المقالات

فيض الغيوم البيضاء
د. محمد حمود/ ال “مضى” \ د. قصي الحسين

حالات من الوجد، هي أشبه بما عند الصوفيين، من فرط الغرام والعذاب والجوى. بل ربما من حرقة الهوى، التي تنوف على سقر. ذوب من الشوق، وأخيلة غامضة وغيوم بيضاء، وجسوم معطلة، ربما تشاهدها في كل صورة، وفي كل معنى، تمحوها علومه، ويثبتها وجده، تلك هي حالة د. محمد حمود، في ديوانه المؤسس لشاعريته التي تفيض غيما أبيض، كلما نظرا وراءه، في الماضي من أيامه: ” أل مضى. طبعة خاصة. بيروت2016: 120ص.” نستمع إليه يقول تحت عنوان: “المضى- ص 7”:
( بيعن ع بالي المضى/ متل حنين الصوت/ لرجوع الصدى/
متل جورية تشارين/ عراها الهوا/ بتنده لحالا به الفلا/ بركي الربيع بيسمعا/ وعا حواض أهلا يرجعا/ وينقطا بصرة ندى.)

مجموعته الشعرية هذة، إنما هي أولى مجموعاته التي إفتتح بها “عصره الشعري”. وهي أشبه ب “ميلانخوليا” مقطرة. أشبه بألم على جرعات. أشبه بالوخز بالإبر. إنه نوع من الشعور الدقيق، الذي ينتاب قارئ شعره في ديوانه المؤسس لشاعريته: “أل مضى”. نسمعه يقول في “صاحبي الزاروب- ص 18”:
( بيعن ع بالي/ هاك الزاروب/ المنزوي بالحي/ تحت شجرة تين).

إنها نوع من النستولوجيا التي لا تريد أن تعترف بالواقع المرير، بل تنسج من الغيوم السوداء التي كانت تحوم فوقه، فيضا من الغيوم البيضاء، يرسلها بإتجاه الريح، فتنتشر في سمائه، ساعات وساعات من الحب والوجد والحنين والعشق. نسمعه يقول في “غنج الحبق- ص49”:
( حلوي متل نزل المطر/ ب اول شهر نيسان/ حلوي متل قوس القدح/ مخيم على بستان.)

يعود الشاعر إلى حضن الطبيعة التي أنشاته. وإلى مدينته بعلبك وريفها الأخاذ. تلك المدينة التي يجد فيها كل ما يعصمه من مرارة الواقع. ينادي على أهله وأصدقائه وخلانه ومحبوباته وأبناء جيله، فترى القصائد تتوالد واحدة تلو أخرى: “غيوما بيضاء” تملأ أفق سمائه. نستمع إليه يقول في ” ليل و واوية- ص68″:
( خبط عا بابي الليل/ قلي أنا خيفان/ فتحلي شي طاقة زغيرة/ ه الطقس برا جنان.)

حتى اليأس، أضحى يعود إليه، كلما غربت شمس النهار، يوما بعد يوم. فتتحول بعلبك إلى أعمدة من رخام. ومن شعر. من مدينة للعظام إلى مدينة للعظائم التي أنزل بها الدهر. نستمع إليه يقول في “شتي بعلبك- ص90”:
( جايي الشتي/ خافت ه البيوت/ محمل ع ضهرو الغيم/ وجايب سبع تلجات/ جايب معو زبيب وسهر/ وشو طوال ه الحكايات/ … وبالموقدي رماد الحكي/ ولهتات ه الوأدات/ وناس بتنوعس/ ع عنين ه الفحمات.)

شعر د. محمد حمود، إنما يعكس مرارة لا تفارق قلبه. لا تفارق وجدانه. إنه نوع من الشعور بالمرارة المروضة، التي يمضغها، ويجعلنا نتقبلها عن طيب خاطر. إحساس، نشعر به في كل خطوة يخطوها في القصيدة. فترى الأسى، وقد حط بين يديه، كطائر السعد. فيجعلنا نننتظر بعد القصيدة ما بعدها بكل شغف. نستمع إليه يقول في “الكون -ص79”:
( ه الكون كاين قبل م يكون/ قصيدة شعر/ ب ديوان القدر/ وأول م القادر امر/ وقلو كون/ نقطو بالشمس تريا للدني/ بتوج متل منقل جمر.)

تجربة د. محمد حمود، في ديوانه المؤسس لشاعريته العفوية، إنما ينضح من بئر التجربة الشعرية الشديدة الخصوصية. بل من بئر تجربته الفردانية، الممغنطة على عوالمه الداخلية أولا بأول، وربما على عوالم شعرية أخرى تلامس الشعرية الجماعية، في نطقها بحنان الناس وآلامهم. نستمع إليه يقول في” الف ملويي- ص92″:
قالوا رماني الهوا والطقس شتويي/ ومن يومها تغيرت/ وما عدت أنا هيي.)

لكأن الشاعر د. محمد حمود، يأتينا من المكان غير المتوقع. أو ربما خارج المكان الذي يعيش فيه اليوم. بل خارج ساعته. ساعة يده التي، يخبئ في عقاربها الثواني الثقيلة، المعتقة بالزمن الأولاني الطفولي المحبوب. نستمع إليه يقول في “كرسي الدني- ص107”:
علوا يمي بتتركيني/ مخبا برحمك/ وما تعدي شهور/ سمعان صوت رصاص/ ه الموت صار عراس/ ومن هون شايف سهل/ مزروع شتل قبور.)

في ديوانه ال” المضى”، تحضر صيغة الغائب عند د. محمد حمود. فكلما ترآت له الذكريات الريفية، يعود لجمعة في أحضان بيته القديم. وفي أحضان قريته. وعلى دروب الحقول، وفي الساحات الثقيلة بالشمس وبالمطر وبالثلج وبالصقيع. فنراه يضمنها كل صيغةحرارة إيمانه القديم. أو صيغة حاضره المتراجع عن الزمن القبيح، إلى الزمن الجميل. نستمع إليه يقول في “زمان العتم- ص104”:
( قلوا القمر لليل/ شفلك حدا يضويك/ ما عاد فيي حيل/ ضوي ت يصحى الديك.)

د. محمد حمود، يترك بين قصائده المحملة بالغيوم البيضاء، بل في قلب كل يأس، كوة للأمل. وهي أشبه بنجمة ضئيلة. فيحملها إلى منازل أهله الماضين، ليوقظهم على يوم جديد. نستمع إليه يقول في ” حص ملح وداب- ص112″:
(مارق بحي العمر/ شميت ريحة طين/ غليت بحالي/ ورجعت غمر سنين.)

لا قصائد عابرة للأزمنة عند د. محمد حمود، دون سر. إنه يخصص لنا من حياته الماضية غيمة سوداء عبرت في أفق حياته، فيجعل منها “غيمة بيضاء” للآتين من بعده، وإن طالت بهم الأعوام والدهور والسنون. نستمع إليه يقول في “وقية عمر- ص101”:
يا عمر/ يا رمشة عين/ بعيون الدهر/ يا نقطة شتي داخت/ وقعت بعرض البحر…).

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى