إجتماعيات

البيان الختامي
ورشة تفكير ونقاش “التعليم الديني وتحدّيات المواطنة والتعدّدية”
إعداد الدكتور مصطفى الحلوة

نظّم ” مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية”، بالشراكة مع مؤسَّسة Hanns Seidel الألمانية، ورشة تفكير ونقاش، عُقدت في القاعة 1188 للمحاضرات، جبيل (المدينة القديمة)، وذلك على مدى يومَي 27 و 28 كانون الثاني 2023. وقد جاءت الورشة بعنوان:” التعليم الديني وتحدّيات المواطنة والتعدّدية”، وذلك بحضور فريق العمل الإقليمي لـِ” هانس زايدل”.
في الجلسة الافتتاحية كانت كلمة لرئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره، رحّب فيها بأعضاء الوفد المؤلَّف من السيد كريستوف دوفارتس، المسؤول الإقليمي للمؤسسة، ومن السيدة عُلا الشريدة، مديرة البرامج في الأردن وسوريا ولبنان، والسيدة Simone Reinert، وأملَ أن تكون هذه الورشة فاتحة خير لسلسلة ورش العمل، للعام الجاري 2023. كما كانت كلمة للسيد دوفارتس، استعرض فيها تجربة التربية الدينية في ألمانيا، حيث تنص عليها المادة 7 من الدستور الألماني (1949). وقد جاء فيها “الحقّ لأولياء الأمور اتخاذ القرار فيما يخصّ تلقِّي التعليم الديني، كجزءٍ من المنهاج الدراسي في المدارس الحكومية، باستثناء المدارس التي لا تتبع طائفة دينية معينة، وذلك من دون المساس بحقّ الدولة الإشرافي. ولا يجوز إلزام أيّ مدرِّس بإعطاء تعليم ديني ضدّ إرادته”. وأضاف، ثمة تدريس للتعليم الديني الإسلامي في فصول المدارس الحكومية. ثم كانت كلمة لمنسق أعمال الورشة د. علي خليفة، الذي أضاءَ على الأسباب الموجبة لعقد هذه الورشة، كما الانتظارات.
عن الجلسات الست، التي تضمّنت عشر مداخلات، فقد اتخذت العناوين الآتية: البُعد التاريخي والإطار التشريعي والقانوني للتعليم الديني في لبنان/ التعليم الديني في المدارس: نماذج ومبادرات رائدة/ الدين كتجربة ثقافية لا تعليمية في المدرسة/ الدين والتنشئة الاجتماعية في المجال العام/ واقع حال حصص التعليم الديني في المدارس: تجارب شخصية/ التعليم الديني في مجتمع مُتعدّد الطوائف: المأمول منه للوطن.
عن الحضور، فقد كان طغيان طالبي جامعي، إلى ممثلي فاعليات دينية واجتماعية وتربوية، في عِدادهم السيد الوزير السابق إبراهيم محمد مهدي شمس الدين، الذي قدّم دراسة حول التربية الدينية في “الجمعية الخيرية الثقافية”، التي يُديرها.
وقد اتّسمت الورشة بحوار تفاعلي، وطُلب إلى الطلبة الجامعيين، في ختام أعمال الورشة، وضع بعض المقترحات الخطية لتأخذ طريقها إلى البيان الختامي.
قبل التوقف عند المحاور الأساسية والخلاصات، تنبغي الإشارة إلى أن ما عزّز نقاط القوة في الورشة، استحضار “وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”، التي شكّلت علامة فارقة في هذه الورشة، إضافةً إلى إيراد حوار سابق مع مرجعين دينيين حداثيين راحلين، هما سيادة المطران غريغوار حداد والعلامة السيد هاني فحص، اللذين اتسمت مواقفهما الدينية والدنيوية بجرأة لافتة. ناهيك عن الإطلال من زاوية واسعة على مناهج الحضارات والفلسفة، في المنهاج اللبناني (المرحلة الثانوية)، الذي يُعيد الاعتبار إلى الفكر النقدي، في مجمل القضايا، ولا سيما ما يختص بالأديان.
وإلى ذلك حفلت الورشة بتجارب معيشة لمدّرسين ومشرفين تربويين، حول تعليم الدين، الذي يغلب عليه الجانب العقدي الإيماني، كما التربية الدينية، التي تندرج تحت الثقافة الدينية.
تجدر الإشارة إلى أن الدين، يشغل مساحةً واسعة في ورشتنا، من منطلق أن الدين هو الأصل، وأن التعليم الديني هو فرعٌ من أصل.

في التساؤلات المؤسِّسة لأطروحات الورشة وتحديد الاتجاهات
كون الموضوع، الذي نُكِبُّ عليه في هذه الورشة، هو موضوع شائك وإشكالي، ويثير الكثير من التساؤلات، التي قد يصل بعضها إلى حدّ الهواجس، فمن الأهمية بمكان تطارح بعض هذه التساؤلات، التي تُصوِّب البوصلة باتجاه الكثير من الإجابات. علمًا أن التساؤلات أدناه، رصدناها من خلال المداخلات العشر، التي أدلى بها المحاضرون:
هل يحملُ الدين مشروعًا تربويًّا، بحيث يُمكنه أن يكونَ وسيلةً من وسائل التربية على المواطنية؟
ما هي المواطنية في الدولة الديمقراطية؟ واستكمالاً، هل في الدولة الدينية مواطنون، مُتّخذين الدولة الدينية المسيحية والدولة الدينية الإسلامية، كنموذجين؟
هل المدارس، التي تُدرِّس الدين، في صيغته العقدية، تُشكِّل مساحة لتلاقي جميع الطلبة، أو غدت أشبه ما تكون بفدرالية المناطق والطوائف؟
كيف نزرع الشقاق بين الطلاب، عبر التعليم الديني، في الصِغر، ونطلب إليهم التآلف في الكِبَر؟
كيف السبيل، في مجتمعنا اللبناني التعدّدي طائفيًا، إلى إيجاد مساحة مشتركة بين المسيحية والإسلام، تطولُ جميع المجالات، وفي عِدادها مجال التربية الدينية، بصيغتها القيميّة الأخلاقية؟
أين نحنُ من تدريس الثقافة الدينية، عن طريق الكفايات؟
ما هو الدور الذي تؤدّيه “وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”، بما يخصّ الأطروحة، التي نتوفّر عليها، فتشكِّل معبرًا، لا بديل منه، إلى المواطنية، بكل مرتكزاتها ومحمولاتها؟
هل أكسبت مادة الفلسفة (المرحلة الثانوية) الطلبة طريقةً مختلفة، في التفكير بالأديان؟
هل أتاحت لهم التزوّد بالثقافة الدينية، التي تفتح قابليتهم الذهنية على قبول التنوّع الديني؟
هل استطاعت أن تقنعهم بأن التعدّدية الدينية هي أحد مظاهر التنوّع الثقافي، في عالم مزدحم بالديانات والإثنيات واللغات والأجناس والأعراق، وأن دينهم ليس هو محور الكون؟
هل كشف لهم منهاج الفلسفة أن التجارب الدينية هي تجارب إنسانية معيشة، تتلاقى في صميميتها، لتوحّد الكينونة الإنسانية؟
هل حطّمت مادة الفلسفة والحضارات الحاجز النفسي، لدى المتعلّم، ليتقبّل المقارنة بين دينِهِ ودين سواه، بعيدًا من الإيحاءات والإسقاطات والتوجّهات المنمّطة، التي رُسِّخت في ذهنه؟
هل يؤهل منهاج الفلسفة المتعلّم، كي يكون مواطنًا، لا يتعارض لديه الانتماء المواطنيّ مع الانتماء الديني، ولا يطغى الثاني على الأوّل، بل يُمكن أن يتكاملا من دون أن يتضاربا؟

في الثوابت والرؤى
مُتلازمة الدين والتنشئة الاجتماعية تبقى واحدةً من أكثر الجدليات تعقيدًا. فالدين، على مدى التاريخ والجغرافيا، شغل الشعوب، في مختلف مراحل تطوّرها. وقد شكَّل مادة رئيسة في نتاج مفكري الشعوب وفلاسفتها، مؤمنين وملحدين، وحتى عند البسطاء والعامة وغير المتعلمين.
إن محاولات اقتلاع الدين من الفضاء العمومي تبقى محاولات عبثية، فالإنسان، أفردًا كان أو في إطار جماعة، يجد نفسه دائمًا بحاجة إلى ملاذ يلجأ إليه، ليستمدّ منه القوة والأمل والرجاء.
إن التزاوج بين الدين والتنشئة الاجتماعية يُشكِّل مسلكّا رئيسًا لإعداد الإنسان وصقل شخصيتِهِ الاجتماعية، التي تُؤهِّلُه إلى إرساء علاقات سليمة وآمنة مع الآخرين، على اختلاف مشاربهم العقدية.
الفكر الديني هو نسقٌ، لا يقبل التجزئة، وينبغي على كل مؤمن، في كل زمان ومكان، أن يتغذّى منه ويُغذِّيه.
في النموذج اللبناني، غدا الدين مادةً دسمة ومصدرًا سريع الاشتعال لتفاقم النزاعات والشقاق، ولنا في ذلك شواهد كثيرة.
إن تاريخ التعليم في لبنان بعامة هو تاريخ لبنان نفسه، بحسب تعبير فؤاد أفرام البستاني. وعليه، فإن ثمة علاقة جدليّة مثلثّة الأضلاع بين التعليم والتاريخ والسياسة.
الدولة الدينية، لجهة أنظمتها وقوانينها، مبنيّةٌ على حقيقة إلهية مطلقة، غير قابلة للتطوير، وليس ثمة اعتراف بالآخر المختلف دينيًا.
في الدولة الدينية المسيحية، كما الإسلامية، الآخر هو هرطوقي (أي كافر)، كما قد يكون أهل ذمة أيضًا لدى الدولة الإسلامية. علمًا أن هذا الوضع القانوني أصبح من التاريخ.
الخطاب الديني لا يُنتج علمًا، بل هو يُنتج، في أيامنا، سياسة. وحين يُوقف السياسيون الحقن الطائفي والعصبيات الدينية، عندها يبدأ ما ندعوه عملاً جدِّيًا.
التعليم الديني ليس مُحايدًا، فتشكيل عقول الطلبة يتمّ وفق إرادة المشكِّل وتوجُّهاته (أي المعلم). ويتعاظم الضرر، في هذا المجال، إذا كان المعلّم مؤدلجًا.
كون العقائد ليست محل التقاء، فإن التعليم الديني المرتكز عليها، يغدو تعليمًا يُقصي الآخر المختلف، من حيث انتماؤه الديني.
في توزّع خريطة التعليم، يغطّي التعليم الكاثوليكي 30 % من طلاب لبنان (325 مدرسة)، وهي تابعة للأبرشيات والرهبانيات، وتخضع السياسات التربوية لديها – بما في ذلك التعليم الديني – لتوصيات ” الهيئة العامة للتعليم الكاثوليكي” في لبنان (أنشئت في الخمسينيات من القرن الماضي). وبالمقابل فإن المدارس الإسلامية السُنية والشيعية، فهي تلتزم لجهة التعليم الديني، بتوجُّهات دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية وبالمجلس الشيعي الأعلى.
يرتكز التعليم الديني، لدى المدارس الكاثوليكية، على الإنجيل. ويظهر السيد المسيح، في مقاطع عديدة، كمعلّم. وبالمقابل، فإن المدارس الإسلامية، التي نشأت في وقت مُتأخّر، تستند عقديًا على القرآن الكريم والسُنّة النبوية، مُتّبعةً المنطق نفسه.
على رُغم التفاوت عقديًّا بين المسيحية والإسلام، فإن المجمع الفاتيكاني الثاني، عبر البيان الصادر عام 1965، في عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين، اعترف بالأديان التوحيدية، لا سيما الإسلام.
وبالمقابل، ففي الإسلام، الاعتراف بالمسيحية قائم، في صلب العقيدة الدينية، وثمة آيات قرآنية مُتعددة تصرّح بذلك. وهذا الاعتراف المتبادل يُسهِّل الحوار بين الديانتين، في مجالات متعدّدة، ومنها مسألة التعليم الديني.
في هذا المجال، تُعتبر ” وثيقة الأخوّة الإنسانية “، التي أعلنها ووقّعها قداسة الحبر الأعظم فرنسيس وإمام الجامع الأزهر د. أحمد الطيّب (4 شباط 2019 ، في أبو ظبي)، مُرتكزًا أساسيًّا لتعليم ديني، يسهم إسهامًا، في مشاريع التربية على المواطنية في لبنان، والعالمين العربي والإسلامي.
وإذْ تُحقِّق أهداف التعليم الديني في “الوثيقة ” مُراد المتكلِّم (أي الله)، فقد أُدرجت هذه الأهداف كالآتي : الله وهبَ الحياة والحرية لكلّ البشر ليحافظوا عليها، لدى كل إنسان، وليكونوا مُتساوين في الحقوق والواجبات والكرامة / المؤمن يرى في الآخر أخًا وليس عدوًّا أو خصمًا / لا سبيل إلى تحقيق مشيئة الله إلاّ بالحوار والتعاون المشترك والتعارف المتبادل بين المؤمنين بالله، وبينهم وبين غير المؤمنين / رفض التطرّف الديني والتشدّد والتعصّب الأعمى / الحريّة حق لكل إنسان: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسةً / التعدّدية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، خلق الله البشر عليها، ومنها تتفرّع الحقوق بحريّة المعتقد واليقين الشخصي، والحق بالاختلاف، بحيث يُصبح إكراه الناس على دين معين جريمة / إن الله غنيٌّ عمَّن يُدافع عنه، أو يُرهب الآخرين باسمه، ويُعتبر ذلك جريمة بحق الله والأديان / الحوار بين المؤمنين يُعلي التلاقي في المساحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية المشتركة / حماية دور العبادة واجب تفرضه كل الأديان، ويعتبر ذلك خروج من صريح تعاليم الدين / ليس الإرهاب نتاجًا للدين، بل نتيجة الفهم الخاطئ لنصوص الأديان / الاعتراف بحق المرأة في التعليم والعمل وممارسة الحقوق السياسية ضرورة مُلحّة / إن مفهوم المواطنية يقوم على المساواة في الواجبات والحقوق التي ينعم في ظلالها الجميع بالعدل .
تأسيسًا على ما تقدّم تخلص هذه الأهداف إلى وجوب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنية الكاملة في مجتمعاتنا، والتخلّي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح الأقليات، الذي يحمل في طيّاته الإحساس بالعزلة والدونية، ويُمهّد لبذر الفتن والشقاق، ويُصادر على استحقاقات وحقوق بعض المواطنين، الدينية والمدنية، ويؤدّي إلى التمييز ضدّهم.
العلّة ليست في التعليم الديني، بل في الطوائف، التي توسّلته لغير الغاية المتوخّاة منه ، حين قُيِّض لها مصادرة الفضاء التربوي، بترخيص دستوري، إذ تنصّ المادة العاشرة من الدستور على الآتي: “لا يمكن أن تمسّ حقوق الطوائف، من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفاقًا للأنظمة العامة، التي تُقرِّرها الدولة في شأن المعارف العمومية “.
هكذا كان لكل مرجعية طائفية أن تقوم بتحديد مضمون ووسائل التعليم الديني وأهدافه، من دون الرجوع إلى هيئات وزارة التربية، وخارج مراقبة ” المركز التربوي للبحوث والإنماء “.
في ظل حالة الفلتان، وغياب وزارة التربية، اختلفت مضامين التعليم الديني إلى حدّ التنافر، وخرجت طرائق التعليم عن إطارها، بشقِّه العقدي، غير القابل للتوحيد.
في مواجهة هذا الواقع المتردّي، كانت لجان لتحديث المناهج، منذ العام 1968، وصولاً إلى العام 1995 (خطة النهوض التربوي التي أفرزت المناهج 1997). ولم تفضِ هذه المحاولات إلى أي نتيجة، على غرار ما حصل في قضية كتاب التاريخ وتدريس التاريخ.
آخر المعالجات، تمثّلت بمحاولة إلغاء التعليم الديني، بقرار رسمي، حين بلغ النقاش ذروته. فقد اقترح الرئيس الراحل الياس الهراوي إلغاء هذا التعليم، داعيًا إلى علمنة المناهج التربوية في المدارس الرسمية، للحدّ من الفوضى. ويؤثر عنه قوله، في خطابه بالأونيسكو، غداة إطلاق المناهج الجديدة: “إن احتكار الطوائف للتلاميذ، بعيدًا عن مسؤولية الدولة ومتابعتها، يلحقُ ضررًا فادحًا بالدولة ومؤسساتها”.
علمًا أن المركز التربوي، كان قد وضع منهجًا موحدًا للثقافة الدينية، عبر لجنة مسيحية – إسلامية مشتركة، جهدت في الخروج بكتاب موحد للتعليم الديني. وقد باءت كل هذه المحاولات بالفشل، جرّاء المواقف المعارضة للمرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية. هكذا، فإن الأمور متروكة على غاربها.
إشارةٌ إلى أن محاولةً لتجديد منهج الفلسفة والحضارات – إضافةً إلى مناهج أخرى – جرت في العام 2017، ولم يُكتب لها الاستمرار. وكانت اللجنة مُزمعةً، بجعل الهدف السابع، على الوجه الآتي: ” بناء المواطنية المنفتحة على الكونية والإنسانية”. ناهيك، بحسب الكفاية العاشرة، الوصول إلى طالب يعيش “المواطنة الفاعلة وتكوين وعي بالهويّة الوطنية (..) بعيدًا عن الفئوية والمحسوبية والتيارات المدمِّرة لفكرة الوطن والهوية “.
لا يأتي مقرّر الفلسفة والحضارات، ولا الفلسفة العربية، على ذكر المواطنية. بل ثمة إضاءة على التنوّع والتعدّدية الثقافية، على مستوى الدين واللغة والفكر والثقافة. علمًا أن محور قضايا معاصرة، يتطرّق إليها بصورة غير مباشرة، متوسِّلاً بعض النهضويين العرب (أمين الريحاني وفرح أنطون) في هذا السبيل. وفي هذا المجال يقول الريحاني: “أليس في وسع المرء أن يعيش في هذا العالم دون أن تُطبع روحُهُ بطابع الملّة؟ وتُصبغ بصبغة الطائفة؟”.
ومن المفارقات، بل من سُخريَّة القدر أننا، على صعيد المناهج، نعودُ إلى الوراء. ففي المناهج التربوية للعام 1946، أي غداة الاستقلال اتّسم الخطاب التربوي ببُعدٍ وطني متميِّز، لم نعُدْ نجد مماثلاً له في الخطابات التربوية لاحقاً. فبعد العام 1994، كان تجسيد للهويّة الطائفية، في حدودها القُصوى، بل كان استبدال للهوية الوطنية بالهوية الطائفية.
تقويمًا لمناهجنا الحالية، لا بد من وقفة مع د. عدنان الأمين، أحد أبرز المنظرّين في قضايا التربية والمناهج: “ما تحقّق خلال الثلاثين سنة الأخيرة – بما يخصّ المناهج – يكاد يكون عكس الكلام” حول جودة هذه المناهج والارتقاء بها:”إنّ المشكلة الكبرى، تكمن في تشويه العقول، عقول المعلمين والمتعلمين، على السواء، وتحويلهم إلى جماهير، لدى المكاتب التربوية للأحزاب السياسية في السلطة “(السياسات الحكومية والخسائر التربوية / عن معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية – كانون الثاني 2023).

في التوصيات / المقترحات:
في تحديد المفاهيم وتصويبها، الأجدى، بما يخصّ موضوعنا، استخدام مصطلح التربية الدينية (الثقافة الدينية) وليس التعليم الديني. ذلك أن التعليم الديني يأخذنا إلى التعليم، في بُعده العقدي، وهو غالبًا ما يُدرّس في المعاهد الدينية المتخصّصة.
يجب أن يُقدَّم التعليم الديني، كمادة ثقافية، تستوعب قضايا مُتعدِّدة، عبر خطاب منطقي عقلاني ومُقْنع.
يجب مقاربة التعليم الديني / التربية الدينية، بإعطاء الأولوية للثقافة الدينية في المدرسة، كونها مكان التقاء الجميع، فلا نُقصي أحدًا.
لفهم البُعد التاريخي والإطار التشريعي والقانوني للتعليم الديني في لبنان، لا بُدَّ من قراءة أفقية للتاريخ.
التربية، على التنوّع الديني، مهمة أساسية للمدرسة، في التعليم الرسمي والخاص.
يجب التخليّ عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح الأقليات، الذي يحمل في طيّاته، الإحساس بالعزلة والدونية، ويُمهّد لبذر الفتن والشقاق بين أتباع الأديان، ويُصادر على استحقاقات وحقوق بعض المواطنين الدينية والمدنية، ويؤدّي إلى التمييز ضدّهم.
في العملية التعليمية يجب فصل السياسة عن الدين، بل عدم تسييس الدين وتديين السياسة.
يجب الخروج بكتاب للتعليم الديني / التربية الدينية موحّد، يرتكز على مفاهيم مشتركة، مسيحية / إسلامية، ومبادئ دينية عامة، في الأخلاق والروحانيات.
الإسلام، كدين وكمشروع إنساني، يركّز، منذ نصوصه التأسيسيَّة، على المجال التربوي، ويحفظ للفرد والجماعة مكانتهما ودورهما في المجتمع. من هنا أهمية وضع كتاب للتربية الدينية ينُشِّئ الطلبة على القيم الفردية والجمعية.
كون التربية الدينية قابلة للتضمين، وعابرة للنطاق الديني القيمي، ينبغي أن تجد لها مكانًا في مقررات دراسية وحصص تعليمية، منها حصص التاريخ والجغرافيا والآداب والفلسفة وعلم الاجتماع. وبهذا تُصبح الثقافة الدينية عنصرًا جامعًا، يُلبِّي حاجات المجتمع.
إذْ تؤدّي التربية الدينية دورًا فاعلاً في تكوين الشخصية، شخصية المتعلم، يجب أن لا يتعارض هذا الدور مع الانتظام العام.
كون المواطنية سياسية، في الدولة الديمقراطية، فلقيام مواطنية حقّة، ينبغي أن يكون الولاء السياسي للدولة. وفي حال غدا الولاء للمؤسسة الدينية، يفقد الأفراد صفة المواطنية، ويغدون في وضعية الرعايا.
يجب خروج اللبنانيين من انتماءاتهم المتنافرة، بهدف استثمار التنوّع، في إنتاج ثقافة وطنية جامعة.
من الطبيعي أن تتضمّن كل أطروحة، تتعامل مع جماعة، مساحة اهتمام تربوي، فتكوين الجماعات لا بُدّ له أن يتعاطى مع نظام الأفكار والقيم معًا.
كي يحقّق الاعتراف المتبادل بين المسيحية والإسلام مفاعيله، يجب على السلطات الدينية أن تنقل هذا الاعتراف إلى ميدان التعليم الديني والتربية الدينية.
هناك حقائق علمية يجب أن لا يتطرّق إليها الدين إلاّ من خلال إطارها التاريخي والرمزي، وذلك من منطلق أن العلم حقلٌ خاص، له أطُرُه ومنطلقاته، وللدين حقلٌ خاصٌ أيضًا، وما يبقى من كتب الدين هي الروحانيات والأخلاقيّات، لأنها، في أساسها، ليست كتب علم.
يجب ألا تحتوي المادة الدينية تشنّجات عقائدية وتعاليًا على الآخر المختلف دينيًا.
يجب أن يكون معلم التربية الدينية هو معلّم التربية المدنية (أي علماني)، طالما التركيز هو على الجانب القيمي والأخلاقي للدين.
استكمالاً، بما يخصّ الجهاز التعليمي للتربية الدينية، يجب إعداده لهذه المهمّة، بانفتاح وموضوعية، وبعيدًا من التعصّب والأدلجة.
في إطار تعليم التربية الدينية، يجب تبصير الطالب المسلم، كما المسيحي، أنه في ظل دولة إسلامية (العصر العباسي)، كان ثمة هامش من الحرية لحركة الفكر الديني، سمح للفقهاء وعلمًا الشريعة بمعاينة النصّ الديني بعدسة غير دينية، وكانت قراءات مفتوحة على عدة خيارات.
لبنان آخر موضع للتعدّدية الدينية في المنطقة (18 طائفة ومذهب معترف بها)، ولأنه كذلك، يجب أن نتعلّم من التاريخ – أي من تجاربه، الإيجابية والسلبية – بحسب تعبير الفيلسوف الألماني هيغل.
تمنّى الكثيرون من الطلبة الجامعيين، المشاركين في الورشة، عبر مقترحاتهم الخطية، لو أُوتي برجُلَي دين (مسيحي ومسلم) كي يكتسي الحوار حيويةً أكبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى