ثقافة

“اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد” .. رواية عن الحرب والوباء في اليابان \ عبير بسام \ المصدر الميادين نت



الرواية سياسة اجتماعية بامتياز. فهي تتحدث عن مرحلة تاريخية محددة شهدت أحداثاً سياسية صبغت مسار الرواية.

"اقتلعوا البراعم اقتلوا الأولاد"، عنوان قاسم  للظهر أو الأعصاب لرواية حازت على جائزة نوبل للآداب. كتب القصة كنزابورو أوي في العام 1958، وكان حينها في الثالثة والعشرين من العمر. وترجم القصة التي حازت على جائزة نوبل للآداب ديمتري أفييرينوس، وطبعتها ونشرتها "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر" في هذا العام 2022. 

تمضي أحداث الرواية خلال عشرة فصول تخبر عن حكاية أولاد إحدى الإصلاحيات وما تعرضوا له من مغامرات وتنكيل في إحدى القرى اليابانية الواقعة ما بين التلال. 

في البداية "توطئة" تحكي حكاية الكاتب ونبذة عن سيرته الذاتية وعن بعض من تجاربه التي صبغت كتاباته فيما بعد. فالكاتب عاش تاريخ اليابان، فهو ولد في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين وعاش مرحلة الحرب ما بين اليابان والولايات المتحدة الأميركية. وشهد على خسارة بلاده للحرب وقصف هيروشيما وناكازاكي، وشهد دخول الإحتلال الأميركي إلى بلاده. ومن أجمل ما وصفه خلال التوطئة ثلاثة حوادث، أو لنقل من أبشع ما وصفه. الحادثة الأولى، وصفت دخول الجيش الأميركي البلاد موزعاً الحلوى ما بين الأولاد، ومن ثم ابتدأ الديمقراطيون المحتلون "بالتطهير الأحمر" بحق الشيوعيين في اليابان في بداية الحرب الكورية. والحادثة الثانية تحدثت عن قتل رجال الإمبراطور الياباني كلاب القرية جميعها، وحينما اكتشف أوي ما حدث حقيقة للكلاب ابتدأ في فهم الكثير عن اللعبة السياسة في بلاده. 

وأما الحادثة الثالثة، فهي فخر أوي بإبنه الذي أصبح موسيقياً مهماً، حتى بعد استئصال ورم كبير في دماغه، شلّ معظم قدراته العقلية في بداية الأمر. فالتمهيد يوضح أن الكاتب "أوي" يحاول وبكل جهده الكتابة عن فترة تاريخية قاسية مرت بها اليابان، ألا وهي فترة الحرب العالمية الثانية، خاصة وأن ابنه ولد مع ورم أحمر غريب في داخل رأسه، وذلك الأمر لم يكن غريباً على كثير من الأولاد الذين ولدوا في تلك المرحلة الصعبة بعد إلقاء القنبلتين الذريتين في هيروشيما وناكازاكي.

يبدأ الفصل الأول، "الوصول"، من الرواية في مكان ما من الغابة في الطريق ما بين القرى المتبعثرة في اليابان. حيث ينقل مسؤول الإصلاحية مجموعة من الأولاد من الإصلاحية ويقودهم ليسلّمهم إلى أهاليهم، أو لمكان ما غير واضح تماماً. ولكن ما نعرفه أن الراوي للقصة هو أحد هؤلاء الأولاد، الذين كانوا يأملون بلقاء والدهم. تبدأ القصة بالبحث عن ولدين هاربين، يعثر عليهما فيما بعد. جرت أحداث الرواية في زمن الحرب، ونعرف ذلك، بسبب قصة الجندي الهارب.

تغلب في الفصل الأول التفاصيل المتعلقة بالحرب: البدلات الحربية، الجندي الهارب، الزي الموحد الذي يلبسه أولاد الإصلاحية، الآلام التي كان يعانيها أحد الأولاد في معدته بعد تعرضه للضرب المبرح بسبب محاولته الهرب، الرعب من النقل بالترولي، فوق كومة من الأشجار. إنه فصل الخوف بامتياز، ويهيئك تماماً كي تشعر ماهية الحال التي عاشها الراوي. ولكن أسوأ ما في هذه الحالة اللامتناهية من الخوف هو الإحساس بالذل والرعب المرسومين في عيون القرويين الذين كانوا يرمقون هؤلاء الأولاد بعيون ملؤها الكره لهم، أو على الأقل هذه الصورة التي أرسلها الراوي إلينا. 

ولكن، في ذات الوقت تمر تلك اللحظات الحميمية والجميلة التي كان يشعر بها الرواي كلما اقترب أخوه منه، أو أمسك بيده، أو حتى حين يغفو على كتفه. وينتهي الفصل الأول بوصولهم إلى إحدى القرى حيث يسلّم مسؤول الإصلاحية الأولاد لمختار القرية بعد أن يعطيه الصلاحيات بعقاب أي واحد منهم يقوم ولو بمخالفات بسيطة للتعليمات. ثم يعود مسؤول الإصلاحية من أجل إخلاء المزيد من الأولاد. ويذكّي الكاتب مخيلتنا حول أسباب الإخلاء والتي قد يكون مردها، أن هناك انذارات بقصف المنطقة التي تقع فيها الإصلاحية، وقد تم إخلاء الأولاد من أجل تجنيبهم القتل، مع أن كل ما كان يدور في خلد هؤلاء البؤساء المتعبين، هو البحث عن وسيلة للهرب بعيداً، وبالأمل الذي مات في المهد لأن مسؤولي الإصلاحية، بمساعدة أهل القرية التي يقع فيها المبنى، استطاعوا الإمساك بالولدين الهاربين.

الفصل الثاني، "المهمة الصغيرة الأولى". تبدأ تتكشف المهمات التي سيقوم بها هؤلاء الأطفال المنسيون والمنبوذون. يرافقهم حداد التقى به الراوي على إحدى الشاحنات التي كانت تنقله ودراجته النارية معاً. ولكن الحداد لم يكن شخصاً لطيفاً كما كان على ظهر الشاحنة في الفصل الأول لقد تمنطق ببندقية ضخمة، يمكنها أن تقتل الدببة، وحرص على البقاء خلفهم وهم يجمعون المعازق والجيف من القرية من أجل دفنها. جيف منع أطفال القرية من لمسها حتى لا ينتقل إليهم الوباء. اذ كانت المهمة الأولى دفن جيف الحيوانات المريضة المتفسخة. يتساءل الرواي "الولد" في تلك اللحظة، التي صرخ بها الحداد منبهاً الولد من القرية برمي جثة الجرذ والركض لغسل يديه، وبصوت مسموع، أإذا مرض هو مشكلة ونحن لسنا مشكلة؟ ترافق مع الفصل الأول الوصف الدقيق للمشاهد، التي تشعر القارئ بأنه حتماً في الريف، وأن الفصل بالتأكيد هو بداية الشتاء أو نهاية الخريف، فالجو بارد، والمطر ينهمر، ولكن أقسى ما في الوصف هو الدقة التي ترافقت مع رائحة الجيف، حتى ليكاد القارئ يشتمها. ولكن وبعد نهاية الفصل، يبدأ المرء بالتساؤل عما إذا كانت الرواية تتحدث في قسم من أقسامها عن الوباء، أم أن الوباء هو من قاد الأحداث فيها للظهور.

الفصل الثالث، "هجمة الوباء ونزوح القرويين". لا يبشّر عنوان الفصل بالخير، وحسم التساؤل. لقد غزا وباء الطاعون القرية. ولا مكان للحجر الصحي. ولكن ما فجّر الأمر هو موت أحد الأولاد، الذي كان يتأوه من ألم في معدته طوال الطريق حتى استفحل المرض. في اليوم التالي كان من المفترض أن يذهب الراوي الذي أعلن نفسه قائداً للمجموعة ليحضر له الدواء من عند الطبيب. ولكن الصبي مات. موت الصبي أشعل حالة من الفوضى في القرية فقرعت الأجراس وأغلق باب المعبد على الأولاد وتركوا لمصيرهم. تبع الراوي وأخوه وصديقه مينامي، ومعناه الجنوب، الهاربون من الوباء لمسافة ما، بعدها تيقن الثلاثة أنهم تركوا لمصيرهم، ولم يترك أهل القرية حتى بعض الطعام لهم ليقتاتوا منه. 

في الفصل الرابع، "الإغلاق". يكتشف الأولاد أنهم باتوا في سجن كبير، المكان المفتوح الوحيد الذي بإمكانهم البقاء فيه كان في  المعبد، الذي جمعوا فيه بعد أن وصلوا إلى القرية. ولكن المشكلة التي لم يستطيعوا تبيّن وضع  الحل المناسب لجثة صديقهم الميت والتي بدت في حالة من التفسخ وانتشرت الروائح منها. وكما قال الراوي في نهاية القصة، إنهم أولاد. لم يكن يدري هؤلاء كيف يمكنهم الاستمرار والبقاء على قيد الحياة.

في الفصل الخامس، "تضامن المتروكين". يبدأ الأولاد بتنظيم أمورهم. ولا يجدون سبيلاً إلى ذلك إلا بخلع أقفال البيوت التي تركها القرويون بحثاً عن الطعام. ويلاحظ في هذا الفصل لمملة الراوي قلقه وخوفه واستعادة زمام المبادرة، وأول ما يقوم به هو منع مينامي من التحدث عن الوباء أو الطاعون، واحتمال أنه وباقي الأولاد قد أصيبوا به. ولكن في هذا الفصل، وبشكل واضح ولأول مرة خلال الرواية، يبدأ الحديث الجدي عما يتعرض له الأولاد، الصبيان، في الإصلاحيات من عمليات اغتصاب، جعلت من مينامي شاذ جنسي. ويبدو أن العديد من الأولاد قد تحولوا إلى بغايا كما يصفهم الراوي، يقومون بالعمل الشائن في مقابل المال. ويبدو أن أولاد الإصلاحية ليسوا الوحيدين الذين تركوا في القرية وقد أغلقت جميع المنافذ، الوادي مغلق بشكل طبيعي بسبب سرعة مياه السيول فيه وتم إغلاق منفذ الترولي بحاجز عالٍ من الأخشاب، وهناك حراسة شديدة عليه وعلى رؤوس التلال المحيطة بالقرية. كما تم عزل القرية الكورية القريبة، والتي انتشر فيها الوباء، والتي تصارع الراوي مع أحد أبنائها من أجل حفنة من الرز سرقت من بيوت القرية. كما ينتبه الأولاد، ومنهم الراوي، إلى أهمية دفن الموتى، بعدما شهد كيف دفن الفتى الكوري أباه الذي قتله الوباء. وتتطور في هذا الفصل حكاية الصداقة مع الولد الكوري "لي" ومع بنت ماتت والدتها بسبب الوباء وتركها أهل القرية لتموت مع والدتها.

الفصل السادس، "الحب". يلتقي الأولاد أخيراً في ساحة القرية بالجندي الهارب، وتتسارع الأسئلة حول سبب هربه. الجندي لم يكن رجلاً أخرقاً. لقد كان ببساطة طالب علوم إنسانية ولم يكن يرغب بقتل الناس. لم يجد فائدة في القتل. ولكن أهم ما في هذا الفصل والذي ابتدأت معه الأمور بالإنكشاف، ومنها أن الطبيب كما أهل القرية التي استطاع الراوي النفاذ إليها، لا يريدون معرفة ما حدث لهم، وافتراض أن الجميع مرضى جلب لهم الرضى وخاصة للطبيب الذي ضربه وأعاده إلى القرية المحاصرة. كانت الرحلة خارج الحاجز مقابل محطة الترولي في الأساس هي من أجل إخراج الفتاة من القرية. لقد بكت كثيراً حتى قرر إخراجها. ولكن بمجرد عودته إلى سجنه لحقت الفتاة به وانتهى بهما الأمر إلى اكتشاف الحب.

الفصل السابع، "الصيد والعيد في الثلج". وفي هذا الفصل تجري حوادث بسيطة وسعيدة وهي امتداد للفصل السادس، فصل الحب، حيث تتخذ العلاقة ما بين الراوي والفتاة نوعاً من القبول ما بين الأولاد. ويبدأ الأولاد للمرة الأولى بتعلّم الصيد. إذ جاء الثلج، وأصبح من الصعب أكثر إيجاد الطعام. ولكن مع الصيد الأول للأولاد تقرر إقامة وليمة والاحتفال بعيد الصيد لأول مرة والغناء والرقص.

الفصل الثامن، "تفشي المرض المفاجئ والذعر". تحول دراماتيكي كبير. ولكن يبدأ هذا الفصل مع التحضير للوليمة بحضور لي، الفتى الكوري، والجندي الهارب. ولكن ما حدث أن الفتاة مرضت وأصيبت بالحمى وتبين أن كلب أخ الراوي الصغير شاهده الأولاد وهو ينبش بين الجثث. وقام الصغير بغسل كلبه وغسل جسده جيداً بماء النهر. ولكن مينامي استنتج أن الفتاة قد مرضت بسبب عضة الكلب، وأنه إما أن الكلب مصاب بالطاعون وإما أنه مسعور. التحولات الدراماتيكية شديدة الانفعال، يشعر معها القارئ بالألم والخيبة مع الصغير والذي كان واضحاً أنه بعدما قتل كلبه بوحشية وألقيت جثته في النار أنه سيرحل عن الجميع، وهذا ما فعله. ولكن رحيل الصغير كان ذا وقع نفسي حاد على أخيه "الراوي"، والذي شعر بأنه خذله. هذا الخذلان ليس جديداً خلال سير الرواية، وهو جزء من الحالة التي يعيشها الأولاد.

الفصل التاسع، "عودة القرويين وذبح الجندي". الفصل يقرأ من عنوانه! بالتأكيد ستكون هناك الكثير من ردات الفعل، خاصة وأن الراوي ولي، الفتى الكوري، اقتحما في آخر مرة بيت المختار بحثاً عن كيس الثلج من أجل تبريد حرارة الفتاة. ولكن الجندي حمل جسد الفتاة إلى المقبرة في الوادي ومن ثم أحرق المخزن الذي كانت تسكنه مع والدتها المريضة. يعود البؤس ليخيّم على الأجواء تماماً كما ابتدأت القصة ببؤس يحوم في الأفق. تتسارع الأحداث المؤلمة، ويسود الموت على أيدي أهل القرية وبشكل فظيع، لا يمكن تصور الأحداث ولا أساليب القتل التي استخدمت ولا حتى الضرب. لا يمكن تصور ألم الأولاد، الذين تركوا جياعاً ليسهل ترهيبهم أو من خلال ضرب بعضهم وترك الآخرين في حالة خوف وترقب. في هذا الفصل يصبح حال الرواي أكثر سوءاً عندما أخبره لي أنه قد عثر على جثة أخيه الصغير وحقيبته فيما كان هارباً. ولأن لي يعرف مدى خوف الراوي على أخيه يعود ليخبره بما حدث. ولكن وبينما هو عائد، أمسك القرويون به وضربوه ضرباً مبرحاً. في نهاية الفصل يدفع المختار الباب الموصد، ويدفع الأولاد نحو الزاوية التي كان يبول بها الأولاد منذ الصباح بسبب حبسهم في أحد المخازن ويسأل إذا ما كان الجميع حاضرين.

الفصل العاشر، "المحاكمة والطرد". وفيه تسطير باقي الحكاية، والتي ليس من العدل الحديث عنها، سوى أنها كانت مليئة بالألم والخوف، وبجبن أهل القرية، الذين يسمّيهم الراوي بالقرويين المتوحشين. خلال أحداث الفصلين الآخرين يتضح أن أهل القرية قد عادوا ليس لأن خطر الوباء قد زال، ولكن لأن الوقت قد حان لعودة المسؤول عن الأولاد، وكان خوفهم من فضح ما قاموا به من التخلي به عن واجباتهم تجاه الأمانة التي تركت بين أيديهم أكبر بكثير من خوف إصابتهم بالوباء. النهاية ليست مفتوحة ولكنها ليست واضحة، بل هي مرتبطة وبشكل مباشر بأمل القارئ بتحقيق العدالة لهؤلاء الأولاد، من أهالي القرية المتوحشين.

يتصاعد التعقيد في الرواية من خلال الأحداث المتتالية، منذ نقل الأولاد من الإصلاحية إلى استلامهم من قبل مختار القرية، إلى رحلة دفن الحيوانات النافقة، التي قادها الحداد في تلال القرية مع الأولاد. وملفت خلال رواية الأحداث الحذر الذي تعامل معه أهالي القرية مع أولاد الإصلاحية وكأنهم وباء، وفي مقاطع أخرى وكأنهم أولاد يمكن الاستغناء عنهم. فكيف لا وبعض هؤلاء الأولاد قد تخلى عنهم آباؤهم ووضعوهم في الإصلاحية لأنهم أصبحوا عبئاً عليهم. ولكن الحكاية تصل إلى ذروتها في الفصل الرابع، عندما يحدث الإغلاق. وتظهر في تلك اللحظة قمة التعقيد والخطر اللذين بات الأولاد ينؤون تحته. ويبدو ذلك جلياً عندما انصاع الرواي للقرار الذي اتخذه مينامي بمغادرة القرية واتباع أهلها نحو الخروج منها، ليصطدموا بالحقيقة المرة أن أهل القرية بنوا حولهم سوراً لا يمكن تجاوزه، ووضع شخص للحراسة مع بندقية فوق سطح محطة الترولي لمنع أي منهم من محاولة الخروج. 

يخرج الأمر ولبرهة من الزمن عن سيطرة الراوي على الواقع الجديد الذي وضع فيه الأولاد. ويمكن تتبع ذلك من خلال ردات فعل الأولاد الذين انصاعوا لقرار مينامي بدلاً من سماع رأي الراوي ونصيحته بالبقاء في داخل القرية. وهذا ما وضع الرواي في حالة قلق استدل عليها من خلال قراءة أفكاره وتصرفاته وحتى حركات جسده: حينما يصف الكاتب طريقة ضم الرواي لأخيه أو كيف يعانقه أو كيف يتجاوب مع بكائه، ليقول إن سوء الوضع قد تجاوز مخيلته. وهنا تصل عقدة القصة إلى ذروتها.

ولكن الحل في القصة تبدأ مع الفصل الخامس، حيث يفشل مينامي في إيجاد طريق ما من أجل مغادرة القرية أو في إيجاد حل لمعضلة البقاء، وهنا يعود الراوي ليستلم زمام المبادرة ويجد أن الحل لا يكون في إنتظار الفرج في داخل المعبد "السجن" وإنما يكون بالبحث عن الطعام في بيوت القرية الموصدة. ويستعيد هنا الراوي زمام المبادرة ويعمل مع أصدقائه من أجل إعادة تنظيم أمورهم. ولكن هنا تظهر عقبات صغيرة في طريق الحل عبر المأساة التي تجلت هذه المرة بظهور ثقل عامل الوقت. الأولاد بحاجة إلى كبار من أجل تنظيم أمورهم، حتى ولو كانوا من الإصلاحية. وتجمع المأساة الفتى الكوري والراوي ويبدؤون بتنظيم أمورهم ومنها دفن الموتى حتى لا يتفشى المرض بينهم. إذ أوحى دفن "لي" لوالده أهمية دفن صديقهم ووالدة الفتاة المريضة. 

في الحقيقة لا تخضع الرواية للعناصر الخمسة بما يتعلق بالذروة وبداية الحل، فالذروة في القصة تمتد حتى نهاية الفصل السابع حيث يعيش الأولاد في حالة سكينة بعد أن هجرهم أهل القرية، ويأتي الثلج، ويتعلمون الصيد ومن ثم تبدأ عناصر الرواية بالانحدار. ومن ثم فإن ما بين أيدينا ليس رواية كما عرفها الناشر، بل هي قصة، لأنها تبدأ وتنتهي خلال فترة زمنية متقاربة وتستمر لأشهر قليلة تمتد ما بين هطول المطر ونزول الثلج خلال فصل الشتاء. والقصة تجري خلال زمن الحرب، وفي مكان واحد، في قرية ما تقع بين التلال في اليابان. وأما الرواية فهي تمتد على طول جيلين أو أكثر، وما بين يدينا لا يتجاوز الشهرين من عمر أصحاب القصة، والذين هم أولاد في عمر المراهقة ولم تتجاوز خبرتهم اكتشاف بعض من ذاتهم الجسدية أو حاجاتهم الجسدية.

أجمل ما في القصة كان قدرة الكاتب على وضع القارئ في حالة من الحركة المستمرة مع حركة الأولاد. ومن خلال وصفه للطبيعة والترولي والأخشاب التي تسلقوها فيه وبقوا فوقها في حالة من الجمود حتى وصلوا القرية، تجعل القارئ في حالة ترقب، هل سيتحرك أحدهم، فتتحرك جذوع الشجر، ومن ثم هل سيسقط أحد الأولاد من الترولي. ومن خلال الوصف المستمر، استطعنا الشعور بالبرد، ورؤية الضباب ومحاولة تكشف الطريق وشم الروائح وحتى الإحساس بالأقدام العارية وبالأنوف المتورمة من شدة البرد. إذ لم يبالغ الكاتب بالوصف، بل كان جزءاً لا يتجزأ من الصورة التي كان من المفترض أن تصل القارئ خلال قراءة الرواية. 

والرواية "كما يصنفها الناشر" ليست رواية رومانسية، مع أن فيها الكثير من الحب. وليست مغامرة، مع أن حياة الأولاد فيها كانت مغامرة عظيمة. وليست رواية حربية، مع أنها جرت في زمن الحرب. وليست علاقة صداقة، مع أن فيها الكثير من الصداقات الجديدة التي بنيت، وليست بالتأكيد حكاية شجاعة في مواجهة الخيانة. إنها رواية سياسة اجتماعية بامتياز. فهي تتحدث عن مرحلة تاريخية محددة شهدت أحداثاً سياسية صبغت مسار الرواية منذ البداية وحتى آخر لحظة فيها. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى