المقالات

الموت…….اختياراً

بقلم الدكتورة: عزيزة عبد المنعم صبحى

الأستاذ المساعد بجامعة الإسكندرية

تختلف طرائق الموت، فالموت واحد وأسبابه متعددة، ومن بين هذه الأسباب يظل الانتحار- أى الموت الإرادى- هو الفعل المستهجن دائماً وأبداً، الذى يقابل بالرفض والاستنكار العقلى والنفسى والدينى.

لقد اختلف الرأى العام حول الانتحار مابين رافض للفعل ومُدين لفاعله، وبين متعاطف متلمس للظروف والمعاذير، ربما كانت آخر حالات الانتحار التى أثارت جدلاً كبيراً ، انتحار الصحفى “عماد الفقى”، وقد تزامنت معه تقريباً حالة انتحار أخرى لرجل مسن ألقى بنفسه من الطابق السادس، وقبلهما انتحار “بسنت خالد” ومن قبلهم انتحار طالب الهندسة من أعلى برج القاهرة، فضلاً عن العديد والعديد من حالات الانتحار، إلى الحد الذى تعالت معه الأصوات منادية بالتجريم القانونى للانتحاروذلك للحد من انتشاره.وأحياناً ما يترك لنا المنتحرون رسائل خطية، أو رسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعى تؤكد قنوطهم من الحياة وكيف أنها أصبحت مستحيلة، ويبررون فيها أيضاً أسباب انتحارهم.

لكن هل تستحق الحياة أن نحياها؟ ذلك التساؤل الذى بدأت به أسطورة “سيزيف” “لألبير كامو” والذى قد نوجهه إلى أنفسنا فى لحظات محددة من حياتنا؛ مثلاً، عندما تضيق بنا السبل، وتغلق فى وجوهنا الأبواب، وتنقطع عنا أسباب الرزق والسعادة، وربما عندما نفقد حبيباً ونفقد معه جزءاً منا، أو عندما لا نحصل على ما نشتهى، أو عندما تتكالب علينا صروف الدهر وتقلباته، هنا نتسائل عن جدوى الحياة .وتأتى الإجابة عن السؤال السابق بنعم، نعم تستحق الحياة أن نحياها، فالحياة هى ذلك التيار الجارف السارى فى أعماقنا والذى يتمسك بالوجود بقوة، الحياة هى تلك الرغبة المتدفقة فينا، والتى جعلت الإنسان يبتدع لكى يمدد تلك الحياة إلى الأبدية، وذلك خوفاً من الفناء والموت.

كيف إذن يقوى الإنسان على الإقدام على الانتحار وإنهاء حياته بنفسه؟ تظل الإجابة عن هذا التساؤل لغزاً محيراً يصعب تفسيره، وذلك لأننا لا نستطيع بأية حال من الأحوال أن نحكم على خبرة الانتحار بأحكام يقينية، وذلك لأن شأنها فى ذلك شأن الموت، حيث إن من يعيشها فهو بحكم الميتة، وإننا عندما نتصورها ، فأننا نتصورها كأحياء متفرجين- كما يرى فرويد. وما يتبقى لنا فى مثل هذه الخبرات هو إمكانية التنظير والتحليل، وفى هذا يفسرالبعض الانتحار من أجل إيجاد مبرر لهذا الفعل الجلل المناقض لرغبتنا فى الحياة؛ بأن هناك غريزة للموت ضد غريزة البقاء إذا ما تعاظمت وتضخمت أدت بالإنسان إلى الانتحار، والبعض يرى فيه هروباً وانسحاباً من الواقع المؤلم، فى حين يراه آخرون مواجهة قوية تضع إشكالية الإرادة البشرية على المحك .

هناك دوافع مختلفة قد تؤدى بالإنسان إلى الانتحار؛ فقد يكون هذا بسبب شعور بالخزى والظلم (كحال بسنت خالد)، وقد يكون لجنون أو مرض نفسى أصاب صاحبه (كحال ذلك المسن)، وقد يرجعه البعض إلى الظروف الاقتصادية والمادية، وربما كان هذا صحيحاً فى بعض الحالات، لكن ماذا عن انتحار الأثرياء والمشاهير والذين لم يجبرهم العوز على القيام بهذا الفعل؟ ماذا عن انتحار من هنئت لهم أحوالهم وأحرزوا نجاحاً وشهرةً قد يحسدون عليهما ( مثل داليدا ومارلين مونرو و غيرهما) . ماذا عن المجتمعات الغربية ومعدلات الانتحار المتزايدة والجماعية رغم الرفاهية الاقتصادية والتكنولوجية؟!

إن الانتحار شأنه شأن كل الأفعال البشرية ، لايمكن أن نحكم عليه حكماً مطلقاً ، فليس هناك صواب على الإطلاق أو خطأ على الإطلاق ، ليس هناك فعل خير على عموميته أو سئ على كليته، فالصدق وهو القيمة الأخلاقية العليا قد يكون غير مستحب إذا ما كان يرتبط بمصارحة مريض أوشك على الموت، وقد يفضل فى هذه الحال شيئاً من الكذب.وبالمثل ، ورغم أن الانتحار مرفوض دائماً ، فإنه قد يبدو فى بعض الحالات خياراً مقبولاً ،فالجاسوس ، مثلاً، ليس لديه خيارآخر سواه، وقد يكون فعلاً مستحباً وذلك عندما يكون استشهاداً يضع فيه الإنسان واجبه العقائدى أو العسكرى فوق ذاته فيختار الموت بيديه.

والانتحار، فى العموم، فعل مستهجن عبر التاريخ الثقافى والدينى والفلسفى؛ ففى كثير من الثقافات القديمة كان يُحرم على جثث الموتى من المنتحرين الدفن فى المدافن العامة، بل كان يلقى بها فى مفترق الطرق. ظل هذا الاستهجان قائماً لكن بصورة أقل وطأة ، بل لقد ظهرت فى بعض الثقافات دعوات جماعية للانتحار. أما على المستوى الدينى – المسيحى والإسلامى- فهناك رفض، بل وتجريم ،وأحياناً تكفير للمنتحر ، انطلاقاً من كونه معترضاً على قضاء الله وحكمته فى خلقه وغير راضٍ بها. كذلك هى الحال بالنسبة للفكر الفلسفى، فكما كانت هناك بعض الفلسفات التى تدعو إلى الموت، والتى تمثل الرؤى السوداوية للفلسفات الهدامة. هناك أيضاً الكثير من الفلسفات التى تُعلى من قيم الحياة و الإرادة البشرية والمسؤلية الإنسانية عن الكون، وترفض الانتحار رفضاً مطلقاً. فالموت المقدر يباغتنا ولا حيلة لنا أمامه ، فهو اليقين ، والقانون العادل الذى يطبق على الجميع دون استثناء. أما الانتحار فهو موت إرادى نختاره ونتحمل فيه المسؤلية الأخلاقية والدينية والمجتمعية.

قد تكون دوافع الانتحار- التى أشرت إليها – مجتمعة أو فرادى هى أسباب للانتحار ، ألا أن السبب الأهم والأخطر فى ظنى هو ذلك الخواء النفسى والوجدانى الذى يعانى منه الإنسان، إنه ذلك الفراغ الحاصل فى المنظومة الأخلاقية والقيمية، حيث أصبح الإنسان مغترباً عن ذاته، وعن ربه، وعن مجتمعه، وأصبح فريسة سهلة المنال لليأس والأكتئاب. والحقيقة أن التصدى للانتحار هو مسؤلية مجتمعية لابد وأن تتضافر فيها كل المؤسسات الاجتماعية، والسياسية، والإعلامية، والدينية ؛ والتى يجب أن تُعزز قيم الحياة والدين والأخلاق، وتدعم الفرد نفسياً وعاطفياً وتحتويه فكرياً ، وتنشر قيم التفاؤل والإرادة لا قيم اليأس والقنوط. يجب أن يسود المجتمع مرة أخرى العلاقات الاجتماعية الوثيقة والمباشرة – لا تلك العلاقات التى يفرضها الواقع الافتراضى. يجب أيضاً أن نؤكد على مكانة الإنسان وفرديته وحريته ، تلك المكانة التى قد لا ترتبط بظروفه المحيطة، بقدر ما ترتبط بكونه إنساناً .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى