المقالات

فلاديمير بوتين… ونصائح هنري كيسنجر القديمة
الأزمة الاوكرانية, ضمير المتكلّم, مقالات الرأي

جمال دملج \ المصدر موقع الأممية

ربّما يحقّ لفلاديمير بوتين ما لا يحقّ لغيره من زعماء العالم، من أقصاه إلى أقصاه، ليس لأنّه مجرّد رئيس عاديّ وحسب، وإنّما لأنّه يعبّر عمّا هو أكثر من ذلك بكثيرٍ جدًّا، على خلفيّة ما اختزنه في ملفّاته الشخصيّة من معلوماتٍ وتفاصيلَ دقيقةٍ حول مجريات الأمور على الساحة العالميّة؛ وتحديدًا خلال فترة عمله السابق في جهاز أمن الدولة السوفييتيّ.

فما أن ينطق المرء اسمه، حتّى تتقافز الذكريات وتتشابك عند الكثيرين، لترسم صورة رجل الـ “كي جي بي” الرهيب الذي يُعيد إلى الأذهان ملامح مقرّ الـ”لوبيانكا” في قلب العاصمة الروسيّة، والسجون التابعة له في غياهب سيبيريا وغيرها من أرجاء الدولة السوفييتيّة المترامية الأطراف، نظرًا لمفاعيل الصورة النمطيّة التي نجح الغرب في رسمها لعقيد استخباراتٍ حملته الأقدار إلى عرش الكرملين، في غفلةٍ من الأوليغارشيّين، أو المجموعات الاقتصاديّة والماليّة المتنفّذة في السياسة، ممّن كانوا يتوسّمون فيه السلوى والملاذ، خلفًا للرئيس (الراحل) بوريس يلتسين.

لا شكّ في أنّ هذه الصورة التي تبدو مثل “سبة” على جبين كلّ من انتسب أو ينتسب إلى أيّ مؤسّسة من مؤسّسات الأمن والمخابرات، غالبًا ما كانت تقضّ مضاجع فلاديمير بوتين، على الرغم من أنّها ظلّت تشكّل له إحدى أهمّ مصادر قوّته، ولدرجةٍ تجلّت بوضوحٍ، في بداية حياته السياسيّة، عندما راح يستدعي أصدقاءه وزملاءه السابقين في أجهزة الأمن والمخابرات، ليعهد إليهم بأهمّ أركان السلطة والنظام، مساعدين له في حمل أعباء الحكم والولاية.

علاوةً على ذلك، فإنّ بوتين الذي نجح بتفوّق خلال السنوات الاثنتين والعشرين الأخيرة من حكمه في إعادة وهج الماضي الحافل بالمجد والعنفوان إلى حاضر بلاده، غالبًا ما كان يشير في معرض سرده لبعض ملامح سيرته الذاتيّة إلى أنّه عانى كثيرًا من حرج الكشف عن ماضيه، ولدرجة دفعته إلى الإفصاح عن أنّه واجه مثل هذه المشاعر، في إحدى المرّات، خلال لقائه الأوّل مع وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر في مطلع تسعينيّات القرن العشرين، مشيرًا إلى أنّه رافق كيسنجر خلال زيارة كان يقوم بها لأغراض تجاريّة في مدينة سان بطرسبورغ، وذلك بحكم عمله (وقتذاك) كنائبٍ لعمدة المدينة، وكاشفًا عن أنّ “الثعلب الأميركيّ العجوز” سأله أكثر من مرّة عن وظائفه السابقة قبل انتقاله إلى وظيفته الحاليّة، ما اضطرّه، وعلى مضضٍ، إلى النزول على إلحاحه وفضوله لمصارحته بأنّه سبق وأن عمل في الـ “كي جي بي”، بل وقال أيضًا إنّه خدم في ألمانيا الشرقيّة… فما كان من كيسنجر إلّا أن ردّ عليه بقوله: “وماذا يضيرك في ذلك… إنّ كلّ المحترمين بدأوا عملهم في أجهزة المخابرات… وأنا من بينهم”.

ويضيف بوتين في هذا السياق أنّ كيسنجر؛ الذي يرتبط به منذ ذلك الحين بعلاقة صداقة تمتدّ حتى اليوم، شكا له تعرّضه لانتقادات كثيرين ممّن اتهموه بعدم موضوعيّة تصريحاته بشأن عدم منطقيّة انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، لما لذلك من أخطارٍ وعواقبَ خطيرةٍ تهدّد التوازن الدوليّ، وهو ما سبق وواجهه بوتين أيضًا عندما قال “إنّ انهيار الاتّحاد السوفييتيّ هو أكبر الكوارث الجيوسياسيّة التي شهدتها سنوات القرن العشرين”.

واليوم، وبعدما لم يعُد خافيًا على المراقبين أنّ أصداء طبول الحرب العالميّة الثالثة التي درجت العادة على أن تُقرع، بين الحين والآخر، على طرفيْ الحدود الروسيّة – الأوكرانيّة، باتت تتردّد بشدّةٍ في مختلف أنحاء العالم، حاملةً على إيقاعها نذائر الخوف من الآتي الأعظم.

والنذائر هنا لا ترتكز؛ بالضرورة، على مخلقّات الحرب الباردة بين الجبّاريْن (الأميركيّ والسوفييتيّ) التي سبق للرئيس بوتين أن قال عنها، في أكثر من مناسبةٍ، إنّها انتهت في عقول كلّ العالم باستثناء عقول الأميركيّين، وإنّما على ما يبدو للعيان كأنّه سعيٌ متواصلٌ في أوساط الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض لاستخدام الورقة الأوكرانيّة في صراع الولايات المتّحدة مع روسيا.

ولعل من بين أبرز الشواهد على ذلك هو أنّ إدارة الرئيس الأميركيّ السابق باراك أوباما رفضت التجاوب في العام 2015 مع النصائح التي قدّمها كيسنجر عندما دعا إلى وجوب التطلّع صوب روسيا كعنصرٍ رئيسيٍّ في أيِّ توازنٍ عالميٍّ جديدٍ عوضًا عن اعتبارها الخطر الوحيد والمطلق الذي يهدّد الولايات المتّحدة.

والمعروف أنّ هذه النصائح جاءت في سياق مقالٍ جريءٍ نشره كيسنجر في صحيفة “ناشيونال إنترست” الأميركيّة، بُعيد اجتماعه مع الرئيس بوتين في 3 شباط (فبراير) من ذلك العام في بلدة نوفو أوغاريوفو في ضواحي موسكو.

وممّا شدّد عليه كيسنجر هو أنّه “في ظلّ تكوُّن عالم متعدّد الأقطاب، فإنّ من شأن تنسيق الجهود الروسيّة والأميركيّة، وبالتشاور مع الدول الكبرى الأخرى، إيجاد هيكليّةٍ لصياغة الحلول السلميّة في منطقة الشرق الأوسط، وربّما في غيرها من مناطق العالم، بما في ذلك أوكرانيا التي يُفترض أن تتركّز الجهود المبذولة من أجل فضّ أزمتها على ضرورة دمجها في إطار هيكليّة الأمن الدوليّ والأوروبيّ، بحيث تصبح جسرًا يربط بين روسيا والغرب، عوضًا عن أن تكون منطلقًا لهذا الجانب أو ذاك ضدّ الآخر”.

ويشار هنا إلى أنّ هذا الكلام جاء بعد مرور أقلّ من عامين على ضلوع الولايات المتّحدة في تأجيج حركة الاحتجاجات الأوكرانيّة في “ميدان الاستقلال” في العاصمة كييف، وخصوصًا إثر الزيارة التضامنيّة الشهيرة التي قامت بها السفيرة فيكتوريا نولاند للميدان، بصفتها مساعدة وزيرة الخارجيّة (وقتذاك) هيلاري كلينتون للشؤون الأوروبية والآسيوية.

ولا شكّ في أنّ هذه الزيارة ساهمت، إلى حدٍّ كبيرٍ، في إعطاء دفعةٍ معنويّةٍ قويّةٍ للمحتجّين، الأمر الذي ساهم بدوره في إنجاح الانقلاب على الرئيس الأوكرانيّ؛ الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، تمامًا مثلما ساهم أيضًا في حثّ إدارة الرئيس بوتين؛ في المقابل، على الاستعجال في اتّخاذ قرارها بشأن ضم شبه جزيرة القرم إلى المناطق السياديّة الروسيّة.

وعلى الرغم من كافّة الجهود الأوروبيّة التي بُذلت من أجل احتواء التصعيد المتواصل منذ العام 2013 بين الجانبين الروسيّ والأوكرانيّ، والتي أدت إلى إبرام “اتّفاقيّة مينسك” المؤلّفة من 13 بندًا، فإنّ منسوب التوتر على خطّ موسكو – كييف لا يكاد يهبط في بعض الأحيان حتّى يُعاود الارتفاع مجدّدًا، حاملًا على إيقاعه أصداء طبول الحرب العالميّة الثالثة التي يبدو أنّ الروس يستعدّون حاليًّا لخوضها إذا ما أصبحت “شرًّا لا بد منه”… وما على الرئيس الأميركيّ جو بايدن سوى إعادة قراءة مقال كيسينجر المذكور، والأخذ بنصائحه… واليقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى