المقالات

خصوصية لبنان – كتب: د. قصي الحسين

للبنان خصوصية تاريخية. نشات معه، ونشأ عليها. لا أحد يقرأ عنه، إلا ويقف بين السطور على ملامحها. وربما وجد المتتبعون لها، فصولا في كتب، وربما وجدوا أيضا كتبا مفردة. وبحوثا مفردة ونظريات مفردة، عن هذة الخصوصية اللبنانية، التي هي سمته وشيمته بين البلدان، في الإقليم، وفي العالم القديم والحديث.
لا أنفي أنه لبعض البلدان الأخرى، خصوصية أو خصوصيات، تجدها في عناوين حياتها الكبرى والصغرى. ولكن هذة الخصوصيات، غيرها إلى خصوصية لبنان.
أردت أن أشير إلى ذلك، حتى أقول، أن خصوصية البلد، شأن خاص به، بطريقة الصياغة، وأسلوب التميز، ومناهج الحياة والعيش والتكوين. وهذا كله، لم يكن عائقا له، عن التواصل، وعن الإنصراف إلى حياته اليومية والوطنية مع الآخرين.
أما خصوصية لبنان، فهي غير ذلك. لأنها تصدر عن جغرافيا وعن تاريخ، وعن جيوسياسية بمذاق خاص.
خصوصية لبنان عميقة في التاريخ. رافقته منذ ظهوره، فما إنقطعت عنه يوما، ولا إنقطع عنها. هي وجهه الذي يعرف به بين البلدان، متى تحدثوا عنه. ولو ما أحسنوا الشرح. ولو ما وقفوا على حروفها.
وأنا واحد من هؤلاء الذين لا يحسنون شرح خصوصية لبنان، ولو كنت أجدها يوميا تقرع الآذان.
أنا لا أتحدث عن تفاصيل هذة الخصوصية، ولكنني أقاربها، بما أشعر به، حين تجري على الألسن وتتداولها الأسماع.
أفضل أن أقول، أن هناك أمورا كثيرة، لا نستطيع شرحها، ولو كنا نلهج بها، وتتداولها أسماعنا بإستمرار.
خصوصية لبنان، كما أقاربها، من خصوصية الكيان. ظهر في أول التاريخ، حاملا بصمة جينولوجية مختلفة عن الإقليم. هو في قلب الإقليم، لكنه بطعم لبنان. هو جزء من الإقليم، ولكنه، بخصوصية مختلفة عن سائر خصوصيات الإقليم والأقاليم.
أصعب ما فيه، أنه لا ينقطع عن الإقليم، وأنه بالمماثل، لا ينضم ولا يندرج ولا يدمج في إقليم.
وصفوه ذات تسوية، بعد طول تفكير، أنه ذو وجه عربي. أما أنا فأضيف: لبنان ذو وجه سوري. لبنان ذو وجه فلسطيني. لبنان كلبنان، ذو وجه عربي.
ذكره إبن بلدة الفريكة، الرحالة أمين الريحاني، أنه بوجه مغربي، حين تحدث عن هذا الشاطئ الأسيوي الإفريقي. وذكره آخرون أنه يشبه الأردن. وذكره علماء آخرون، أنه يشبه أوغاريت. وأنه وجه دمشق. وأنه يشبه قرطاجة، وأنه يشبه الإسكندرية. وقال الرئيس للرئيس،عام الوحدة العربية: لبنان له خصوصية. حافظوا عليها. لا تنسوا وصيتي. أوصيكم بها. اوصيكم بلبنان.
تحدث هؤلاء عن الناس، ولم يتحدثوا عن البلد. لم يتحدثوا عن الوطن.
تحدثوا عن الساحل. ولم يتحدثوا عن الجبل.
لبنان خصوصيته، من خصوصية الجبل وساحل هذا الجبل، قصر أم طال هذا الساحل لا فرق.
ربما إتصل لبنان بداخل عميق، أو بساحل بعيد، ولكن لبنان: هذا الجبل وهذا الساحل الذي يغسل أقدامه، من الفجر إلى الفجر.
بالنقاط: لبنان تاريخ متميز، غارق في القدم. جعل له خصوصية القدامة في الإقليم. إختص بها عن غيره. ووهبته صفة الجبل البكر، ومنحته طبيعة الإبن البكر. وهذا أمر من حظه، لا من حظوظ غيره. فما بالكم إذا أضافت إليه يد الباري، كل هذا التميز في الجمال، عن سائر الجبال.
بالنقاط أيضا: دمغ لبنان بهذة البصمة، كل من إنضم إلى صدره، ونفح فيه من روحه. فصار اللبناني يطالب بالخصوصية، أكثر مما يرى جبله عليها. اللبناني سبق الجبل بخصوصيته. وهذا مكمن علته.
يتعالى اللبناني أكثر من لبنان، كما يتعالى الولد أكثر من والده. كأنه يعلق على كيميائه، كما يعلق على خط الكهرباء. طمعا في إستدرار الطاقة لنفسه.
رحل اللبناني وراء كل حروب الإقليم ووراء كل حروب العالم، تماما كما ترحل عواصف الجبل ورياحه وغيومه، إلى جواره الإقليمي، وإلى سائر الأقاليم.
حمل اللبناني تميزه وخصوصيته على ظهره، أينما حل وإرتحل، كما حمل الجبل خصوصيته وإرتفع بها بين سائر الجبال.
لبنان: من حرمون وجبل الشيخ، إلى سفوح الشوف وضهر البيدر، إلى صنين وأعالي بسكنتا، إلى ضهر القضيب وجبل المكمل والقرنة السوداء وعكار والقموعة وأكروم، نسيج خصوصية واحدة. وليسأل عنها السائلون في الأرض.
خصوصية لبنان، أنه لا يقبل الذوبان، مهما أشتدت عليه المحن، ومهما غرق في الإحن.
لم يتعود شعبه الخضوع لإرادات الدول الماضية. وهو عصي عن الإذعان لرياح الدول القادمة.
يسير إلى الحرب كجبل، ويفاوض كجبل، ويستريح كجبل، ويرفض إلا أن يكون نسر الجبل. ولا يكون فأر جبل.
مع نشأة الدول وهبوب ريحها عليه، أنشأ إمارته/ دولته، في حدوده. في كيانه الجغرافي الصلد. جبل شمالي، وجبل جنوبي. وصنع في الجبال بيوتا: دورا وقصورا، للإمارة النافذة في الأرض.
علق للغزاة تذكارات على صخوره، في حرمون، ونهر الكلب وأكروم، حتى لا ينساهم وهو في الطريق إلى التاريخ.
نسج ممالكه عيونا على البحر، ورصدت نسوره قنن الجبال، ونشر أرزه، رايات رايات، ثم غفا على كتف التاريخ، قلبه مفتح، كما يغفو الأنبياء.
خصوصية لبنان، جزء لا يتجزأ من الكيان. يضم أهل الأرض إلى صدره، ولا ينضم إلى غيره، لأنه هو صدر الأرض.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى