرية والسرطانية. وعن تلوّث المياه العذبة والأنهار فحدِّث ولا حرج، إذْ غدت معظم أنهار لبنان مجاري للصرف الصحي. وقد فاقم من تلوث مياه لبنان الوجود السوري الكثيف، لا سيما في البقاع، حيث كانت الطامة البيئية الكبرى صيف 2016، التي تجلّت في تلوُّث مياه الليطاني، بفعل تحولّه إلى مكب لمختلف النفايات الصناعية وغير الصناعية.
22- عجز وزارة البيئة في لبنان عن أداء مهامها، لأسباب عديدة، تتعلّق بأمور تقنيّة ومالية، إلى عدم تحديد الصلاحيات، التي تُتيح التحرك بشكل كافٍ وسريع، بما يتلاءم مع الأحداث البيئية المستجدة.إضافةً إلى الحمايات السياسية التي يحظى بها منتهكو البيئة والمعتدون على المجال العام (الأملاك البحرية وعند مجاري الأنهار).
23- إن العطب البنيوي للاجتماع اللبناني يتمثَّل ، في ما ندعوه “مجتمع المطايفة”، ببعده الاجتماعي والسياسي والثقافي. فعلى المستوى الاجتماعي، فإن الفرد في لبنان موجودٌ كيانيًّا ومقيمٌ مع آخرين، يُشاركهم في طائفة واحدة. ومن منظور سياسي، فهو مُشاركٌ في الحياة السياسية من موضع إقامته في طائفته، فحقوقُهُ من حقوقها، ولا حقوق له من خارجها. وأما ثقافيًا، فهو يقيم في ثقافة الطائفة، من حيث هي معارف إيمانية وفلسفية وطقسية، ومنظومة قيم إنسانية وأخلاقية وسلوكية، ومنظومات علاقات وعادات وتقاليد وشعبيات.
24- إن ولاية “المطايفة” على الدولة شلَّت قدراتها وأقعدتها عن القيام بوظائفها. بل صادرتها لحساب مصالحها، وأسقطتها في اللامعنى (أي فراغ المعنى)، وشلّعتها دويلات تأتلف على المغانم وتختلف على المغارم، في سلوكاتها الداخلية. ولكل من هذه الدويلات امتدادات وارتباطات وولاءات، في سياستها الخارجية.
25- إنّ ولاية “المطايفة” على المجتمع أوقعتهُ في نزاعات وصراعات دامية، لم يبرأ منها، بل يندفع إليها، كلّما اهتزّت قواعدُ الانتفاع المتبادل، من صيغة حكم نعتوها بالتوافقية، أو كلّما اختلّ توازن إقليمي.
26- ولايتها على المجتمع، أفشلت مفهوم المواطنة، الذي هو مفهوم اجتماعي/ سياسي وثقافي علمًا أنْ لا وجود لمجتمع سياسي آمن من دون مواطنة، إذْ بين الاثنين تلاحم عضوي تكويني وجودي.

ثالثًا- تطارح بعض الأسئلة/ الهواجس
قبل العبور إلى المحور الرابع(محور المقترحات/ التوصيات)، لا بد من تطارح بعض الأسئلة/الهواجس، التي تتكامل فصولاً مع هذا المحور، سواءٌ أكان ذلك من موقع الإيجاب أو من موقع السلب.
1- منظورًا إلى الأسس، التي تقوم عليها الاستراتيجيات الدفاعية، لنا أن نتساءل: هل لدى لبنان استراتيجية وطنية (استراتيجية أمن وطني) حتى يكون لدينا استطرادًا استراتيجية دفاعية؟
2- كيف يمكن وضع تصوُّر لاستراتيجية دفاع وطني للبنان، في ظلّ الانقسام العمودي، الذي يتخّذ أبعادًا طائفية ومذهبية وعقدية، حول وجود السلاح في يد مجموعة لبنانية، تُعتبر في نظر فريق لبناني امتدادًا للنفوذ الإيراني؟
3- كيف للبنان أن يتوصَّل إلى استراتيجية دفاعية، وقرار السلم والحرب ليس بيد الدولة حصرًا، ومع ازدواجية استعمال السلاح بين جيش نظامي ووحدات مقاومة مسلَّحة؟
4- حال التوصل إلى استراتيجية دفاعية، هل الجيش اللبناني قادرٌ بمفرده على مواجهة التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية؟
5- ما هي العقيدة العسكرية، التي يعتنقها لبنان ويسيرُ على هديها؟ وفي الأساس، هل ثمة عقيدة عسكرية لديه؟
6- هل يمكن العبور إلى أمن وطني للبنان، يصونُ الشعب والأرض والحقوق والكرامات؟
7- في تطارح بعض الأسئلة، التي تُحاكي النوايا أكثر مما تحاكي الوقائع الملموسة، لنا أن نسأل: هل يُريدُ المطالبون بنزع سلاح حزب الله حماية لبنان فعلاً أم أن الأمر يتعلق بنزع عنصر قوة من يد الدولة اللبنانية، تمهيدًا لإقامة سلام مع إسرائيل؟ وهل مسألة نزع سلاح “الحزب” مرتبطة بإنهاء “الشيعية السياسية” لتحلّ بديلاً منها مذهبية سياسية أو تحالف طائفي آخر؟ وهل يُريدُ المتمسكون بسلاح “الحزب” حماية لبنان حقّاً، أم أن الأمر يعود إلى عدم خسارتهم إحدى وسائل القوة من يدهم ومن يد الدولة الراعية لهم، أي إيران؟
8- في إطار القلق الوجودي المتأتّي من تدهور الأمن البيئي، يحق التساؤل: هل ثمة استراتيجيات أمن بيئي في لبنان؟ وهل جرى تطبيق أية استراتيجية من الاستراتيجيات البيئية المكدّسة في خزائن وزارة البيئة ؟
9- هل بات اللبنانيون، بعد المآزق والفتن والحروب، التي أوصلتهم إليها سياسات الفكر الطوائفي، جاهزين لإعادة النظر في مقولاته أو ثوابته، بما يتوافق مع متطلبّات بناء مجتمع سياسي آمن، في رأسِهِ المواطنة، بهويتها العامة، والمواطن بهويته الفردية، خصوصًا بعد أن محقتهما حروب الهويات القاتلة.
10- هل بات الفكر السياسي في لبنان، بعد تلقّيه العديد من الصدمات والهزائم، قادرًا على الإقرار بحق المواطنين الأفراد، في أن يكون لهم مجتمع سياسي آمن، يُنتجه عقدٌ اجتماعي مُبرم بينهم، كمواطنين افراد، بعيدًا من أي انتماء حُكمي؟
رابعًا- في المقترحات/ التوصيات
1- في إطار وضع استراتيجية دفاعية للبنان، يجب أن تتحدّد المصالح الوطنية، على قاعدة الأمن المادي، وتنضوي إليه:حماية مساحة الوطن كاملة، واستعادة الأراضي المحتلّة كاملةً/ حماية الموارد الوطنية الاستراتيجية/ مكافحة الإرهاب بجميع مكوّناته/ تقوية القوات المسلّحة وتحديثها/ تنمية القدرات العلمية والتكنولوجية/ حماية الحريات العامة/ تدعيم الوحدة الوطنية.
2- إنّ أيّ تصوّر لاستراتيجية دفاعية للبنان، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كيفية حمايته وحماية المقاومة في آن معًا، إرتكازًا على تحدّيات يواجهها ، من دولية وإقليمية ومحلّية.
3- من حقّ اللبنانيين على “حزب الله” أن لا يحتكر المقاومة لنفسه، وأن لا تبقى مقاومتُهُ مُقتصرة على الشق العسكري، فيكون رأس حربة في مكافحة الفساد، والإسهام في تطوير النظام اللبناني، فالنظام الطائفي لا يحمي ظهر المقاومة، بل هو مُهدِّدٌ لوجودها.
4- يجب الإفادة من المقاومة، والعمل على تقوية الجيش اللبناني. ولا بأس، مرحليًّا، من إنشاء مكتب لتنسيق العمليات العسكرية- حال الإضطرار- خاضع لقيادة الجيش.
5- في إطار الخطة الدفاعية، لا بد من رفع قدرات الدولة والقوى المسلحة، في مجالي الحرب السيبرانية والنفسية، وذلك عبر سنّ القوانين التي تُنشئ وحدات متخصِّصة بالحرب السيبرانية، وحماية شبكات المعلوماتية التابعة للإدارات الحكومية، ومراكز القيادة والسيطرة للقوات المسلحة. إضافةً إلى إنشاء وحدة رصد واستعلام الكترونية لمراقبة الأجهزة المدنية والعسكرية العدوّة.
6- على مستوى التخطيط الاستراتيجي، فإن من مستلزماته العمل على إنشاء “مجلس أمن وطني”، يتشكّل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء المعنيين ورؤساء الأجهزة المخابراتية. وعلى أن لا تقتصر مهمة هذا المجلس على النواحي العسكرية، بل تتعدّى إلى سائر مجالات العمل الوطني، بما في ذلك وضع الدراسات وتقديم الاقتراحات اللازمة لصياغة الاستراتيجيات الآنية والمستقبلية.
7- استكمالاً ، وفي الإطار عينه، يجب تطوير عمل “مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية”، بالتعاون مع كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية، ومركز المعلوماتية القانونية والمعهد التكنولوجي في الجامعة اللبنانية.
8- على الأفرقاء السياسيين في لبنان تحديد مفهوم لـ”لبنان واحد”، والاتفاق عليه، وصولاً إلى وضع استراتيجية وطنية كبرى (أو استراتيجية أمن وطني)، تتناسب مع مصالح الوطن الواحد والموحدّ. وعلى أن يُترك وضع استراتيجية دفاعية لوزارة الدفاع الوطني ، التي تستعين بما تراه مناسبًا لإنجاز هذه المهمة الوطنية.
9- على الدولة اللبنانية تعزيز ثقة الشعب بقواه المسلحة، وطمأنتِهِ إلى جهوزيتها للدفاع عنه، أينما كان، ومهما كانت مخاطر التهديدات التي يمكن أن يتعرّض لها.
10- إعادة إحياء مسوّدة الاستراتيجية الوطنية للدفاع، التي وُضعت خلال عامي 2009- 2010، والتي لم تُبصِر النور،وهي مسوّدة يمكن الانطلاق منها والبناء على العديد من بنودها. ومما جاء في بعض هذه البنود: مركزية الحرب والسلم بيد الدولة ومجلس الوزراء/ تقوية الجيش لمواجهة إسرائيل والإرهاب/ الإفادة من قدرات المقاومة، عبر التخطيط المشترك مع الجيش، في إطارٍ من السريّة/ توسيع إطار المقاومة وعدم حصرها في طائفة واحدة/ وضع مدوّنة سلوك لضبط العلاقات بين الجيش والمقاومة/ تطبيق لامركزية التنفيذ في حالة الحرب حتى لا يظهر الطرفان (الجيش والمقاومة) مع بعضهما بعضًا. علمًا أن حوارًا جرى في القصر الجمهوري حول هذه المسوّدة بين عامي 2012- 2013 (في عهد الرئيس ميشال سليمان)، ولم يُفضِ ذلك إلى أية نتيجة.
11- بما يخص البيئة والأمن البيئي، ينبغي تفعيل الاستراتيجيات الموجودة في وزارة البيئة، التي تمّ إقرارها في فترات مُتعاقبة. وفي هذا المجال يجب تفعيل الاستراتيجية الوطنية لإدارة حرائق الغابات (52/2009)، فهي لم تُطبق بشكل كامل ، وتحتاج إلى تحديث وتمويل.
12- تفعيل بعض القوانين البيئية، وفي مقدّمها القانون رقم 444/2002، وهو قانون شامل، يُشكِّل خطوة متقدمة في مجال التشريع البيئي. إضافة إلى قوانين لاحقة، أهمها القوانين الثلاثة 77 و 78 و 80 (المتعلقة بالمياه/ وحماية نوعية الهواء/ والإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة)، وقد صدرت جميعها في العام 2018.
13- التزام لبنان بتنفيذ الاتفاقيات الدولية، التي وقّع عليها، في مجال حماية الأمن البيئي، ومواكبة التطور التشريعي البيئي العالمي.
14- تسهيل اعتماد الطاقة البديلة، من شمس ورياح، عبر تقديم قروض مُيسَّرة وإعفاءات ضريبية وجمركية، بدلاً من توليد الطاقة الكهربائية الملوّثة للهواء وكبيرة الكلفة.
15- إعلان حالة طوارئ بيئية، تكبح التدهور المتمادي للوضع البيئي، في جميع مجالاته، وإلاّ فإن لبنان ذاهبٌ إلى كارثة بيئية، هي الأشدّ خطرًا بين كل الأزمات التي يعانيها. فالأزمات السياسية والاقتصادية يمكن استدراكها والتعافي منها، ولكن خراب البيئة، إذا استفحل، فلا علاج شافيًا له.
16- إدراج الحق في البيئة، كحق من حقوق الإنسان، في الدستور اللبناني، بما يتماشى مع توصيات مؤتمر ستوكهولم للبيئة الإنسانية لعام 1972. ولا بدّ في هذا المجال من تكريس التربية على المواطنية البيئية وتسليكها مُعاشًا يوميًا. بل جعلها ثقافة حياتية، تلازم الفرد في كل مراحل عمره. وهنا يبرز دور المدرسة والجامعة والمؤسسة الإعلامية في التوعية البيئية.
17- في إطار ضرب الأمن القومي، حذارِ من إجهاض الدور الذي تؤدّيه الجامعة اللبنانية، حيث تتم محاصرتها ماليًا لعدم الوفاء بهذا الدور، عبر ميزانية متواضعة لا تُشكِّل عُشر ميزانيتها المفترضة. ناهيك عن رواتب الأساتذة التي فقدت 90% من قيمتها، وبما يُفضي إلى تفريغها من سلكها التعليمي، بحثًا عن فرص عمل في الخارج. إضافةً إلى معاناة طلبتها العاجزين عن الوصول إليها جرّاء ارتفاع كلفة التنقل. إشارةٌ إلى أن انهيار الدول فاتحتُهُ انهيار القطاع التعليمي فيها.
18- ثمة مداخل مُتعدِّدة لإخراج لبنان من أزماته، لعل أبرزها وأكثرها فاعليةً، إخراج المواطن من الحيِّز الفئوي إلى الحيّز الوطني، من الانتماء الحُكمي إلى الانتماء الطوعي، من الهوية المنقوصة أو مبتورة الحقوق إلى الهوية الوطنية، بحقوقها التامة، وفي رأسها الحق في الحرية. هي حرية المواطن، في وجوده السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى